أخر المواضيع

خلافات المستويّين السياسي والعسكري الإسرائيليين... اتساع الفتق على الراتق!


محمد هلسة

يشعر نتنياهو اليوم بخيبة أمل لأن "الجيش" يدفع باتجاه صفقة لتبادل أسرى وإنهاء الحرب حتى لو بثمن بقاء حماس في السلطة، فهل تجرّه مواقف المؤسسة العسكرية المنقلبة عليه وعلى سرديته من الحرب، إلى قبول الصفقة ووقف الحرب مُكرهاً؟
لافتاً كان التقرير الذي انفردت به صحيفة "نيويورك تايمز" حول اتساع الخلافات بين المستويين العسكري والسياسي الإسرائيليين. فقد تحدثت الصحيفة عن رغبة "الجيش" الإسرائيلي في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار حتى لو بقيت حماس في السلطة في الوقت الحالي. ووفق الصحيفة، فإن مبرّرات "الجيش" هي نقص التسليح وانعدام الحافز، والخوف من صراع واسع النطاق مع حزب الله في الشمال. 
فالقيادة العسكرية "تخشى حرباً مفتوحة، وترى أنه من غير الممكن تحقيق هزيمة حماس وعودة الأسرى في الوقت ذاته". يعكس موقف كبار المسؤولين في "جيش" الاحتلال اتساعاً في هوة الخلاف بينهم وبين نتنياهو، الذي يرفض بشكل قاطع إنهاء الحرب. وتُبيّن الخلافات كيف اختلط صراع ذو أبعاد شخصية بإدارة الحرب، التي يسعى نتنياهو في إطارها إلى النأي بنفسه عن فشل الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتحويل نار الاتهامات نحو المؤسسة الأمنية. 
وفي الجهة الأخرى فإن نتنياهو وزمرته مقتنعون بأن المؤسسة الأمنية و"الجيش" الإسرائيلي حصراً، يسعى لنفي المسؤولية عن نفسه، بل هو متورّط، وفق نتنياهو، في تسريبات تهدف إلى إلقاء مسؤولية الفشل على كاهل المستوى السياسي، ومحاولة فعل كل شيء ليزيل هذه الوصمة عن جنوده وقادته.
والواقع أن المُتتبّع لتحوّلات مواقف المؤسسة العسكرية "المتراجعة" من الحرب يستطيع الإشارة الى أربع محطات حكمت علاقة المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين على امتداد شهور هذه الحرب التسعة: 
المحطة الأولى، في الأيام القليلة الأولى من الحرب، والتي اتسمت بالتماهي شبه الكامل مع المستوى السياسي في الموقف من الحرب وإمكان تحقيق أهدافها التي وضعها المستوى السياسي. ووفق مصادر إسرائيلية "فإن النقاشات جرت في بداية الحرب بمنتهى الجدية، وكان كل شيء يُدار "وفق الأصول" بحذر وبطريقة واقعية للغاية"، "لقد استمعوا إلى الجيش، وتركوا الضباط يتحدثون، وساد شعور حقيقي بالمصير المشترك، وبأننا نقاتل الآن من أجل الوطن". 
في بداية الحرب، ووفق مسؤول في "الجيش"، "جلس غالانت وهيرتسي هليفي ونتنياهو معاً وقالوا إن العلاقة بينهم هي التي ستحدّد نجاح الحرب، ورأى غالانت أن هذه روح إيجابية للغاية واعتقد بقوة أن الوقت قد حان لتشابك الأيدي". لكن تصريح نتنياهو بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، في 28 تشرين الأول/أكتوبر، عندما غرّد في الساعات الأولى من الليل قائلاً: "خلافاً للادعاءات الكاذبة لم يتمّ تحذير رئيس الوزراء نتنياهو في أي مرحلة حول نوايا الحرب من جانب حماس"، دفعت غالانت إلى الذعر، وأدرك أن نتنياهو لا ينوي التعاون مع "الجيش". 
المحطة الثانية، والتي اتسمت ببدء التشكيك في إمكانية تحقيق أهداف الحرب وفق ما حدّدها المستوى السياسي. ووفق مصادر "جيش" الاحتلال، ظن "الجيش" مع الشهور الأولى للحرب، أنه يمكن تحقيق هدفي الحرب الرئيسيين اللذين وضعهما المستوى السياسي، في الوقت نفسه؛ أي هزيمة المقاومة واستعادة الأسرى. لكن هذا الاستنتاج بدأت تشوبه الشكوك لدى القيادة العسكرية العليا التي توصّلت لاحقاً إلى استنتاج مفاده أنّ كلا الأمرين لا يمكن تحقيقهما معاً. 
المحطة الثالثة، تمثّلت في الرسالة التي بعثتها قيادة "الجيش" إلى المستوى السياسي مطالبة "بعدم التخوّف من إنهاء الحرب من أجل استعادة المختطفين". إذ يعتقد كبار مسؤولي "جيش" الاحتلال، بحسب ما جاء في تقرير صحيفة "نيويورك تايمز"، "أن وقف إطلاق النار سيكون أفضل وسيلة لتحرير 120 مختطفاً ما زالوا في الأسر، أحياء وأمواتاً". 
أما محطة التحوّل الرابعة، فهي موقف "الجيش" الذي ورد في تقرير "نيويورك تايمز" والداعي إلى إمكان وقف الحرب والإفراج عن الأسرى ولو بثمن بقاء حماس في السلطة، إذ يبدو لكبار ضباط "جيش" الاحتلال أن إبقاء حماس في السلطة في الوقت الحاضر مقابل استعادة الأسرى هو الخيار الأقل سوءاً بالنسبة لـ "إسرائيل". يمكن، بالتأكيد، العثور على تلميحات عن الإحباط في "الجيش" في تصريحات بعض كبار مسؤوليه، مثل المتحدث باسمه العميد دانييل هاغاري الذي قال "بأن حماس فكرة ولا يمكن تدميرها وأن الحديث عن القضاء على حماس، هو ذر للرماد في عيون الجمهور". 
كما أن رئيس الأركان هاليفي سُمع مؤخّراً وهو يحاول تأكيد نجاحات "الجيش" الإسرائيلي في الحرب في غزة، والتي رأى فيها العديد من المتابعين في الأوساط الإسرائيلية محاولة لخلق مبرّر لإنهاء الحرب بطريقة مُشرّفة. الأمر ذاته ذهب إليه الصحافي الإسرائيلي اليؤور ليفي الذي استنتج أن "الجيش الإسرائيلي يبالغ في روايته عن تفكيك وتدمير كتائب حماس في رفح، رغم إعلانه أنه يقترب من إعلان هزيمة الحركة فيها؛ في الواقع الكتائب لم يتمّ تفكيكها وكفاءتها ما زالت حاضرة".
ورغم أن "جيش" الاحتلال برّر هذا التراجع في موقفه من الحرب بتقدير كبار قادته بأن "قواتهم تحتاج إلى وقت كافٍ للتعافي والتزوّد بالذخائر في حال اندلاع حربٍ مع حزب الله، كما أن وقف إطلاق النار مع حماس قد يسهّل التوصّل إلى اتفاقٍ ما في الشمال"، إلا أن واقع الأمر يشير إلى أن اتساع حدة الشرخ بين "الجيش" ونتنياهو وحكومته عائد إلى الأسباب الآتية: 
الأول، هو الحرب الطاحنة التي يشنّها اليمين المتطرّف لسحق المؤسسة العسكرية وقيادتها ونزع الشرعية وهالة القداسة التي ظلت تحيط بها في المجتمع الإسرائيلي، وذلك كمقدّمة لإحكام السيطرة على "الجيش" ومنعه من معارضة أجندة اليمن ونزواته تجاه الداخل الإسرائيلي وتجاه الفلسطينيين، ومنعه كذلك من معارضة فكرة إعادة احتلال القطاع واستيطانه التي يطرحها اليمين القومي المتطرف في حكومة نتنياهو.
زد على ذلك رغبة المستوى السياسي في تحميل "الجيش" مسؤولية الفشل في التنبّؤ بأحداث السابع من أكتوبر ومنعها، وتحميله مسؤولية فشل حسم المعركة مع المقاومة حتى اللحظة. هذا الصراع، فيما يتعلق بدرجة المسؤولية عن الفشل وطريقة إدارة الحرب، امتد منذ فترة طويلة خارج الغرف المغلقة في مجلس وزراء الاحتلال، حتى تغلغل في الميدان وبلغ ذروته، عندما نشر جندي الاحتياط والناشط في حزب الليكود أوفير لوزون شريط فيديو يهدّد فيه بتمرّد في "الجيش" الإسرائيلي ضدّ "الجيش" ووزير الحرب غالانت، متعهّداً بالانصياع "لرئيس الوزراء فقط". 
السبب الثاني، هو قناعة المستوى العسكري أنه يخوض حرب مراوحة لا طائل منها، وبأنه يُضحّى به ويُقدّم ككبش فداء لمصلحة استدامة حكم نتنياهو واليمين المتطرف، حيث يدفع الأثمان الأكثر تكلفة في هذه الحرب من ضباطه وجنوده وعتاده. وقد أشارت صحيفة "التايمز" في تقريرها إلى "العبء المتزايد على جنود الاحتياط، الذين تم بالفعل استدعاء بعضهم للمرة الثالثة للخدمة، وأن هناك الآن عدداً أقل من جنود الاحتياط الذين يستجيبون لدعوات الالتحاق بـ "الجيش"، وأنّ هناك أيضاً "أزمة ثقة" بين الضباط والقيادة العسكرية. 
قناة كان العبرية أشارت هي الأخرى قبل يومين إلى "أن قادة الفرق الأربع التي تقاتل في قطاع غزة أكدوا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ضرورة الأخذ في الاعتبار أن حالة من الإرهاق والإحباط بدأت تظهر على جنود الجيش بعد تسعة شهور من الحرب".
السبب الثالث، والأهم، أن قيادة "الجيش" ترى أنها الأقدر على تقدير طبيعة واقع القتال كما هو بعيداً عن شعارات نتنياهو الشعبوية وأهدافه الهُلامية التي يستمر في بثّها للشارع الإسرائيلي. وكأن "جيش" الاحتلال يريد الإقرار بفشله في الحرب دون الإعلان عن ذلك صراحة. 
فموقف المؤسسة العسكرية القائل اليوم بإمكان وقف الحرب ولو بثمن بقاء حماس في السلطة، هو اعتراف صريح، على ألسنة الذين يخوضون المواجهة مع المقاومة ويدركون حقيقة الميدان، بتعذّر القضاء على المقاومة في الجانب العسكري، أو إنهائها كمنظومة تحكّم وسيطرة في القطاع بعد تسعة أشهر من الحرب الطاحنة التي تشنّها "إسرائيل" بكل ما أوتيت من قوة على القطاع، وهو نسف كامل لسردية الحرب التي ما زال نتنياهو يلوّح بها. 
ولعل ما نقله بعض المقرّبين من نتنياهو، من أنه يستعين بمستشارين عسكريين من خارج دائرة "الجيش" ووزارة حرب الاحتلال لتزويده ببدائل لتوصيات المؤسستين الأمنية والعسكرية، ما يشي بعمق أزمة الثقة القائمة بين الطرفين. وهؤلاء المستشارون، وفق المصدر، في غالبيتهم على الجانب الأيمن من الخريطة السياسية. 
والأهم من ذلك أن موقفهم تجاه قضية "اليوم التالي" للحرب وقضية صفقة الأسرى، هو إلى حد كبير مخالف لنهج "الجيش" الإسرائيلي، بل إنهم أي هؤلاء المستشارين يعرضون على نتنياهو نهجاً أكثر عدوانية وتشدّداً مما هو معتاد في "الجيش" الإسرائيلي فيما يخص قطاع غزة، حيث أوضحوا له أنه "من أجل استبدال حكم حماس لن يكون هناك مفر من فترة من "الفوضى المؤقتة" في القطاع، وبعدها فقط تنهار حماس ونخلق بديلاً عنها لحكم القطاع". 
كما أنهم نصحوا نتنياهو بعدم الموافقة على اتفاق مع حماس يتضمّن مطلب وقف الحرب. وهذا يفسّر واحداً من أسباب عدم تبنّي نتنياهو لبعض توصيات "الجيش"، حيث الشكّ والعداء والجفاء هو سيد الموقف في العلاقة بين كل أولئك الذين يديرون الحرب، وهي الهوة القائمة ذاتها أيضاً بين نتنياهو ووزير حربه، غالانت، إذ نادراً ما التقيا وجهاً لوجه على مدار أشهر.  
وفي المحصّلة يخوض نتنياهو هذه الحرب ويجد نفسه اليوم وحيداً معزولاً إلى حد كبير في رأس النظام السياسي، محروماً من الخبراء العسكريين والأمنيين، فلا "الجيش" ولا وزير دفاعه يتفقان معه في وجهة نظره من الحرب، وهذه العلاقة الغامضة المتناقضة بين نتنياهو والمؤسسة الأمنية تمثّل التحدي الأكبر الذي يواجهه في إدارة الحرب.
يشعر نتنياهو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بخيبة أمل لأن "الجيش" يدفع باتجاه صفقة لتبادل أسرى وإنهاء الحرب علانية حتى لو بثمن بقاء حماس في السلطة، فهل تجرّه مواقف المؤسسة العسكرية المنقلبة عليه وعلى سرديته من الحرب، إلى قبول الصفقة ووقف الحرب مُكرهاً، أم أننا سنشهد مزيداً من تعمّق الصراع بين الطرفين بحيث يتسع الفتق على الراتق.

نهاية الدولة المجنونة


محمد فرج

الجنون في الحروب الإسرائيلية، يمتلك جذوره التوراتية، لكن "إسرائيل" لم تدرك أن الجنون أيضاً يخضع لقوانين التراكم والتكيّف، وأنه أيضاً يصل إلى عتبات نهاية الصلاحية في لحظة نضج المشروع المقاوم في الجهة المقابلة. 
منذ نشأة كيان الاحتلال؛ قرّرت "إسرائيل" في علاقاتها الدولية اتباع منهج الصور المتنوّعة؛ أو "الصورة بحسب الطلب"؛ بمعنى أنها تصدّر صورة عن الذات للطرف الآخر توائم وتناسب سياستها مع هذا الطرف. بعد قرار التقسيم وما تبعه من مواجهات عام 1948، قدّمت "إسرائيل" نفسها للولايات المتحدة أنّها "الديمقراطية الوحيدة" في "محيط استبدادي"، وهذه "الديمقراطية الوحيدة الناشئة" بحاجة إلى الحماية تحت مظلة المنظومة الليبرالية التي تقودها الولايات المتحدة. وللمفارقة، في الوقت نفسه، قدّمت نفسها للاتحاد السوفياتي على أنها نموذج "الدولة الاشتراكية"، الذي يبحث عنه السوفيات في المنطقة لتعميمه، وعرضت عليه نماذج عملها في الكيبوتسات، وسارعت إلى عرض الهستدروت كنموذج نقابي لحماية العمال والفلاحين.
أرادت "إسرائيل" قطع الطريق على أيّ تحالف ناشئ بين الاتحاد السوفياتي ودول المنطقة، التي أعلنت عن تبنّيها الاشتراكية في ميدان الاقتصاد (البعث في سوريا والعراق، عبد الناصر في مصر). 
عملت "إسرائيل" على أن تبقى أوروبا أسيرة "عقدة الذنب"، واستمرّت (أي "إسرائيل") في تصدير "المظلومية" واستذكار "المحرقة"، وفي كل مرة كانت أوروبا "ملزمة" في تعويض الاحتلال عن "الجريمة" التاريخية، التي انطوت على ملابسات كثيرة تُغيّر حقيقتها التي تريد "إسرائيل" تصديرها، والتي يمكن الحديث عنها في مناسبات أخرى. هذا التعويض يأخذ أشكالاً عديدة في التصدّي الأوروبي المستميت لـ "معاداة السامية"، وفي نقل السلاح لإنتاج محرقة حقيقية في مكان آخر في العالم (نُقلت أولى الشحنات من سفن ساعر تحت هذا المنطق من ألمانيا إلى الاحتلال). 
عندما وُضعت أفريقيا على طاولة البحث الإسرائيلي لتطبيع العلاقات، تحديداً بعد اتفاقية كامب ديفيد، حاولت مراكز الأبحاث الإسرائيلية نسج محاكاة مُختلّة تاريخياً، أن الهجرات المتتابعة في التاريخ الأفريقي، وعلى يد الاستعمار الأبيض هي النظير الموضوعي لـ "الخروج اليهودي"، وأنّ الشتات الأفريقي هو الصورة المقابلة لـ "الشتات اليهودي"!
وإذا كانت هذه الصور قد وزّعتها "إسرائيل" على هذه الأطراف، فالصورة التي حاولت زراعتها في ذهن الفلسطينيين وشعوب المنطقة، العربية والإسلامية، كانت مختلفة؛ أنّها "دولة مجنونة"! وبحسب تعبير موشي دايان، أنها كلب مسعور، ينهش ويقتل، وسريع الانفعال والغضب، ولا يمكن الاقتراب منه. ومعايير هذا الجنون هي:
1. لا ضوابط في أشكال القتل التي تستخدمها "إسرائيل".  
2. الفعل المحدود من طرف معادٍ، يكون الردّ عليه بالتدمير الكلّاني (collateral damage)، ومباشرة. لذلك يجب على الأطراف الأخرى الاكتفاء بوسائل الدفاع المحدودة، ولجم الخيال عن أي مبادرة "تتخطى الحدود". 
3. فارق الخسائر في أي مواجهة يجب أن يكون هائلاً.
مع أن الكثير من أدبيات السياسة ترجع "عقيدة الجنون" إلى موشي دايان، إلا أنها كانت ممارسة عملية مستمرة على طول الخط في تاريخ هذا الكيان، وكانت الأفعال الإجرامية للهاغاناه والأرغون في قرى فلسطينية تستهدف إخلاء القرى الفلسطينية الأخرى قبل الوصول إليها، وكانت حرب 1967 تهدف إلى لجم الجيوش العربية عن أي مبادرة قتالية مستقبلية (وهي الفكرة التي سيطرت على رأس غولدا مائير وحجبت عنها التنبّؤ بأكتوبر 1973). وكانت الأفعال الإجرامية ضد الانتفاضة الثانية، تهدف إلى الرّدع، وأن إصابة الإسرائيليين يجب أن تقابلها إصابة أكثر من 47 ألف فلسطيني، ناهيك عن الشهداء الذين تجاوزوا 4400 شهيد. وكان الردّ على أسر جنديين صهيونيين في تموز 2006 يقابل بقصف سريع للبنان. 
لكنّ الملاحظ في عقيدة الجنون هذه، أنها تفقد فعّاليتها مع الزمن، وبقوة؛ فالجنون الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية لم يكن فعّالاً، لإحداث فرق يشبه عام 1948، حتى كمّياً. والجنون الإسرائيلي في حرب تموز انتهى بهزيمة، وفضيحة كبرى لعدم فعّاليته في تحقيق أهداف الحرب. 
الجنون في الحروب الإسرائيلية، يمتلك جذوره التوراتية (مبدأ التحريم: أي إبادة الشعوب الأخرى)، ولكن "إسرائيل" لم تدرك أن الجنون أيضاً يخضع لقوانين التراكم والتكيّف، وأنه أيضاً يصل إلى عتبات نهاية الصلاحية في لحظة نضج المشروع المقاوم في الجهة المقابلة. 
تظهر ملامح جفاف الفعّالية للجنون الإسرائيلي في اتجاهين، الأول العجز عن استخدام أدوات التدمير الكلّاني قلقاً من رد الطرف الآخر، والثاني عدم قدرة هذا الجنون على تحقيق أهدافه، ومن ذلك:
1. على امتداد فترة القلق الإسرائيلي من المشروع النووي الإيراني، كانت "إسرائيل" تهدّد بالتصرّف لوحدها، وانتهت الصورة في نهاية المطاف في مشهدية القصف الإيراني لـ "إسرائيل" في ليلة المسيّرات والصواريخ في الرابع عشر من نيسان/أبريل، ومشاركة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في الدفاع عنها!
2. تنقلب صورة التهجير من القرى الفلسطينية، بفعل صيت جنون عصابات الهاغاناه، إلى هروب المستوطنين من غلاف غزة والشمال، بفعل جدّية التهديد الذي ثبّتته المقاومة.
3. مع أن الجنون الإسرائيلي ما زال يعمل في غزة، إلا أنه لم يحقّق أهدافه، لا على المستوى السياسي (القضاء على المقاومة)، ولا على المستوى الشعبي (التهجير مجدّداً). 
4. من دون التقليل من حجم التضحيات البطولية، إلا أن الفجوة في الخسائر المادية والمعنوية باتت أضيق من أي وقت مضى في تاريخ الصراع.
5. تستمر "إسرائيل" في تهديد لبنان بالعودة إلى الجنون، إلا أنها تستعيد "رشدها" في لحظة إعادة مشاهد الصور التي التقطها الهدهد، وتعود إلى الالتزام بمعادلات الميدان التي تفرضها المقاومة في لبنان. بالمناسبة، يبدو نهج اغتيال القادة للبعض أنه وسيلة فعّالة تستخدمها "إسرائيل" في ميدان المواجهة مع حزب الله، إلا أنها في الواقع الأسلوب البديل، والوحيد الممكن، عن العجز في استخدام الجنون!
6. تكسّر الجنون الإسرائيلي أمام الإصرار اليمني على استمرار العمليات، حتى مع وصول الأساطيل الغربية إلى البحر. وأمام الإصرار العراقي على الاستمرار في التصويب على الأهداف الحيوية والحساسة. 
7. كانت لحظة السابع من أكتوبر نهاية لـ "عصر الجنون"، وانفعال "كلب ديان" لم يمنع من مبادرة الهجوم الملحمي! 
لم يتوقّف جنون "إسرائيل" تماماً، إلا أنه بات ملجوماً وغير فعّال. ينطوي الجنون على الغرور، وكلاهما ينطوي على الإنكار، والإنكار الذي ما زال يعمل في عقل "إسرائيل"، سيجرّها، بالتكاتف مع عوامل أخرى طبعاً، إلى نهاية "الدولة المجنونة".

هل المقاومة في غزة بخير؟


عبد الرحمن نصار

يلاحَظ التراجع الكبير خلال الأشهر الأخيرة في مستوى عمليات الاغتيال وعددها على رغم الحضور الميداني المباشر للاحتلال في غزة، و"هذا ما يوجب على الإسرائيليين سؤال قيادتهم عنه... ثم سيعرفون هل المقاومة بخير أم لا؟".
يتكاثر الحديث الإسرائيلي، وحتى في الإعلام الغربي، استناداً إلى مصادر أمنية ورجال استخبارات سابقين، عن حقيقة الضرر الذي أصاب المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد نحو تسعة أشهر من الحرب، قياساً على الأقل بالأرقام التي كان يعلنها "جيش" الاحتلال بعد كل "مرحلة" من عمليته.

حتى الموفدون إلى بيروت كانوا يحاولون "جس النبض" من جهات لبنانية لمعرفة الوضع الحقيقي للمقاومة وعديدها وعتادها. في المقابل، كانت رسائل الطمأنة، داخل الفصائل الفلسطينية نفسها، أو بين هذه الفصائل وشركائها في "جبهة المقاومة"، كحزب الله وإيران وسوريا، تعطي مؤشرات مرتاحة.

مع ذلك، وعلى رغم محاولة المعنيين في الجبهة الأخرى التلصص حتى على فحوى رسائل الطمأنة، فإن أياً منهم لم يجد جواباً واضحاً وشافياً، وعهد هؤلاء إلى بعض المتخصصين بالمجالات الأمنية تقديمَ رواية مغايرة لما يقوله الجيش الإسرائيلي، على أن هذا لا يلغي أن بعضهم كان يتحدث بـ"مهنية".

أمام ما سبق، اتخذت المقاومة الفلسطينية جملة قرارات في بداية هذه الحرب، وقرارات أخرى بعد الهدنة الأولى - الوحيدة حالياً - في 11/2023، من أهمها:

· تجنب النفي أو التأكيد لأي رقم يعلنه الإسرائيليون بشأن الخسائر البشرية.

· تجنب النفي أو التأكيد لأي عملية اغتيال (يُستثنى من ذلك دفن قادة "لواء الشمال" خلال الهدنة).

· تأجيل نعي الشهداء - على غير العادة في الحروب السابقة - إلى ما بعد انتهاء الحرب.

· تجنب النفي أو التأكيد لصحة أي صورة أو معلومة عن أي قيادي في المقاومة.

· تجنب التعليق على قوائم الأسرى التي ينشرها الاحتلال، وخصوصاً في اقتحام "الشفاء" الثاني.

· الرد بالحرب الإعلامية والحرب النفسية على كل إنجاز يحاول الاحتلال تقديمه (النفق إلى "إيرز"، إخراج أسيرين من رفح، عملية النصيرات...).

· المحافظة على نشر البيانات العسكرية، بصورة ساعيّة ومفصّلة، عبر القنوات المعتمدة.

· مواصلة نشر توثيق العمليات بصورة يومية أو شبه يومية في أسوأ الأحوال، على نحو لا يضر أمن المقاومة (الاحتفاظ ببعض المشاهد إلى وقت آخر).

· تأكيد قدرة المقاومة على الاستمرار إلى ما لا نهاية في المواجهة، وتجنب الحديث عن مخزون السلاح.

· إعطاء إشارات إيجابية إلى استمرار عملية التصنيع للسلاح عبر التوثيق.

· إظهار الوحدة والتلاحم بين الفصائل، عبر العمليات المشتركة، وتوثيقها في البيانات والتصوير.

· نفي كل ما تورده الصحافة عن أي مراسلات داخلية بين القيادات السياسية والعسكرية.

ثمة قرارات أخرى تتحفظ مصادر في المقاومة عن ذكرها، لكنها في المجمل تؤكد أن التصور المتفق عليه بين الفصائل هو حرمان الاحتلال من صورة أي منجز يمكن أن يبني عليه.

وحتى لو حاول "الجيش" الإسرائيلي البناء على أي نتيجة ميدانية للقول إنه سجل خطوة في طريق تحقيق أهداف الحرب، فلا بد من ضربة سريعة تضيّع عليه دعاية الإنجاز.

المقاومة عملياً مرتاحة، لأن السقف الذي رفعه الإسرائيليون للحرب عالٍ جداً، ولا يمكن تحقيقه، والحديث هنا عن الهدفين الأساسيين: "تحرير الأسرى، وهزيمة حماس".

في الأول، حديث المقاومة قصير، وأقرّ به المتحدث باسم "جيش" الاحتلال، دانيال هغاري، عندما قال إنه لا يمكن إخراج كل الأسرى عبر عمليات، مثل ما جرى في النصيرات. ومع ذلك، كان هذا الحدث ليؤسس لمرحلة لاحقة لو أن الاحتلال استطاع إكمال هذا المسار سريعاً، عبر عمليات متتالية.

فيما يخص الهدف الثاني، بات الإقرار، إسرائيلياً وأميركياً، وكذلك غربياً، باستحالة تحقق هذا الهدف حديثاً شبه يومي، وفي مستويات سياسية وعسكرية، لكن ثمة ما قررت المقاومة الكشف عنه، عبر مجموعة تسريبات، خلال المدة الماضية، وكلها تدور حول تأكيد هذا المعطى.

في المعطى الأول، تؤكد المصادر أن عملية الاستقطاب للكوادر الجديدة للمقاتلين بدأت منذ أشهر، لكن هذا ليس عائداً إلى "تعويض الخسائر البشرية"، كما يدعي الاحتلال، بل لأن هناك إقبالاً حقيقياً من فئات كثيرة، وبينها من كان خارج الصراع خلال العقدين الماضيين، تحت الرغبة في الانتقام من الاحتلال.

ما فعله "الجيش" الإسرائيلي لم يكن أبداً استهدافاً لمقاتلي المقاومة أو عائلاتهم حصراً. حتى لو سلمنا بادعاء الاحتلال أن المقاومة تتخذ المدنيين دروعاً بشرية، فلا يمكن لهذا كله أن يفسر العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى (فوق 150 ألفاً)، وهذا ما يورّط "إسرائيل" في صراع طويل مع أجيال جديدة وفئات مجتمعية أوسع.

أما في جانب الخسائر البشرية، فلا تزال المقاومة تتحفظ عن الحديث عن أي أرقام حقيقية أو تقديرية، ولا تريد أن تقدم إلى الاحتلال أي نتيجة واضحة في هذا الشأن. وكما تقول المصادر نفسها: "نترك للأيام المقبلة أن تقول الحقيقة... بعد الحرب سينقشع الغبار وتخرج المفاجآت".

في المعطى الثاني، وهو ملف التصنيع، سبق أن نشرت عدة فصائل مقاطع لعمليات التصنيع على رغم الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي ومحدودية الوقود. لكن هذا التصنيع - كما تفيد المصادر - ليس من الصفر، أي ليس لتعويض ما استُخدِم حصراً، فهناك مناطق في القطاع لا تزال تمتلك مخزونها الكافي، في حين أن تقدير المقاومة لطول أمد المعركة يجعلها تقتصد في استخدام الذخيرة على نحو يكفي المهمات المطلوبة.

في شأن نوعية العمليات، وهذا المعطى الثالث، بات التركيز على إيقاع الخسائر بدرجة أُولى (الكمائن المركّبة، القذائف المضادة للأفراد، عمليات القنص)، وبدرجة ثانية منع القوات المتمركزة في محاور معينة من الراحة (القصف بالهاون والصواريخ قصيرة المدى لمحور نتساريم ومواقع القيادة والتحكم)، وبدرجة ثالثة (التصدي للاجتياحات، والرسائل الصاروخية في "غلاف غزة").

أما بشأن نمط العمل، فتقرر تقسيم الكتائب إلى كتائب صغيرة، والفصائل والسرايا إلى زمر صغيرة من 3-4 مقاتلين في كل زمرة، أي إن الحديث الإسرائيلي عن الكتائب، التي يفككها ويقضي عليها، فات عليه تاريخ صلاحيته، لأن الهيكلية كلها تغيرت منذ بدء اجتياح خان يونس، جنوبي قطاع غزة. كذلك، جرى استبدالٌ سريع للقيادات في الهيكلية العامة، وتعلمٌ سريع من الأخطاء، على رغم إقرار المقاومة بأن الاحتلال استخدم أساليب وتقنيات جديدة لم يستخدمها في حروب ومواجهات سابقة.

نقطة أخيرة تتحدث عنها المصادر، هي أن الإعلانات الإسرائيلية لعمليات الاغتيال انخفضت بصورة ملحوظة منذ بداية العام الجاري. وبعيداً عن التأكيد أو النفي لما سبق من إعلانات، يلاحَظ التراجع الكبير خلال الأشهر الأخيرة في مستوى عمليات الاغتيال وعددها على رغم الحضور الميداني المباشر للاحتلال، و"هذا ما يوجب على الإسرائيليين، وخصوصاً المحللين والخبراء العسكريين، سؤال قيادتهم عنه... ثم سيعرفون هل المقاومة بخير أم لا؟".