04-01-2022
يصادف اليوم ذكرى رحيل الرفيق المناضل والقائد الرمز الكبير أحمد حسين اليماني (أبو ماهر)، والذي أمضى ستة عقود متواصلة في الكفاح من أجل تحرير فلسطين والوحدة العربية، والقائد الفذ المتواضع الذي أفنى عمره حتى آخر لحظة من حياته في خدمة قضية شعبه وأمته العربية.
وُلد الرفيق القائد المؤسس في سحماتاـ قضاء عكا في سنة 1924، درس المرحلة الابتدائية في مدرسة البلدة، وتابع دراسته في مدرسة ترشيحا، ثم في مدرسة عكا الثانوية، ثم في الكلية العربية في القدس ، عمل بعد تخرجه في دائرة الزراعة في عكا ثم استقال بعد سنة وثلاثة أشهر. ثم عمل في دائرة الأشغال العامة في حيفا واستقال منها جراء صداماته مع الموظفين اليهود، شارك في نشاط اللجنة المركزية التي شكلها أبناء المناطق الفلسطينية في لواء الجليل للدفاع عن قراهم بوجه الهجمات الصهيونية، واختير أميناً لسر هذه اللجنة، نشط في المجال النقابي وكان أحد قادة جمعية العمال العربية الفلسطينية بين 1944 و1948، شارك في معارك سنة 1948 في الجليل، رفض مغادرة فلسطين بعد سقوط معظم المدن فاعتقلته السلطات الإسرائيلية في 29/10/1948 ونقل الى معتقل نهلال، ثم أبعد الى لبنان عنوة في 31/01/1949، فانضم الى عائلته التي عثر عليها في مخيم البداوي في شمال لبنان، ـ بدأ حياته في لبنان بالعمل كاتباً للحسابات لدى شركة منح وسميح عذرة للصناعات الكيماوية في طرابلس لكنه
لم يلبث أن قدم استقالته وسافر إلى الضفة الغربية في فلسطين للالتحاق بجمعية العمال العربية الفلسطينية، التي عاودت نشاطها في نابلس عام 1949. لكن، لم يطل الأمر به في الضفة الغربية فعاد الى لبنان، عمل مدرساً ومدير مدرسة وناظراً في مدارس وكالة غوث اللاجئين في لبنان (الأونروا) منذ سنة 1951 حتى سنة 1963، كما عمل في إحدى مدارس المقاصد الإسلامية، ثم أصبح مديراً لمبرة الملك سعود في برج البراجنة، أسس مع بعض رفاقه «المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين» سنة 1949، أحد مؤسسي اللجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية في لبنان، أمين سر رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان، كان مشرفاً على رابطة الطلاب الفلسطينيين في لبنان حين تأسيسها في خمسينيات القرن العشرين، مؤسس وأمين سر اتحاد عمال فلسطين ـ فرع لبنان، نائب الأمين العام للاتحاد العام لعمال فلسطين، مندوب الاتحاد العام لعمال فلسطين الى الأمانة العامة للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب، أسهم في تأسيس حركة القوميين العرب الى جانب جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، وناضل في صفوفها منذ سنة 1953 حتى سنة 1967.
وكان أحد مؤسسي الفرع العسكري للحركة، اعتقل أول مرة في سنة 1955 بعد توزيع بيان باسم الشباب العربي الفلسطيني، التقى ياسر عرفات للمرة الأولى في بيروت عام 1965 لتنسيق العمل العسكري بين حركة القوميين العرب وحركة فتح، استشهد شقيقه محمد في ثاني عملية لمنظمة أبطال العودة في 18/10/1966،شارك في صوغ اتفاق التهدئة بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية سنة 1970 لكن هذا الاتفاق لم ير النور، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظل يشغل عضوية المكتب السياسي للجبهة منذ تأسيسها حتى استقالته منها لأسباب ذاتية، أمين سر جبهة الرفض من سنة 1974 حتى سنة 1979، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورات عدة، وهو عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، سجن في لبنان نحو 55 مرة، رئيس دائرة التنظيم الشعبي في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم رئيس دائرة شؤون العائدين، عضو في اللقاء الثقافي الفلسطيني الذي أسسه الدكتور أنيس صايغ، عضو في المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي ـ الاسلامي في مجلس أمناء المنتدى القومي العربي ـ لبنان، أصدر كتاباً عن تجربة «جمعية العمال العربية الفلسطينية» في فلسطين، شارك في تحرير كتاب عن بلدته «سحماتا»، أصدر مذكراته بعنوان «تجربتي مع الأيام» في خمسة أجزاء (دمشق: دار كنعان، 2006)، زارته وفود من المنتدى القومي العربي و«الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق» لمناسبة عيد ميلاده السادس والثمانين في منزله في محلة الملعب البلدي في بيروت في 24/09/2010، تسلم درعاً تكريمية عربون تقدير ووفاء من حركة المقاومة الاسلامية (حماس) في 06/10/2010.
ـ أدخل الى مستشفى «بهمن» في 18/12/2010 بعد تدهور حالته الصحية. وكان يعاني مرض السكري منذ زمن بعيد. توفي في مثل هذا اليوم من عام 2011 بعد معاناة مع المرض.
لقد عرفت الجماهير الفلسطينية والمخيمات الفلسطينية في كل المواقع والأماكن الرفيق ابا ماهر مناضلاً صلباً وقائداً متواضعاً يعيش بكل جوارحه أحاسيس الناس ومشاكلها وهمومها وآلامها وآمالها في العودة والحرية والاستقلال والكرامة.
وعرفت الجماهير العربية وقواها السياسية الرفيق أبا ماهر قائداً ومناضلاً وحدوياً آمن بالوحدة الوطنية الفلسطينية والوحدة العربية الشاملة طريقاً لتحرير كل ذرة من تراب فلسطين وتحقيق آمال وتطلعات الأمة العربية في التحرر والديموقراطية والاشتراكية والوحدة.
لا أعتقد أن أحداً يستحق لقب مناضل أو يجسد صفة مناضل أكثر من أحمد اليماني ـ أبو ماهر. وهو الرجل الذي استمر حاملاً راية فلسطين أكثر من ستين عاماً ولم يتعب أو يستسلم. سجن عشرات المرات ولعله دون مبالغة أحد أكثر من دخل السجون من العرب في محاولة لإيقاف مسيرته النضالية ومعاقبته عليها، ولعل تلاميذه في مدارس المقاصد في الخمسينيات أكثر من يشهد على ذلك. لكنه بقي رافعاً راية فلسطين، حتى الرمق الأخير من حياته.
شارك في تأسيس حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنه بقي طوال حياته وسنوات نضاله الطويلة فوق الحزبيات الضيقة والعصبيات الفئوية، محطّ احترام وتقدير جميع الفلسطينيين، وكل من عرفه من العرب.
هو ضمير فلسطين النقي الصادق، الذي بقي بعيداً عن مغريات السلطة والمال التي غرق فيها كثيرون ممن بدأوا مناضلين وانتهوا فاسدين. أما هو فبقي طوال حياته كما نشأ مناضلاً فقيراً صادقاً، مكانه خنادق الثوار، ومخيمات اللاجئين، ومعتقلات الأخوة كما معتقلات الأعداء. تحمل بصبر ومعاناة غياب رفاقه الأوائل من جورج حبش ووديع حداد و غسان كنفاني ، لكنه شعر بالوحدة بعد غياب رفاق السنوات الأخيرة، شفيق الحوت ورفعت النمر وأنيس صايغ. انضم إليهم ليحمل معهم راية فلسطين والعروبة ولينشدوا معاً نشيد العودة.
كما قال عنه المناضل نضال حمد "هذا الرجل النحيف، قصير القامة، مرفوع الهامة، الشامخ كجبل الشيخ يعلو رأسه الشعر الأبيض، انه شيخ الثوار الذي تنقل بين مدراس المخيمات ومعاقل المقاومة.. وهو عميد الرافضين للانحراف عن المسار، رجل المبادئ والمواقف والإصرار، أول من قال لا للمنحرفين! ولا اليماني التي قالها مبكراً نزلت قوية ومدوية على مسامع الجميع.. لأنها تعني لا لسياسة الانحراف والاستسلام.. هكذا سماها في كثير من المواقف والمناسبات.. رجل الكلمة التي تميز بين الصواب والخطأ، بين الصحيح والغلط، بين المقاومة والمساومة، إنسان هادئ، عاشق يتأمل الوطن فيجده وشما على زند فدائي في مخيم البداوي أو نهر البارد.
يتطلع اليماني نحو السماء بعين مفتوحة على الوطن والانتماء، فيرى الشمس بلون شعر بنات فلسطينيات مذهبات كأنهن خريف الثورة واللهب. يتطلع اليماني الماهر على البحر فيجده مسراه نحو عكا وحيفا ويافا وغزة.. لم ولا يركب سوى سفن الثورة المبحرة الى فلسطين، لأنه عن اتجاه الوطن لا يميل.. سلاحه الايمان بشعبه وقوة الحق والإرادة التي تكسر الجبروت مهما كان قويا.
أبو ماهر اليماني هذا الرجل الثمانيني، الختيار الكبير والجليل، مربي الصغار الذين أصبحوا كبارًا، فمنهم من استشهد ومنهم من ينتظر.. مدرس الفنان ناجي العلي والشهيد علي أيوب وكواكب وقوافل أخرى من الشهداء والأحياء من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان، من أكبرهم عين الحلوة حيث مدارس الفالوجة وحطين وقبية للأولاد الى مدارس مخيمات الجليل والبداوي ونهر البارد شرق وشمالي لبنان.
هذا الرمز الذي أبى أن يسير مع المسيرة كيفما اتفق، يوم تناقضت رؤيته للمسيرة مع رؤية رفاق الدرب تركهم وجلس في البيت بين أبناء أسرته ومع جيرانه وأهله في مخيم برج البراجنة.. معلنا من هناك موقفاً أخلاقياً عظيماً لا يقبل التشكيك. إذ كانت تربيته سليمة وظلت معافية ولم ترض ان تصبح عديمة او سقيمة، لذا أعلن رفضه للألاعيب الثورية المغلوطة، وللسياسة المتنفذة، المدمرة والممقوتة.. قال ان هؤلاء الذين تخلوا عن التراب الفلسطيني كاملا لا بد منهزمون.. ثم جاءت اتفاقيات اوسلو وما تلاها من إلغاء للميثاق الوطني الفلسطيني لتؤكد صحة توقعاته، ولتبرهن أن تلك الخطوة كانت البداية لشطب حق العودة.
وقال عنه الدكتور أنيس صايغ: للمرة الأولى منذ 12 عامًا لا يكون أبو ماهر جالسًا على يميني أو يساري، مؤامرة جميلة أن يكون مع أصحاب الدولة (مع الرئيسين د. سليم الحص ورشيد الصلح، الوزير بشارة مرهج وعبد الرحيم مراد، النائب محمد قباني).. خفنا أن يعتذر (عن حفل التكريم)، وفي النهاية قلبه طيّب عتب علينا وغضب، لكننا كسبناه معنا.
كما قال عنه الشهيد الكبير رسام الكاركتير ناجي العلي "وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا.. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم "ارسم.. لكن دائمًا عن الوطن".
أما صالح شبل فقد عاد بالذاكرة لبدايات اللجوء والتشرد يوم كان اليماني مديرًا لمدرسة ابتدائية في مخيم عين الحلوة "الواعي لأهمية إبقاء الذاكرة الفلسطينية حية وحاضرة في أذهان الطلاب.. تغير الكثيرون مع الزمن وأبو ماهر ما زال شديد الايمان بالقضية، واعيًا للمصاعب، عاملاً دون كلل رغم ظروفه الصحية الصعبة".
رفعت صدقي النمر "جئنا نصيده فصادنا.. فيه القيم الأخلاقية والوطنية والقومية، السمعة الطيبة والروح الدمثة، الوفاء والصدق والإخلاص والبساطة والتواضع".
أما الشيخ الآخر شفيق الحوت فقد قال عن رفيق الدرب كلامًا لا يقوله سوى إنسان شاعر مخلص للأصدقاء "لو كنت فنانًا تشكيليًا وأردت أن أرسم صورة تجسّد فلسطين حتى يومنا هذا لما وجدت خيرًا من اليماني ليجسد الصورة الممزوجة بالألم والمعاناة والنضال.. أبو ماهر تميز عن غيره بثباته على الهدف وبصدقه وما زال وسيبقى من المناضلين والمطالبين بتحرير كامل التراب الفلسطيني".
د. صلاح الدباغ قال إن أبا ماهر اليماني قدوة ومثال في عمله وحياته الشخصية، فهو قد جمع بين الصلابة والجدية والبساطة المتناهية ... أبو ماهر ينتمي للجيل الذي عاصر نكبة فلسطين والذي تحمّل آلاماً نفدت طاقة التحمل، فتركت في هذا الجيل جراحا لا تندمل، كما تركت كدمات لم يستطع الزمان أن يمحوها.
أبو ماهر كان لنا مثل شجرة زيتون دهرية، نستظل بسيرته، ونستضيء بتاريخه البهي، ونفخر بأننا رافقنا أبو ماهر اليماني شوطًا من أعمارنا المتعبة. آخر المَعَاصر وآخر الخوابي المعتقة وآخر سراج في الليالي المعتمة، ولعله آخر العُصاة الكبار في هذا الشتات الفلسطيني المترامي.
أبو ماهر اليماني الذي عاش في منزل جدرانه من الحجر الصخري، وسقفه من الخشب الوعري، وفيه موقدان للنار. وظل أبو ماهر، حتى آخر رمق، مثل بيته تمامًا: صلب كالحجر الصخري، ناعم كالخشب الوعري، مشتعل كنيران المواقد في قرى الجليل.
كان الصغير في العائلات الفلسطينية الفقيرة، ومنها عائلة أبو ماهر، يلبس ثياب أخيه الأكبر سنًا. ونحن كثيرًا ما اكتسينا ببعضٍ مما تركه لنا أخونا الكبير أبو ماهر؛ فقد كانت سيرته لدينا مَعلماً وعلامةً، وكان هو مُعلِّماً في الصلابة والوداعة معًا، وفي إفناء العمر في سبيل المبادئ التي اعتنقها. وهذا المعلم كان لا يأوي إلى منزله قبل أن يجوس في أزقة المخيم ليكتشف مَن مِن تلامذته ما زال لاهياً عن فروضه فيقرّعه بحنان. وكم شوهد «الأستاذ أبو ماهر» وهو يطرق أبواب المنازل ليلاً ليطمئن هل إن طلابه يذاكرون دروسهم حقاً، وأنهم ما ناموا قبل أن ينجزوا فروضهم.
لم يغادر فلسطين البتة، ولم يبرح هواءُ الجليل رئتيه؛ ذلك الهواء المضمّخ برائحة الريحان الذي كان والده يجمعه من الحقول، ثم تجففه والدته وتدقه وتهديه إلى النساء حين يلدن. فالريحان كان دهن المواليد الجدد، مثل مسحوق «البودرة» في هذا الزمان، وكان هو الدهن المقدس للمناضلين الحقيقيين. وكنتُ، أحياناً، أرقبُ عينيه وهي تذهب بعيداً في سفر خفي، فأعرف أنه صار هناك.
ظلت فلسطين طوال اثنين وستين عامًا عالمه الفسيح والبعيد والقريب معًا. لم يغادرها قط، بل إنني أكاد أوقن أنه يقف في كل يوم عند مفترق البقيعة وحرفيش، ليجوس بخياله المشبع بالألم في أرجاء هذا الجمال الباهر: من ترشيحا ودير القاسي وكفر سميع وبيت جن حتى فسوطة ومعليا والرامة ويانوح.
اعتقلته «الهاغاناه»، وكاد أن يموت. وبعد نحو أربعة أشهر وضعوه عند الحدود اللبنانية، وأداروا له وجهه نحو بلدة «رميش» وقالوا له: سر، ولا تتطلع خلفك. وإن عدت ستموت. لكنه منذ ذلك التاريخ، أي منذ اثنين وستين عامًا وأكثر، وهو لا يتطلع إلا إلى فلسطين، ولم يكف عن محاولة العودة. وفي خضم هذه الجلجلة لم ترهبه السجون التي استقبلته نحو خمس وخمسين مرة في لبنان، ولم تحوِّله مواقعه القيادية التي كُلِّف بها عن خصاله، فبقي صلبًا كصخر البازلت في سحماتا، شديدًا كمطارق الحديد في محطة القطار التي لجأ أهله إليها في طرابلس غداة النكبة، واخزًا مثل صبّار الوعر في وطنه المفقود.
تعلّم أحمد اليماني في ثانوية صفد بتنكتي زيت: واحدة لأجرة الغرفة، وواحدة لمصروفه الذي لم يتجاوز 30 قرشًا في الشهر، أي ثلث جنيه. وعرف ضروبًا من الألم التي كثيرًا ما احتملها بصبر وكرامة. وكم تعذب حينما سرق له زميله في السكن مصروفه الشهري، فأكل «قتلة» من والده. وكان غيظه من فقدان المصروف أشد إيلامًا من كفي والده. لكن الإحساس بآلام الفقر لم يحوِّل أبو ماهر شخصًا باحثًا عن خلاصه الفردي، بل أمدّه بوعي اجتماعي خالص، وأيقن أن سبيل الفكاك من الفقر هو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية، فالتحق مبكراً بـ«جمعية العمال العربية الفلسطينية» وناضل في صفوفها، ثم اشتبك نضاله الاجتماعي بنضاله القومي العربي، ثم الوطني الفلسطيني في مسيرة طويلة منحت أبو ماهر اليماني ذلك الحضور المتألق، ومنحتنا نحن أيضاً مثالاً نادراً للنزاهة.
إذا كانت الأحوال المُعسرة أوقدت لدى الفتى أحمد اليماني الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية، فإن الاستعمار البريطاني أشعل في فؤاده جذوة النضال الوطني. وفي لبنان التقى، في مضمار واحد، جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وأحمد اليماني ورفاقًا لهم آخرين، ليعيدوا إيقاد الشعلة وينيروا بنضالهم ميادين كثيرة. وإذا كان وعيه الوطني تفتح، أول مرة، في سنة 1930 حين شاهد في عكا إعدام شهداء البراق الثلاثة (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير)، فإن «أبا ماهر» لم يغادرنا إلا بعد أن حفر دروبًا وأخاديد كثيرة، وزرع حقولاً للأمل.
كان الناس في منازل القرى الجليلية يجلسون على الأرض. وعلى هذا المنوال ظل أبو ماهر حتى نهاية المطاف «على الأرض». وها هو يعود اليوم إلى الأرض، لكن، يا للحسرة، ليس إلى الأرض التي نذر حياته في سبيل العودة إليها، فقد اكتفى من دهره المتعب، بعدما ودّع أقرب الناس إليه أمثال جورج حبش ورفعت النمر وأنيس صايغ، بأن رقد في «فلسطين الصغيرة»، أي في مثوى الشهداء إلى جانب صديق عمره شفيق الحوت.
وُلد الرفيق القائد المؤسس في سحماتاـ قضاء عكا في سنة 1924، درس المرحلة الابتدائية في مدرسة البلدة، وتابع دراسته في مدرسة ترشيحا، ثم في مدرسة عكا الثانوية، ثم في الكلية العربية في القدس ، عمل بعد تخرجه في دائرة الزراعة في عكا ثم استقال بعد سنة وثلاثة أشهر. ثم عمل في دائرة الأشغال العامة في حيفا واستقال منها جراء صداماته مع الموظفين اليهود، شارك في نشاط اللجنة المركزية التي شكلها أبناء المناطق الفلسطينية في لواء الجليل للدفاع عن قراهم بوجه الهجمات الصهيونية، واختير أميناً لسر هذه اللجنة، نشط في المجال النقابي وكان أحد قادة جمعية العمال العربية الفلسطينية بين 1944 و1948، شارك في معارك سنة 1948 في الجليل، رفض مغادرة فلسطين بعد سقوط معظم المدن فاعتقلته السلطات الإسرائيلية في 29/10/1948 ونقل الى معتقل نهلال، ثم أبعد الى لبنان عنوة في 31/01/1949، فانضم الى عائلته التي عثر عليها في مخيم البداوي في شمال لبنان، ـ بدأ حياته في لبنان بالعمل كاتباً للحسابات لدى شركة منح وسميح عذرة للصناعات الكيماوية في طرابلس لكنه
لم يلبث أن قدم استقالته وسافر إلى الضفة الغربية في فلسطين للالتحاق بجمعية العمال العربية الفلسطينية، التي عاودت نشاطها في نابلس عام 1949. لكن، لم يطل الأمر به في الضفة الغربية فعاد الى لبنان، عمل مدرساً ومدير مدرسة وناظراً في مدارس وكالة غوث اللاجئين في لبنان (الأونروا) منذ سنة 1951 حتى سنة 1963، كما عمل في إحدى مدارس المقاصد الإسلامية، ثم أصبح مديراً لمبرة الملك سعود في برج البراجنة، أسس مع بعض رفاقه «المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين» سنة 1949، أحد مؤسسي اللجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية في لبنان، أمين سر رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان، كان مشرفاً على رابطة الطلاب الفلسطينيين في لبنان حين تأسيسها في خمسينيات القرن العشرين، مؤسس وأمين سر اتحاد عمال فلسطين ـ فرع لبنان، نائب الأمين العام للاتحاد العام لعمال فلسطين، مندوب الاتحاد العام لعمال فلسطين الى الأمانة العامة للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب، أسهم في تأسيس حركة القوميين العرب الى جانب جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، وناضل في صفوفها منذ سنة 1953 حتى سنة 1967.
وكان أحد مؤسسي الفرع العسكري للحركة، اعتقل أول مرة في سنة 1955 بعد توزيع بيان باسم الشباب العربي الفلسطيني، التقى ياسر عرفات للمرة الأولى في بيروت عام 1965 لتنسيق العمل العسكري بين حركة القوميين العرب وحركة فتح، استشهد شقيقه محمد في ثاني عملية لمنظمة أبطال العودة في 18/10/1966،شارك في صوغ اتفاق التهدئة بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية سنة 1970 لكن هذا الاتفاق لم ير النور، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظل يشغل عضوية المكتب السياسي للجبهة منذ تأسيسها حتى استقالته منها لأسباب ذاتية، أمين سر جبهة الرفض من سنة 1974 حتى سنة 1979، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورات عدة، وهو عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، سجن في لبنان نحو 55 مرة، رئيس دائرة التنظيم الشعبي في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم رئيس دائرة شؤون العائدين، عضو في اللقاء الثقافي الفلسطيني الذي أسسه الدكتور أنيس صايغ، عضو في المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي ـ الاسلامي في مجلس أمناء المنتدى القومي العربي ـ لبنان، أصدر كتاباً عن تجربة «جمعية العمال العربية الفلسطينية» في فلسطين، شارك في تحرير كتاب عن بلدته «سحماتا»، أصدر مذكراته بعنوان «تجربتي مع الأيام» في خمسة أجزاء (دمشق: دار كنعان، 2006)، زارته وفود من المنتدى القومي العربي و«الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق» لمناسبة عيد ميلاده السادس والثمانين في منزله في محلة الملعب البلدي في بيروت في 24/09/2010، تسلم درعاً تكريمية عربون تقدير ووفاء من حركة المقاومة الاسلامية (حماس) في 06/10/2010.
ـ أدخل الى مستشفى «بهمن» في 18/12/2010 بعد تدهور حالته الصحية. وكان يعاني مرض السكري منذ زمن بعيد. توفي في مثل هذا اليوم من عام 2011 بعد معاناة مع المرض.
لقد عرفت الجماهير الفلسطينية والمخيمات الفلسطينية في كل المواقع والأماكن الرفيق ابا ماهر مناضلاً صلباً وقائداً متواضعاً يعيش بكل جوارحه أحاسيس الناس ومشاكلها وهمومها وآلامها وآمالها في العودة والحرية والاستقلال والكرامة.
وعرفت الجماهير العربية وقواها السياسية الرفيق أبا ماهر قائداً ومناضلاً وحدوياً آمن بالوحدة الوطنية الفلسطينية والوحدة العربية الشاملة طريقاً لتحرير كل ذرة من تراب فلسطين وتحقيق آمال وتطلعات الأمة العربية في التحرر والديموقراطية والاشتراكية والوحدة.
لا أعتقد أن أحداً يستحق لقب مناضل أو يجسد صفة مناضل أكثر من أحمد اليماني ـ أبو ماهر. وهو الرجل الذي استمر حاملاً راية فلسطين أكثر من ستين عاماً ولم يتعب أو يستسلم. سجن عشرات المرات ولعله دون مبالغة أحد أكثر من دخل السجون من العرب في محاولة لإيقاف مسيرته النضالية ومعاقبته عليها، ولعل تلاميذه في مدارس المقاصد في الخمسينيات أكثر من يشهد على ذلك. لكنه بقي رافعاً راية فلسطين، حتى الرمق الأخير من حياته.
شارك في تأسيس حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنه بقي طوال حياته وسنوات نضاله الطويلة فوق الحزبيات الضيقة والعصبيات الفئوية، محطّ احترام وتقدير جميع الفلسطينيين، وكل من عرفه من العرب.
هو ضمير فلسطين النقي الصادق، الذي بقي بعيداً عن مغريات السلطة والمال التي غرق فيها كثيرون ممن بدأوا مناضلين وانتهوا فاسدين. أما هو فبقي طوال حياته كما نشأ مناضلاً فقيراً صادقاً، مكانه خنادق الثوار، ومخيمات اللاجئين، ومعتقلات الأخوة كما معتقلات الأعداء. تحمل بصبر ومعاناة غياب رفاقه الأوائل من جورج حبش ووديع حداد و غسان كنفاني ، لكنه شعر بالوحدة بعد غياب رفاق السنوات الأخيرة، شفيق الحوت ورفعت النمر وأنيس صايغ. انضم إليهم ليحمل معهم راية فلسطين والعروبة ولينشدوا معاً نشيد العودة.
كما قال عنه المناضل نضال حمد "هذا الرجل النحيف، قصير القامة، مرفوع الهامة، الشامخ كجبل الشيخ يعلو رأسه الشعر الأبيض، انه شيخ الثوار الذي تنقل بين مدراس المخيمات ومعاقل المقاومة.. وهو عميد الرافضين للانحراف عن المسار، رجل المبادئ والمواقف والإصرار، أول من قال لا للمنحرفين! ولا اليماني التي قالها مبكراً نزلت قوية ومدوية على مسامع الجميع.. لأنها تعني لا لسياسة الانحراف والاستسلام.. هكذا سماها في كثير من المواقف والمناسبات.. رجل الكلمة التي تميز بين الصواب والخطأ، بين الصحيح والغلط، بين المقاومة والمساومة، إنسان هادئ، عاشق يتأمل الوطن فيجده وشما على زند فدائي في مخيم البداوي أو نهر البارد.
يتطلع اليماني نحو السماء بعين مفتوحة على الوطن والانتماء، فيرى الشمس بلون شعر بنات فلسطينيات مذهبات كأنهن خريف الثورة واللهب. يتطلع اليماني الماهر على البحر فيجده مسراه نحو عكا وحيفا ويافا وغزة.. لم ولا يركب سوى سفن الثورة المبحرة الى فلسطين، لأنه عن اتجاه الوطن لا يميل.. سلاحه الايمان بشعبه وقوة الحق والإرادة التي تكسر الجبروت مهما كان قويا.
أبو ماهر اليماني هذا الرجل الثمانيني، الختيار الكبير والجليل، مربي الصغار الذين أصبحوا كبارًا، فمنهم من استشهد ومنهم من ينتظر.. مدرس الفنان ناجي العلي والشهيد علي أيوب وكواكب وقوافل أخرى من الشهداء والأحياء من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان، من أكبرهم عين الحلوة حيث مدارس الفالوجة وحطين وقبية للأولاد الى مدارس مخيمات الجليل والبداوي ونهر البارد شرق وشمالي لبنان.
هذا الرمز الذي أبى أن يسير مع المسيرة كيفما اتفق، يوم تناقضت رؤيته للمسيرة مع رؤية رفاق الدرب تركهم وجلس في البيت بين أبناء أسرته ومع جيرانه وأهله في مخيم برج البراجنة.. معلنا من هناك موقفاً أخلاقياً عظيماً لا يقبل التشكيك. إذ كانت تربيته سليمة وظلت معافية ولم ترض ان تصبح عديمة او سقيمة، لذا أعلن رفضه للألاعيب الثورية المغلوطة، وللسياسة المتنفذة، المدمرة والممقوتة.. قال ان هؤلاء الذين تخلوا عن التراب الفلسطيني كاملا لا بد منهزمون.. ثم جاءت اتفاقيات اوسلو وما تلاها من إلغاء للميثاق الوطني الفلسطيني لتؤكد صحة توقعاته، ولتبرهن أن تلك الخطوة كانت البداية لشطب حق العودة.
وقال عنه الدكتور أنيس صايغ: للمرة الأولى منذ 12 عامًا لا يكون أبو ماهر جالسًا على يميني أو يساري، مؤامرة جميلة أن يكون مع أصحاب الدولة (مع الرئيسين د. سليم الحص ورشيد الصلح، الوزير بشارة مرهج وعبد الرحيم مراد، النائب محمد قباني).. خفنا أن يعتذر (عن حفل التكريم)، وفي النهاية قلبه طيّب عتب علينا وغضب، لكننا كسبناه معنا.
كما قال عنه الشهيد الكبير رسام الكاركتير ناجي العلي "وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا.. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم "ارسم.. لكن دائمًا عن الوطن".
أما صالح شبل فقد عاد بالذاكرة لبدايات اللجوء والتشرد يوم كان اليماني مديرًا لمدرسة ابتدائية في مخيم عين الحلوة "الواعي لأهمية إبقاء الذاكرة الفلسطينية حية وحاضرة في أذهان الطلاب.. تغير الكثيرون مع الزمن وأبو ماهر ما زال شديد الايمان بالقضية، واعيًا للمصاعب، عاملاً دون كلل رغم ظروفه الصحية الصعبة".
رفعت صدقي النمر "جئنا نصيده فصادنا.. فيه القيم الأخلاقية والوطنية والقومية، السمعة الطيبة والروح الدمثة، الوفاء والصدق والإخلاص والبساطة والتواضع".
أما الشيخ الآخر شفيق الحوت فقد قال عن رفيق الدرب كلامًا لا يقوله سوى إنسان شاعر مخلص للأصدقاء "لو كنت فنانًا تشكيليًا وأردت أن أرسم صورة تجسّد فلسطين حتى يومنا هذا لما وجدت خيرًا من اليماني ليجسد الصورة الممزوجة بالألم والمعاناة والنضال.. أبو ماهر تميز عن غيره بثباته على الهدف وبصدقه وما زال وسيبقى من المناضلين والمطالبين بتحرير كامل التراب الفلسطيني".
د. صلاح الدباغ قال إن أبا ماهر اليماني قدوة ومثال في عمله وحياته الشخصية، فهو قد جمع بين الصلابة والجدية والبساطة المتناهية ... أبو ماهر ينتمي للجيل الذي عاصر نكبة فلسطين والذي تحمّل آلاماً نفدت طاقة التحمل، فتركت في هذا الجيل جراحا لا تندمل، كما تركت كدمات لم يستطع الزمان أن يمحوها.
أبو ماهر كان لنا مثل شجرة زيتون دهرية، نستظل بسيرته، ونستضيء بتاريخه البهي، ونفخر بأننا رافقنا أبو ماهر اليماني شوطًا من أعمارنا المتعبة. آخر المَعَاصر وآخر الخوابي المعتقة وآخر سراج في الليالي المعتمة، ولعله آخر العُصاة الكبار في هذا الشتات الفلسطيني المترامي.
أبو ماهر اليماني الذي عاش في منزل جدرانه من الحجر الصخري، وسقفه من الخشب الوعري، وفيه موقدان للنار. وظل أبو ماهر، حتى آخر رمق، مثل بيته تمامًا: صلب كالحجر الصخري، ناعم كالخشب الوعري، مشتعل كنيران المواقد في قرى الجليل.
كان الصغير في العائلات الفلسطينية الفقيرة، ومنها عائلة أبو ماهر، يلبس ثياب أخيه الأكبر سنًا. ونحن كثيرًا ما اكتسينا ببعضٍ مما تركه لنا أخونا الكبير أبو ماهر؛ فقد كانت سيرته لدينا مَعلماً وعلامةً، وكان هو مُعلِّماً في الصلابة والوداعة معًا، وفي إفناء العمر في سبيل المبادئ التي اعتنقها. وهذا المعلم كان لا يأوي إلى منزله قبل أن يجوس في أزقة المخيم ليكتشف مَن مِن تلامذته ما زال لاهياً عن فروضه فيقرّعه بحنان. وكم شوهد «الأستاذ أبو ماهر» وهو يطرق أبواب المنازل ليلاً ليطمئن هل إن طلابه يذاكرون دروسهم حقاً، وأنهم ما ناموا قبل أن ينجزوا فروضهم.
لم يغادر فلسطين البتة، ولم يبرح هواءُ الجليل رئتيه؛ ذلك الهواء المضمّخ برائحة الريحان الذي كان والده يجمعه من الحقول، ثم تجففه والدته وتدقه وتهديه إلى النساء حين يلدن. فالريحان كان دهن المواليد الجدد، مثل مسحوق «البودرة» في هذا الزمان، وكان هو الدهن المقدس للمناضلين الحقيقيين. وكنتُ، أحياناً، أرقبُ عينيه وهي تذهب بعيداً في سفر خفي، فأعرف أنه صار هناك.
ظلت فلسطين طوال اثنين وستين عامًا عالمه الفسيح والبعيد والقريب معًا. لم يغادرها قط، بل إنني أكاد أوقن أنه يقف في كل يوم عند مفترق البقيعة وحرفيش، ليجوس بخياله المشبع بالألم في أرجاء هذا الجمال الباهر: من ترشيحا ودير القاسي وكفر سميع وبيت جن حتى فسوطة ومعليا والرامة ويانوح.
اعتقلته «الهاغاناه»، وكاد أن يموت. وبعد نحو أربعة أشهر وضعوه عند الحدود اللبنانية، وأداروا له وجهه نحو بلدة «رميش» وقالوا له: سر، ولا تتطلع خلفك. وإن عدت ستموت. لكنه منذ ذلك التاريخ، أي منذ اثنين وستين عامًا وأكثر، وهو لا يتطلع إلا إلى فلسطين، ولم يكف عن محاولة العودة. وفي خضم هذه الجلجلة لم ترهبه السجون التي استقبلته نحو خمس وخمسين مرة في لبنان، ولم تحوِّله مواقعه القيادية التي كُلِّف بها عن خصاله، فبقي صلبًا كصخر البازلت في سحماتا، شديدًا كمطارق الحديد في محطة القطار التي لجأ أهله إليها في طرابلس غداة النكبة، واخزًا مثل صبّار الوعر في وطنه المفقود.
تعلّم أحمد اليماني في ثانوية صفد بتنكتي زيت: واحدة لأجرة الغرفة، وواحدة لمصروفه الذي لم يتجاوز 30 قرشًا في الشهر، أي ثلث جنيه. وعرف ضروبًا من الألم التي كثيرًا ما احتملها بصبر وكرامة. وكم تعذب حينما سرق له زميله في السكن مصروفه الشهري، فأكل «قتلة» من والده. وكان غيظه من فقدان المصروف أشد إيلامًا من كفي والده. لكن الإحساس بآلام الفقر لم يحوِّل أبو ماهر شخصًا باحثًا عن خلاصه الفردي، بل أمدّه بوعي اجتماعي خالص، وأيقن أن سبيل الفكاك من الفقر هو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية، فالتحق مبكراً بـ«جمعية العمال العربية الفلسطينية» وناضل في صفوفها، ثم اشتبك نضاله الاجتماعي بنضاله القومي العربي، ثم الوطني الفلسطيني في مسيرة طويلة منحت أبو ماهر اليماني ذلك الحضور المتألق، ومنحتنا نحن أيضاً مثالاً نادراً للنزاهة.
إذا كانت الأحوال المُعسرة أوقدت لدى الفتى أحمد اليماني الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية، فإن الاستعمار البريطاني أشعل في فؤاده جذوة النضال الوطني. وفي لبنان التقى، في مضمار واحد، جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وأحمد اليماني ورفاقًا لهم آخرين، ليعيدوا إيقاد الشعلة وينيروا بنضالهم ميادين كثيرة. وإذا كان وعيه الوطني تفتح، أول مرة، في سنة 1930 حين شاهد في عكا إعدام شهداء البراق الثلاثة (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير)، فإن «أبا ماهر» لم يغادرنا إلا بعد أن حفر دروبًا وأخاديد كثيرة، وزرع حقولاً للأمل.
كان الناس في منازل القرى الجليلية يجلسون على الأرض. وعلى هذا المنوال ظل أبو ماهر حتى نهاية المطاف «على الأرض». وها هو يعود اليوم إلى الأرض، لكن، يا للحسرة، ليس إلى الأرض التي نذر حياته في سبيل العودة إليها، فقد اكتفى من دهره المتعب، بعدما ودّع أقرب الناس إليه أمثال جورج حبش ورفعت النمر وأنيس صايغ، بأن رقد في «فلسطين الصغيرة»، أي في مثوى الشهداء إلى جانب صديق عمره شفيق الحوت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق