القوة التفاوضية الحالة الفلسطينية نموذجاً (2)

 


معتصم حمادة

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

في القسم الأول من هذه المقالة، تناولنا تجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي معتمداً سياسة الخيارات المفتوحة، من بينها خيار التفاوض، دون أن يكون هو الخيار الوحيد، فقد كان الرئيس عرفات يدرك أن المفاوضات إلى الطاولة هي، إلى حد كبير، انعكاس للواقع الميداني، لذلك كان يحرص على امتلاك قوة تفاوضية تمكنه من الوصول إلى المفاوضات، باعتبارها أحد الخيارات، وليست الخيار الوحيد، لتحقيق الهدف المنشود.

وهذا ما عبّر عنه، إيجاباً في أحيان كثيرة، وسلباً في بعض الأحيان، في مسيرته النضالية خاصة بعد أن انفتحت أمام المسألة الفلسطينية آفاق الحلول التفاوضية بدءاً من مؤتمر مدريد للسلام، وصولاً إلى مسار العقبة – شرم الشيخ، مروراً باتفاق أوسلو والتزاماته.

وقبل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الرئيس عرفات، من المهم أن نلفت الأنظار، إلى أن سياسته القائمة على الخيارات المفتوحة، خاصة بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، لقيت معارضة شديدة من بعض أطراف القيادة التي كان على رأسها عرفات.

فعارضت موقفه في مفاوضات كامب ديفيد 2، ومارست عليه ضغوطاً كي لا ينسحب من المفاوضات. كذلك عارضت موقف الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات طابا، التي انعقدت بعد كامب ديفيد 2، لبحث ما يسمى «معايير كلينتون» للحل، ورأت في طابا فرصة أضاعتها سياسة عرفات وتصلبه، والأمر نفسه بشأن مباحثاته مع الوزيرة الأميركية أولبرايت في السفارة الأميركية في باريس.

أما التطورات التي أحدثت عاصفة في الصف القيادي المحيط بالرئيس عرفات، آنذاك، فكانت تحميله مسؤولية تفجير الانتفاضة الثانية و«عسكرتها»، وبشكل خاص تشكيل «كتائب شهداء الأقصى»، دون علم اللجنة المركزية لحركة «فتح»، كما قيل آنذاك، و«تورطه» في استيراد السلاح سراً إلى الضفة الفلسطينية، وإسناده من خلف الستار لفصائل المقاومة المسلحة، بعد أن تلمس عرفات كما تقول تجربته، وكما يقول المؤرخون والمحللون – إن المفاوضات بلا قوة تفاوضية، ما هي إلا إنتحار سياسي، لذلك، عندما طلب إليه، في كامب ديفيد 2 أن يتخلى عن القدس وعن الأقصى، قال للجانب الآخر: «سأوقع، لكن سأدعوكم إلى جنازتي في اليوم التالي».

هذه المعارضة، من داخل بيت أوسلو، وهذا اللوم وهذا العتاب لم يمر دون نتائج، فقد فتحت هذه المعارضة شهية الأطراف الخارجية، خاصة الولايات المتحدة، وأوروبا، للضغط على الرئيس عرفات، إما ليغادر موقعه القيادي، أو أن يسلم بإعادة صياغة النظام السياسي، باستحداث مؤسسة رئاسة الحكومة، والفصل بينها وبين مؤسسة رئاسة السلطة، وأمام هول العاصفة، بما فيها عاصفة «عملية السور الواقي» التي شنها شارون، وفي ظل تواطؤ عربي، بات يضيق ذرعاً بسياسة عرفات «الخيارات المفتوحة»، وافق أبو عمار من حيث المبدأ، على الفصل بين المؤسستين، وهو ما وضع المجلس التشريعي المشكل كله من فتح، أمام مهمة صعبة، لإعادة صياغة القانون الأساسي للسلطة، وإعادة توزيع الصلاحية بين «رأسين»، وغرق المجلس التشريعي في البحث في تدوير الزوايا (حيث لم يكن هناك زوايا تدوّر).

وتحت الضغوط السياسية، ولد القانون الأساسي الجديد للسلطة، جرد مؤسسة الرئاسة من صلاحياتها المالية، والأمنية، والتفاوضية، وأحالها إلى رئيس الوزراء ووزرائه، فصار هناك وزير للمال، كان سابقاً أحد مدراء صندوق النقد الدولي، ليكون مشرفاً على أموال السلطة، بعيداً عن صلاحيات عرفات، كما عين وزير للداخلية مسؤولاً عن الأجهزة الأمنية، التي أصبحت تحت صلاحيات رئاسة الحكومة، كما تم تشكيل مجلس للأمن القومي، تولى رئاسته أحد الوزراء، وأعيد تشكيل الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال دايتون، لإبعاد كافة العناصر العسكرية، الذين ساهموا في إطلاق النار على الاحتلال في الانتفاضة الثانية، وأعيدت صياغة العقيدة الأمنية للأجهزة العسكرية على قاعدة التنسيق والتعاون مع قوات الاحتلال.

أما في الجانب السياسي، أي التفاوض، فقد سلمت الرباعية الدولية وثائق «خارطة الطريق» إلى رئاسة الوزراء، باعتبارها هي المشروع الدولي لإطلاق عملية سياسية جديدة، في إطار مفاوضات الحل الدائم، عملاً بنصوص «اتفاق أوسلو».

وتلك كانت كلها خطوات لإضعاف الرئيس عرفات وتجريده من عناصر القوة، وإبعاده عن مركز القرار، لكن غاب عن الذين خططوا لهذا، أن ثمة قوة يملكها الرئيس عرفات، لم يستطيعوا تجريده منها، هي قوته كزعيم وكقائد للشعب الفلسطيني ومقاومته، وهذا ما أكدته الأحداث اللاحقة، إلى أن حانت لحظة غيابه «الغامض المكشوف» في 11/11/2004، فتولى القيادة من بعده الأطراف المؤتمنة على «اتفاق أوسلو»، الرئيس محمود عباس، الذي وقع الاتفاق في 13/9/1993 في حدائق البيت الأبيض وأحمد قريع (أبو علاء) الذي تولى المفاوضات من خلف ظهر المؤسسة الفلسطينية الرسمية وعلى يديه، ولد الاتفاق المذكور.

مع القيادة الجديدة التي خلفت الرئيس عرفات، باتت استراتيجية السلطة تقوم على مبدأ «الخيار الوحيد»، أي المفاوضات تحت سقف أوسلو، وعبر آلياته، واستبعاد كل ما يتعارض مع ذلك، بما في ذلك إعادة بناء مؤسسات السلطة التشريعية والتنفيذية، الأمر الذي تطلب حواراً وطنياً، انعقد في القاهرة في آذار (مارس) 2005 على أعلى المستويات، توصل بعد نقاش صاخب إلى إعلان التهدئة لمدة سنة، تنتهي في نهاية العام نفسه، وإدخال إصلاحات على مؤسسات السلطة، خاصة تعديل قانون الانتخابات ليقوم على نظام التمثيل النسبي.

في هذا السياق، يجدر القول أن ما بعد رحيل عرفات، لم يكن كما قبله، وأن ما بعد الانتفاضة الثانية لم يكن كما قبلها، فقد تشكلت بنى عسكرية لدى صف من الفصائل، بات خيار المقاومة المسلحة واحداً من خياراتها الرئيسية، فضلاً عن أن الخيارات المتباينة أحدثت توازنات جديدة في الصف الفلسطيني، وقد تبدى ذلك في بحث مسألة «التهدئة» حتى نهاية العام، وفي مناقشة قانون الانتخابات الجديد، حيث تخوفت أوساط نافذة في السلطة أن يؤدي هذا القانون إلى خلط الأوراق في المجلس التشريعي، لذلك رسا القانون الجديد، كما رسمه «التشريعي الأول» (وغالبيته الساحقة من فتح) على نظام المناصفة بين الترشيح الفردي، وقائمة التمثيل النسبي.

كذلك وقفت السلطة أمام استحقاق تاريخي، حين قرر شارون إخلاء قطاع غزة من المستوطنات، بعد أن تبين له أن لا أفق للمشروع الاستيطاني في غزة، وفي إطار مشروع استراتيجي أكبر يقوم على «الانكفاء» وراء جدار الفصل والضم العنصري في الضفة الفلسطينية، وأعاد انتشار قواته حول القطاع، وأخلى أربع مستوطنات في شمال الضفة الفلسطينية (عادت إليها منذ الأيام حكومة نتنياهو)، كل ذلك بديلاً لخطة الطريق التي فشلت الرباعية الدولية في ارسائها أساساً لعملية سياسية ذات مغزى.

استحقاقات كبرى وقفت أمامها السلطة الفلسطينية كان يمكن البناء عليها لصالح المزيد من الاستحقاقات الإيجابية، كالإعلان على سبيل المثال عن أبسط السيادة الفلسطينية على كامل أراضي الدولة الفلسطينية المحتلة، لكن التزام قيود أوسلو، والرهان على المفاوضات خياراً وحيداً أفقد السلطة القدرة على البناء الإيجابي على ما تحقق، خاصة وأن رياح الانتخابات التشريعية لم تهب كما كانت تشتهي السلطة.

فحلت حماس أولاً في «التشريعي»، واحتل إسماعيل هنية مقعد رئيس الحكومة، وعزيز دويك مقعد رئيس المجلس التشريعي، وأصبحت السلطة ذات رأسين، تحكمها صراعات نفوذ بين حركتين كبيرتين، الأولى تعض على جراحها بعد أن خسرت موقعها النافذ في السلطة الفلسطينية، والثانية لا تقف عند طموح، بل باتت تتطلع نحو م. ت. ف، أيضاً باعتبارها بوابتها الأخرى لتعزيز نفوذها المحلي، والفتح على الأوضاع الإقليمية والدولية.

وفي ظل تجاذبات سياسية وأمنية، امتدت طوال العام 2006، ورغم محاولات معالجة الصرع المتزايد (الوساطة القطرية + المصرية + وثيقة الوفاق الوطني) وقع المحذور الدموي في 14/6/2007، في انقلاب أحد الطرفين ولجوئه إلى الحسم العسكري، بدعوى مواجهة التيار الصهيوني في السلطة، أثبتت الوقائع لاحقاً أنها كانت مجرد ذريعة من أجل تبرير الاستفراد بقطاع غزة ومزاحمة السلطة في رام الله على شرعيتها.

وهكذا أثبت الفصل الأول من مرحلة القيادة الجديدة للسلطة أنها لم تحصد سوى الخسارة الصاخبة.

خسرت المجلس التشريعي

خسرت رئاسة الحكومة

خسرت السلطة على قطاع غزة

أهدرت فرصة البناء على سياسة الانكفاء الإسرائيلية بسبب سياستها الانتظارية القائمة على الخيار الوحيد (أي المفاوضات)

 

يتبع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق