هل من وسائل سلمية للشعب الفلسطيني لممارسة حق تقرير مصيره؟

 

محمود الحنفي

منذ أن أصدر مجلس عصبة الأمم قرارا يقضي بانتداب بريطانيا على فلسطين في 24 تموز/ يوليو 1922، بهدف إدارة أجزاء من الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم المنطقة العربية منذ القرن السادس عشر، بما فيها فلسطين، "إلى أن يحين الوقت الذي تستطيع الوقوف فيه بمفردها"، منذ ذلك الحين والشعب الفلسطيني ينتظر تقرير مصيره وبناء دولته. ورغم كل المحاولات الأممية لتحقيق هذه القاعدة الراسخة في القانون الدولي، انطلاقا من الوسائل السلمية، إلا أن الأمم المتحدة، وبدلا من تحقيق حلم الشعب الفلسطيني، قبلت "إسرائيل" دولة في الجمعية العامة ضاربة بعرض الحائط كل القواعد الدولية الراسخة.

وعلى الرغم من عدم التزام "إسرائيل" بشرطي انضمامها للأمم المتحدة (تطبيق القرار 181 والقرار 194)، إلا أنها الآن عضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، في حين لا يزال الفلسطينيون يبحثون عن حلم بناء دولتهم على أراضيهم، كما لا يزال اللاجئون يحلمون بالعودة إلى بيوتهم وقراهم.

ومع أن هناك وسائل غير سلمية يمكن اللجوء إليها، إلا أننا نبحث في هذا المقال عن الوسائل السلمية فقط والتي يمكن للشعب الفلسطيني الاعتماد عليها، إن وجدت طبعا، محاولين بكل موضوعية تقييم مدى فعاليتها.

إن الحق في تقرير المصير يمكن اعتباره من قبيل القواعد الدولية ذات الطبيعة الآمرة، نظراً إلى كون هذا الحق شرطاً ضرورياً أو مسبقاً لممارسة حقوق الإنسان وإعمالها الفعلي، أيضاً للصلة الوطيدة جداً بينه وبين الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ولكونه أساساً للعلاقات الودية بين الأمم كما جاء في الميثاق، ولذلك يقع باطلاً كل اتفاق بين أيٍّ من أشخاص القانون الدولي يتضمن إنكاراً لهذا الحق، أو أية قواعد أو أحكام تخالف ما يتضمنه من مبادئ يجب التزامها.

تعددت وسائل الشعوب في ممارسة الحق في تقرير المصير. ويجري التمييز هنا بين الوسائل السياسية والوسائل المسلحة، ويجري التمييز أيضاً بين عدة صور من الوسائل السياسية السلمية لممارسة حق تقرير المصير، وهي الاستفتاء الشعبي والقرار الصادر عن هيئة منتخبة ممثلة للشعب، والمفاوضات السياسية.

أولا: الاستفتاء الشعبي:

المقصود بالاستفتاء الشعبي أن يترك للشعب حرية اتخاذ القرار المتعلق بتحديد مستقبله ومصيره السياسي، ومن دون أن يكون عرضة لأي ضغط أو إكراه أو تأثير صادر عن أي جهة كانت(1). ويعدّ الاستفتاء الصورة المثلى لكي تقرر الشعوب مصيرها بنفسها؛ فهو أكثر المبادئ الديمقراطية تعبيراً عن إرادة الشعب، ولذلك فإن نتائجه ينبغي أن تقيد أطراف النزاع الذين يتعين عليهم قبول نتيجة الاستفتاء والتزامها.

وقد أكدت الجمعية العامة في قرارها رقم 637 الصادر في تقرير المصير في كانون الأول/ ديسمبر 1952، ونص على أن "رغبات الشعوب تؤكَّد من خلال الاقتراع العام أو أية وسائل ديمقراطية أخرى ومعترف بها، ويفضّل أن تمارس تحت إشراف الأمم المتحدة".

ونظراً إلى أهمية عملية الاستفتاء، وخطورة ما يترتب عليها من نتائج، فإنه يجب توفير الأساس والضمانات اللازمة الكفيلة بتوفير الأجواء المناسبة داخلياً وخارجياً لقيام مثل هذا الاستفتاء. وهنا يجب أن يكون الاستفتاء تحت إشراف لجنة دولية مختصة منبثقة من مؤسسات دولية، وأن يختار هذه اللجنة أشخاص مشهود لهم بالنزاهة، وأن لا تكون لهم أية مصلحة في طبيعة التغييرات التي ستحدث نتيجة لعملية الاستفتاء، وأن يقوم الاستفتاء على أسس سليمة، بحيث يجري توفير جو من الحرية للجماهير التي ستقوم بعملية الاستفتاء لكي تكون بعيدة عن أية تهديدات داخلية وخارجية، أو أي مظهر من مظاهر الضغط.

كذلك يجب أن يشمل الاستفتاء جميع سكان الإقليم الأصليين، ومن ثم فإنه ينبغي أن يشارك فيه جميع المبعدين عن الإقليم، بحيث يُسمح لهم بالعودة إلى إقليمهم لممارسة حقهم في الاستفتاء، أو أن يمارسوا هذا الحق في أماكن وجودهم، وهو ما حصل فعلاً بالنسبة إلى اللاجئين الجزائريين الذين كانوا في تونس والمغرب قبل إجراء استفتاء تقرير المصير، وهو ما ينبغي أن يحدث بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين اليوم.

ولا بد من الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أن الاستفتاء لا يصلح في بعض الأحيان ليكون الوسيلة المثلى لممارسة الشعوب حقها في تقرير مصيرها، وذلك في الحالة التي لا تكون فيها أكثرية السكان في الإقليم من سكانه الأصليين، وتمنع الدولة القائمة بالإدارة عودة اللاجئين والمبعدين السياسيين، وهو ما كان قد حدث من قبل في جبل طارق عام 1969 خلال الاستفتاء الذي كانت نتيجته لمصلحة بريطانيا؛ بالنظر إلى أن معظم الذين اشتركوا في الاستفتاء كانوا من البريطانيين. وهو ما يحدث حالياً في فلسطين المحتلة، حيث عمدت "إسرائيل" إلى جعل أكثرية السكان في فلسطين من المهاجرين اليهود الذين لا تربطهم بفلسطين العربية أي رابطة أو انتماء، فاستقدمت اليهود من شتى أصقاع العالم، ولا سيما بعد صدور قانون العودة عام 1950 الذي منح كل يهودي حق العودة إلى "إسرائيل"، ثم صدور قانون الجنسية عام 1952، الذي يصبح بموجبه كل يهودي إسرائيلياً، أي متمتعاً بجنسية الدولة بمجرد وصوله إلى "إسرائيل".

وبموجب هذه القوانين بلغ عدد سكان دولة الاحتلال الإسرائيلي في نهاية عام 2020 9.327 ملايين نسمة، بينهم 6.894 ملايين يهودي ويشكلون قرابة 74 في المائة، بينما عدد العرب 1.966 مليون يشكلون ما نسبته نحو 21 في المائة، علما أن هذا المعطى يشمل الفلسطينيين في القدس المحتلة والسوريين في هضبة الجولان المحتلة. وهناك 467 ألفا يشكلون ما نسبته 5 في المائة يوصفون بآخرين، وهم من المهاجرين الجدد من دول الاتحاد السوفييتي السابق وليسوا يهودا، بحسب بيانات صادرة عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.

وبلغ عدد سكّان المستوطنين اليهود في الضفة الغربية المحتلة حتى نهاية عام 2020 465,906 نسمة، وهي زيادة بنسبة 42 في المائة مقارنة مع بداية العقد في حين يقدر عدد المستوطنين في القدس المحتلة بنحو 246,909 نسمة(2).

هذا في الوقت الذي بلغ فيه مجموع الشعب الفلسطيني حتى نهاية عام 2020، حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، حوالي 13.7 مليون فلسطيني، يتوزعون حسب مكان الإقامة؛ بواقع 5.2 ملايين في الأراضي المحتلة عام 1967 بما نسبته 37.7 في المائة من إجمالي عدد الفلسطينيين في العالم، وحوالي 1.6 مليون فلسطيني في أراضي 1948 بنسبة 12.0 في المائة، وبلغ عدد الفلسطينيين في الدول العربية 6.2 ملايين فلسطيني بنسبة 44.9 في المائة، في حين بلغ عدد الفلسطينيين في الدول الأجنبية حوالي 738 ألفاً بما نسبته 5.4 في المائة من إجمالي عدد الفلسطينيين في العالم(3).

واستناداً إلى ما سبق، فإن التغييرات السكانية التي قامت وتقوم بها "إسرائيل" تجعل من الاستفتاء وسيلة غير ذات جدوى وغير معبّرة عن إرادة السكان الحقيقية في تقرير مصيرها؛ لأن الاستفتاء لكي يكون معبراً بصورة صادقة ينبغي أن تتوافر له مقومات وأسس وضمانات واضحة بغية الوصول إلى الغاية الرئيسة المرجوة منه.

ثانيا: قرار صادر عن هيئة منتخبة ممثلة للشعب:

أما الوسيلة السلمية الثانية لممارسة حق تقرير المصير، فهي صدور قرار عن هيئة منتخبة ممثلة للشعب تحدد مصير الإقليم، وهو الأسلوب الذي اتُّبع في كل من السودان وموريتانيا والهند ونيجيريا. ويفترض في هذا الأسلوب أن يعبّر بصورة حقيقية وواقعية عن إرادة الشعب، ما دامت هذه الهيئة قد انتخبها الشعب بصورة ديمقراطية وعلى أسس واضحة وسليمة، وبطريقة تعبّر عن إرادة السكان الأصليين للإقليم(4).

لكن اللجوء إلى هذه الوسيلة أيضاً لا يخلو من بعض المحاذير والعقبات التي قد تعرقل الوصول إلى الغاية المراد تحقيقها. ومثال ذلك، رفض الدولة القائمة بالإدارة، ونقصد هنا بالتحديد "إسرائيل"، للقرار الصادر عن الهيئة المنتخبة، وذلك إذا ما جاء هذا القرار متعارضاً مع مصالحها، الأمر الذي قد يؤدي إلى الدخول في دائرة العنف والصراع. ويُخشى أيضاً تدخل الدولة القائمة بالإدارة بعملية انتخاب أعضاء تلك الهيئة بنحو قد يؤدي إلى تمثيل عناصر غير وطنية في تلك الهيئة أو عناصر لا تعبر عن الإرادة الحقيقية لسكان الإقليم، بحيث يكون ولاء تلك العناصر للقوى التي فرضتها أو يسّرت انتخابها، وعندئذ تعجز الهيئة عن اتخاذ القرار السليم الذي يتفق والغاية التي انتخبت الهيئة من أجلها.

وحتى في إطار هيئة منتخبة على مستوى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ودون مشاركة اللاجئين الفلسطنيين خارج فلسطين، لم تكن دولة الاحتلال الإسرائيلي لتقبل بالنتيجة مهما كانت.

ومن الجدير بالذكر أن حركة حماس المتمثلة في قائمة "التغيير والإصلاح" قد فازت بأغلبية مقاعد المجلس الثاني، حين حصلت على 74 مقعداً، كذلك فاز أربعة نواب مستقلين بدعم مباشر من حركة حماس، لتصل نسبة الفوز إلى (حوالي 60 في المائة).

رفضت "إسرائيل" نتائج الانتخابات التشريعية؛ إذ شكل فوز حماس مفاجأة وصدمة كبيرة لإسرائيل، وعلقت إذاعة الجيش الإسرائيلي في برنامجها الإخباري الرئيسي بقولها(5):

"إسرائيل تصاب بصدمة. إنها في ارتباك وبلبلة؛ لأنها لم تستعد كما ينبغي، ولم تبلور خطواتها المستقبلية.. إن استعجال أولمرت باستدعاء وزيري الدفاع والخارجية ورؤساء المخابرات وقادة الجيش إلى جلسة مشاورات، يعكس الارتباك الحاصل جراء القنبلة أو الهزة من العيار الثقيل التي فجرها فوز حماس؛ إذ ليس لدى هذه الحكومة سياسة واضحة، لا على المستوى التكتيكي ولا على المستوى الاستراتيجي".

سعت "إسرائيل" منذ اليوم الأول إلى إسقاط حكومة حماس وعرقلة أداء المجلس التشريعي بمختلف الوسائل، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز The New York Times في 14 شباط/ فبراير 2006 تقريراً عن خطة إسرائيلية أمريكية تهدف إلى عزل السلطة الفلسطينية، والتسبب بمعاناة للشعب الفلسطيني تجبره على إسقاط حكومة حماس وإعادة فتح إلى السلطة(6).

ثالثا: المفاوضات السياسية:

افترض مؤتمر مدريد للسلام (تشرين الثاني/ نوفمبر)1991 أن المفاوضات السياسية بين العرب ودولة الاحتلال تستند إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، ليشكّل هذا المؤتمر لاحقا الأرضية المناسبة لاتفاق أوسلو الذي عقد سراً في أوسلو (النرويج) ونشرته بعض وسائل الإعلام قبل الإعلان عنه وتوقيعه رسمياً في واشنطن يوم 13 أيلول/ سبتمبر عام 1993. وهو أول لقاء علني ومباشر بين ممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية وممثلين عن دولة الاحتلال.

كان ثمة تبادل للرسائل بين ياسر عرفات الذي ذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية تعترف بحق "إسرائيل" في الوجود بسلام وأمن، في حين قال إسحاق رابين: "قررت حكومة "إسرائيل" الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها ممثل الشعب الفلسطيني". وقد تصافح كل من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.

نص اتفاق أوسلو على انسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل من الضفة الغربية وغزة، وإنشاء "سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة" لمرحلة انتقالية تستغرق خمس سنوات (1998)، على أن تُتوج بتسوية دائمة بناء على القرار رقم 242 والقرار رقم 338، على أن نبدأ بعد ثلاث سنوات من الاتفاق، "مفاوضات الوضع الدائم".

تبع هذا الاتفاق اتفاقيات أخرى مثل اتفاقية غزة أريحا 1994، واتفاقية طابا أو أوسلو الثانية 1995. وقد قسّم هذا الاتفاق المناطق الفلسطينية إلى (أ) و(ب) و(ج)، تحدّد مناطق حكم السلطة الفلسطينية والمناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي وغير ذلك. ويقضي الاتفاق بانسحاب الاحتلال من ست مدن فلسطينية رئيسية و400 قرية في بداية عام 1996، وانتخاب 82 عضواً للمجلس التشريعي، والإفراج عن معتقلين في السجون الإسرائيلية، ثم اتفاق واي ريفر الثاني 1999.

حينما وقّع الفلسطينيون والإسرائيليون على اتفاق أوسلو في العام 1993، كان عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 نحو 253 ألفا، ولكن بمرور 28 عاما على هذا الاتفاق، فإن عدد هؤلاء المستوطنين بات يزيد عن 712 ألف مستوطن يعيشون في أكثر من 196 مستوطنة و232 بؤرة استيطانية، مسيطرة بذلك على 42 في المائة من مساحة الضفة الغربية.

هذا التزايد الهائل في أعداد المستوطنات والمستوطنين، حوّل أحلام المفاوض الفلسطنيي بإقامة دولة مستقلة على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وغزة)، هدفا صعب المنال، حيث يقيم هؤلاء المستوطنون داخل أراضي الضفة الغربية بطريقة يصعب معها أي تواصل جغرافي بين مدن الضفة الغربية وقراها، فضلا عن الجرائم المنهجية من قتل للمدنيين وسرقة للمياه وتدمير للبنى التحتية.

خلاصة القول:

استعرضنا بشكل سريع ثلاث وسائل سلمية يمكن للشعوب استخدامها لممارسة حقها في تقرير مصيرها وبناء دولتها. وهي أولا الاستفتاء الشعبي، وثانيا قرار صادر عن هيئة منتخبة ممثلة للشعب، ثم ثالثا وأخيرا المفاوضات السياسية. وقد خلصنا، من خلال أرقام ومعطيات، إلى تقييم قانوني يقضي باستحالة تطبيقها على النموذج الفلسطيني. أي أنه لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يمارس حقه في تقرير مصيره باعتماده على الوسائل السلمية المشار إليها في المقال أعلاه.

__________

(1) د. عمر إسماعيل سعد الله، تقرير المصير السياسي للشعوب في القانون الدولي المعاصر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص 270-271.

(2) راجع في هذا الصدد: Central Bureau of Statistics (CBS), in: www.cbs.gov.il

(3) مركز الإحصاء الفلسطيني، الفلسطينيون في نهاية عام 2020، رام الله، انظر: www.pcbs..gov.ps

(4) لمعرفة كيف نالت هذه الدول استقلالها، راجع موسوعة الدول العربية على شبكة الإنترنت: www.s77.com

(5) أسعد تلحمي، صدمة في "إسرائيل" من فوز حماس، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار، المشهد الإسرائيلي، 27/1/2006، انظر: http://www.madarcenter.org/almash-had/viewarticle.asp?articalid=2885

(6) Steven Erlanger, U.S and Israelis are said to talk of Hamas Quster, in the New York Times newspaper, 14/2/2006,see: http://www.nytimes.com/2006/02/14/international/middleeast/14mideast.html?_r=1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق