الموت أثناء الاستجواب شبهة وخلال التعذيب جريمة


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تستوقفني دائماً حوادث "الوفاة" داخل السجون الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وأشعر بالكثير من الحزن والأسى لوقوعها، وهي للأسف باتت حوادث كثيرة ومتكررة ومحزنة ومؤلمة، ومثيرة للسؤال والاستغراب، وغالباً تطال الموقوفين أثناء التحقيق، وتحديداً خلال الأيام الأولى لتوقيفهم، وأحياناً بعد ساعاتٍ قليلة من دخولهم السجن، وقَلَّ أن تحدث وفيات بين المحكومين الذين تجاوزوا مراحل التحقيق والاستجواب.
 
إلا أنني –وغيري كثير- لا أصدق التقارير الصادرة عن الجهات الرسمية في المنطقتين، أو أشكك في صدقيتها وموضوعيتها ومهنيتها، ولا أقبل بها ولا أسلم بمبرراتها، حيث تتشابه التقارير الطبية التي تصدرها جهات الاختصاص الصحية، التي تعزو الوفاة غالباً إلى تعرض الموقوف لأزمةٍ قلبيةٍ مفاجئة، نتيجة انسداد شريانٍ أدى إلى توقف القلب، أو نتيجة لجلطة دماغية أو ذبحة قلبية، وغير ذلك من أسباب "الوفاة" المفاجئة، التي تشخصها اللجان الطبية وتصادق عليها وزارة الصحة، وتعتمدها السلطات الرسمية، الأمنية والسياسية.
 
كما أنكر على الجهات الرسمية مطالبتها وإلزامها أهل "المتوفى" خاصةً والشعب عامةً وهيئات حقوق الإنسان، واللجان والمؤسسات الحقوقية، بتصديق الرواية الرسمية الصادرة عن هيئاتها المختصة، واعتماد نتائجها وتعميمها وعدم التشكيك بها، وتستنكر إدانتها وتوجيه اللوم لها، وتعيب على من ينتقدها ويعارض فعلها، وترفض أن توجه أي اتهاماتٍ لها أو لعناصرها الأمنية التي أوقفت المتهم، أو لضباط التحقيق الذين أشرفوا على الاستجواب والتحقيق، أو للجهات الإدارية المشرفة على مراكز التوقيف ورعاية الموقوفين وحمايتهم.
 
لعله من الخطأ الجسيم السكوت على مثل هذه الحوادث، والقبول بها والتسليم بعفويتها، أو المساهمة في تضليل الناس وطمس الحقائق وإخفاء المعلومات عنهم، والتعمية على المتسببين بها والتستر عليهم وإعلان براءتهم، سواء كانوا عامدين وقاصدين، أو حدثت الوفاة قدراً خلال التوقيف، بل أرى أنه من الواجب علينا أن نسلط الضوء عليها إقراراً للعدالة، وصوناً للحقوق، وحفظاً لكرامة مواطنينا، وحماية للمقاومة، ومنعاً للتغول، ومحاربةً للظلم، وكفاً للظالم، وضرباً على أيدي المتجاوزين للقوانين والمعتدين على كرامات الناس وحقوقهم، وإلا فإن الكثير من هذه الحوادث ستتكرر، وستترك آثاراً كبيرةً على وحدة مجتمعاتنا وتماسكها، وستقود إلى تمزيق صفوفنا، وضعف حاضنتنا، وتخلي الكثير عن مقاومتنا.
 
فنحن جميعاً نعيب على العدو الإسرائيلي، الذي يحتل أرضنا ويغتصب حقوقنا ويدنس مقدساتنا ويعتدي علينا ليل نهار، إقدامه على قتل أسرانا وإعدامهم بوسائل شتى، ونتهمه بتعمد قتلهم أو الإهمال في علاجهم ومتابعة حالتهم الصحية مما يؤدي إلى وفاتهم، أو المبالغة في تعذيبهم والتضييق عليهم، وندين استخدامه وسائل خشنة وقاسية خلال عمليات التحقيق معهم، ونحمله والمجتمع الدولي كامل المسؤولية عن حياة أسرانا وصحة معتقلينا، ونعتبر أن ما يمارسه بحقهم جريمةً ضد الإنسانية، ينبغي أن يحاسب ويعاقب عليها.
 
مما لا شك فيه أنني لا أقارن بين الحالتين، ولا أدعي التشابه بينهما، فالفرق كبيرٌ جداً والمقارنة بينهما باطلة وفاسدة، فذاك عدو نتوقع منه دوماً الأسوأ والأقسى، ولا ننتظر منه مودةً ولا رحمةً، ولا يفرق في عدوانه ضدنا بين فلسطينيٍ وآخر، بل كل الفلسطينيين هم أعداؤه، أياً كان انتماؤهم وولاؤهم، وهو يتعمد المبالغة في تعذيب الأسرى والمعتقلين عموماً، ولا يعنيه أبداً إن هم قتلوا جراء التعذيب وأثناء التحقيق، أو نتيجة الإهمال الطبي والمعاناة من الأمراض المستعصية.
 
لكننا نعيب وبشدة على السلطات الفلسطينية، التي تدير شؤون الناس وتعنى بهموم المواطنين، وتقود الشعب وتنظم شؤونه وتدعي المسؤولية عنه، قبولها بمثل هذه الحوادث التي لا يراها الشعب عادية، ولا ينظر إليها على أنها طبيعية، ونستنكر استخفافها بالعقول وتبسيطها للحوادث، فحالات الوفاة في أغلبها ليست عادية أو نتيجةً لأسباب طبيعية، بل هي قطعاً نتيجة التعذيب الشديد والضرب العنيف، وقد ثبت أن بعض الموقوفين قد توفوا نتيجة ضربهم بعتلاتٍ حديدةٍ وبسلاسل معدنيةٍ ثقيلةٍ، وبسياطٍ مغلظةٍ، فضلاً عن الضرب بالعصي والهراوات والأدوات الحادة، التي تصيب مناطق حساسة من الجسد في الرأس والصدر والبطن، ما يؤدي إلى حدوث حالات وفاة سريعة.
 
أمام هذه الوقائع المتكررة والحقائق الثابتة، نرى أن على السلطات الحاكمة، وهم أولياء الأمر، أن تقف عند مسؤولياتها، وأن تكون أمينة على حياة شعبها ومصالح أبنائها، وأن تضبط بقوةٍ وحزمٍ أداء الشرطة وعمل الأجهزة الأمنية، وأن تعاقب المتجاوزين، وتحاسب المخالفين، وأن تخضع العاملين في قطاع السجون ومراكز التحقيق والاستجواب إلى دوراتٍ خاصةٍ، تؤهلهم فيها إنسانياً بنفس القدر الذي تؤهلهم فيها مهنياً، وأن تلجأ في عمليات التحقيق إلى وسائل أخرى، دقيقة وحازمة ومضبوطة، تتوخى من خلالها الوصول إلى الحقيقة، في الوقت الذي تحفظ فيه كرامة الإنسان، وتصون حياته، وتحفظ سمعة وشرف وماء وجه أهله.
 
وعلى السلطات الحاكمة أيضاً أن تسهل عمل لجان الرقابة والتفتيش، وأن تسمح للجان حقوق الإنسان والمؤسسات المدنية، بإجراء تحقيقاتٍ مستقلة، وتوجيه مساءلة قانونية للمتورطين في مثل هذه الحوادث، وينبغي عليها  ألا تكون لينة أو متساهلة مع كل من يتجاوز القانون، أو يفرط في استخدام القوة، أو يلجأ إلى ممارسة التعذيب الشديد، فبعض المسؤولين مهوسون أمنياً ومرضى سيكولوجياً، ويظنون أنهم يحققون مع عدوٍ، ويستجوبون جواسيس وعملاء، مع التأكيد على مبدأ المهنية في التحقيق، والعدالة في الإجراءات، والإنسانية في التعامل مع أي موقوفٍ أياً كانت تهمته وجريمته، إلى أن يحال إلى المحكمة التي يؤمل فيها أن تصدر في حقه الحكم المناسب والجزاء العادل.
 
إلا نقوم بذلك ونحرص على الحق والعدل، والمساواة والإنصاف، ومحاسبة المخطئين ومعاقبة المتورطين، وإقصاء الفاسدين، وإبعاد المرضى والمهوسين، فإننا نغضب الله عز وجل ونستحل لعنته، ونخسر شعبنا، ونفقد حاضنتنا، ونضعف قاعدتنا، ونفض الناس من حولنا، ونؤسس للحاقدين علينا والكارهين لنا، ونمكن للعدو فينا، فنحن أقوياء بطاعتنا لله عز وجل وصدقنا معه سبحانه وتعالى، وبعدالة قضيتنا، وقدسية بلادنا، وطهر مقاومتنا، ووحدة شعبنا، وصفاء نفوسنا، وتواضعنا لبعضنا، وذلتنا فيما بيننا وعزتنا على عدونا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق