مستقبل البشرية بانفجار الرأسمالية؟

 


نصري الصايغ

أبدأ من حيث ستكون نهايتنا: الجحيم مستقبل البشرية. إنما لا بد من العودة إلى اليوتوبيات الفاحشة. عالم مُروَّض بأفكار وفلسفات وشعارات، وعالم يدب على جبهته، يتقدم إلى حتفه، والدليل الراهن، تنصيب الحروب في الأولويات..

عرف القرن العشرون وما بعده من عقود، سلسلة من اليوتوبيات الخبيثة. بعدها تم القضاء على فلسفات ترسم ملامح مستقبل بُني على سُلَم من القيم الفاشلة: الحرية، المساواة، الديموقراطية، الحقوق، التنمية، مكافحة الأمية، مكافحة الفقر، ثم: السلام الدائم.. وانشئت مؤسسات وأنظمة رست على تنفيذ ما يناقض هذه القيم.

عندما نتحدث عن هذا العالم، نلتفت أولاً إلى دول الغرب تحديداً، لأنها كانت السبَاقة الى تبني الحداثة، والتبشير بالحرية، والتمسك بالديموقراطية، والتطلع الى المزيد منها. التجربة نظرياً كانت غنية. الممارسة كانت عنصرية وتمييزية. الأمر الأساسي الذي ارتكزت عليه أوروبا، بوجوهها كافة، هو غزو القارات كلها. وارتكبت “الديموقراطيات ” الجشعة، جرائم إبادة، أخضعت مئات ملايين البشر، إلى رقٍ حديث، واستتباع ذليل، عبر وكلاء سياسيين، يعاملون البشر كأحذية للسير الى الوراء. معظم الدول، غير العظمى، باتت ذيلية.

غرب فاحش. مسيحيته حرائق. (يقتضي أن يمتنع المسلمون هنا، عن التشفي والتعالي. فشرق القارة الإسلامية، عرف فنون القتال والإبادات.. الأديان متعادلة ومتساوية في الارتكابات. فقط تتغير الخريطة). إذاً، غرب فاحش وقارات تنقاد برسن الرأسمال. والرأسمال، دين لا يرتوي ولا يشبع. إذا جاع الرأسمال أشعل حرباً. إذا حلم، خطط لاجتياح. إذا تدلى في أزمة، صدَّرها فوراً إلى بلاد يطيب فيها الإنفاق العسكري.. ليس مهماً ابداً، عدد القتلى. أكان بالآلاف أم بالملايين أم بضحايا لا تحصى. المشهد الراهن، يكشف أن الكرة الأرضية تتنفس قتلاً وعنفاً.

هذه السطور أعلاه، هي مقدمة ضرورية، لمعرفة الماضي ومآلات المستقبل. وما دفعني الى هذه الكتابة، مقالات جدية وراسخة تلزمك بفتح نقاش هادئ وهادف، كتبها في هذا الموقع، الدكتور الصديق جداً، مالك أبو حمدان. فتح مالك ملفاً بالغ الأهمية، يطرح فيه أسئلة محرجة ومؤلمة، والسؤال الأبرز: لماذا هذا التاريخ ارتكاب؟ لم تنجح الدول “الديمقراطية” العريقة، في جعل هذا النموذج مقبولاً ويمكن حذوه. الديمقراطية، لم تكن حكم الشعب، بل حكم القلة الأقوى. كانت كذلك ولا تزال. ما بشَّر به فلاسفة التنوير وما أقدم عليه ألكسي دوتوكفيل، إنتهى إلى استعمار العالم، وتلقينه سياسة القبضة واقتصاد النهب واحتقار كل من ليس أبيض البشرة.

ثم، لماذا دخل هذا العالم بحروب مجنونة؟ لم تكن تلك الجرائم غير المسبوقة قابلة للتفسير، على نطاق فلسفي وأكاديمي. جرائم الغرب لا تشبه كُتَّابها وفلاسفتها، كما أنها أفلتت من كل محاسبة. الغرب الأبيض بريء جداً حتى أخمص نعليه.

يا عزيزي مالك، الأفكار والعقائد والفلسفات والتنبؤات العلمية، غير قابلة للحياة. هي حية ترزق في الكتب. للكتب مجد الأفكار والإفهام والريادة. لكنها جمل جميلة ومفيدة ومقنعة. الواقع “أخو ملعونة”، بكل ما تعنيه هذه الكلمة. ليست شتيمة أبداً. إنها ملعونة، لأنها ليست وليدة فكر ريادي، تقدمي، إنساني، أخلاقي. بل هي وليدة زواج قديم ومستدام، بل وأبدي، بين ثلاثة: المال، السلطة، والأديان (أو الفلسفات المارقة والمدعية). رأس المال يرضع من كل الاثداء. يسيطر على الأديان. يُوظف الأحزاب. يُطوع النقابات. يُنتج التفاهات ويُصدِّرها. رأس المال إله لا تقوى عليه آلهة الأديان، وفصاحة العقل، وكتب الفلاسفة. وحدهم الشعراء والفنانون يستطيعون الإبداع، وجعل هذا العالم معقولاً. غير أن أنياب رأسمالية قبضت على شركات إنتاج الفنون، وروّجت لبضائع سافلة فنياً وإنسانياً. لذا، أردّد دائماً في سري: “أعوذ بالله من المال الرجيم”، لأنه الأقوى.

لماذا هو قوي أكثر من القيم والأخلاق والأديان واليوتوبيا؟ لأن الإنسان ليس جماداً ولا روحاً. الإنسان جسد. والجسد لا يطيع الاخلاق والقيم والـ.. إلى آخره. هو حواس خمس. عقل. شهوات. نزوات. هو أحياناً مفترس. المصالح أقوى من أي قيمة. ميزان المنافع “طابش” دائماً. العلة إذاً تكوينية وتاريخية. حتى قصة الخلق، التي كانت الفصل الأول من دين التكوين، متبوعة بصراع المصالح والمنافع. قايين قتل هابيل (نموذج). والله حما قايين القاتل من أي انتقام.. هل فهمنا أن العلة فينا. إذا كنا أقوياء أتقنَا الاستبداد. وإذا ضعفنا التحقنا بالقافلة. العالم، منذ البدء، مقسوم بين سيد وعبد. (لبنان نموذجاً) وبين قوي وضعيف.. الله هنا يقف على الحياد. تلك هي عادة توصلنا إلى حفظها من خلال ممارسة الأديان، كل الأديان. المجد الديني هو للأثرياء. لرأس المال. القديسون ليسوا من هذا العالم أبداً.

ماذا تطلب يا صديقي مالك من السوريين القوميين؟ إنهم يمتهنون الكلام العَقَدي. يفسرون نشوء الأمم تفسيراً ممتازاً. لا شك أن أنطون سعادة يشبه كتاباته. ولكن ذلك ليس شافياً. المشكلة ليست في الفلسفات والأفكار والعقائد والمذاهب. المشكلة أن صناعة الواقع ليست فعلاً فكرياً فقط. هناك شبه طلاق بين الفكر والواقع. وهذا ليس خطأ مقصوداً. إنه واقع.. الصلوات ليست برهاناً على الإيمان، التأنسن هو البرهان. الشيوعيون واليساريون حاولوا. القوميون العرب مارسوا. بلغوا السلطة أحياناً. عبث. الكتَاب مضاد للواقع. الشيوعية، لا تشبه ماركس. هي أقرب الى لينين العظيم وستالين الرجيم. انسوا العلاقة بين الكتاب والسلطة. السلطة الشيوعية هي دين التوحش. بلغت الماركسية هذه الدرجة من الإنحطاط السياسي والظلم الإنساني.. انهيار الاتحاد السوفياتي بهذه السرعة، لم يكن نتيجة الفكر الماركسي، بل نتيجة قوى انتفاعية. الشعب غير موجود. البروليتاريا اكتشاف ثم حلم ذات صيف. الإنجيل لا علاقة له بالمسارات المسيحية المتناقضة.

إنما، هناك رؤية جديدة متداولة اليوم في الغرب، يشير اليها الدكتور مالك أبو حمدان، وهي انفجار الرأسمالية.

لعل هذا الانفجار يقود البشرية إلى التعقل، أو يكون صك عبور مستدام إلى الجحيم. فيا عمال العالم وفقراءه لا تتوقعوا شيئاً من التنظير. الصرح الماركسي أو القومي أو الاشتراكي المبني على علم ذي أرضية مطاطة، هو ماضٍ مضى. الثورة الإشتراكية أضغاث أحلام. التوحد القومي يرثه الشتات والفتات.

الغد العربي ماضٍ مضى. العالم، كل العالم، ينتمي راهناً إلى فسطاطين:

فسطاط النهب وفسطاط القهر.

لا خيار أبداً.

إذن ماذا؟

لا أعرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق