اللغة العبرية بين التطبيع والمقاطعة

 تعلم لغة العدو في الخليج لتكريس السيطرة والهيمنة

بقلم: راغدة عسيران

هل يعدّ تعلّم اللغة العبرية تطبيعا ثقافيا مع كيان الاحتلال أم مساهمة في مقاومته؟ هل الدعوة الى مقاطعة تعلّم هذه اللغة "تهور" و"شعار فضفاض"؟ هل يمكن اعتبار اللغة، بحد ذاتها، إطارا محايدا؟ وهل اللغة العبرية محايدة؟ لماذا تطرح أسئلة كثيرة حول الموضوع؟ أليس بسبب طبيعة هذا الكيان الإستعماري الإحلالي من جهة أولى، ودور اللغة العبرية في تمكينه من جهة ثانية، والشبهات التي تحوم حول المسألة من ناحية ثالثة، خاصة بعد موجة التطبيع الأخيرة، وتباهي المطبّعين بالحديث بلغة المستعمِر، وكأنهم اكتشفوا عالما جديدا ومغريا قد يفتح لهم آفاق المستقبل.

بنى الداعون الى تعلّم هذه اللغة دعوتهم على عدة أسس، أهمها:

يقول أحد الكتّاب إن اللغة العبرية لغة قديمة سبقت إقامة الكيان الصهيوني، وأنها (اللغة القديمة) لغة سامية شرق أوسطية، وعدم تعلمّها يعني "تقديمها على طبقٍ من ذهب للدولة "الإسرائيلية"، ما يعني أنها تشكل جزءا من موروثنا الحضاري، كشعوب عربية. يمزج الكاتب بين لغة الصهاينة اليوم، أي اللغة العبرية "الإسرائيلية" المستحدثة، من أجل توحيد ما اعتبرته الحركة الصهيونية "الشعب اليهودي"، واللغة العبرية القديمة. هل يتكلم الغزاة الصهاينة اليوم باللغة العبرية القديمة؟ ولماذا تتم الدعوة الى تعلّم اللغة العبرية بالذات وليس اللغات القديمة الأخرى، السامية والشرق أوسطية، (كالأرامية والسريانية وغيرها) إن كان الهدف هو المحافظة على الإرث الثقافي والحضاري للمنطقة؟ أو لماذا لا تتم الدعوة الى تعلّم اللغة العثمانية مثلا لفهم ماضينا القريب؟ هل المطلوب من الجماهير العربية، وخاصة الفلسطينية، تعلّم اللغة العبرية القديمة أم الحديثة التي يتكلّم بها الغزاة؟ فتعلّم اللغات القديمة من اختصاص اللغويين والمؤرخين وغيرهم من العلماء، والكثير منهم انكبّوا على دراستها ودراسة غيرها.

يعتبر البعض أن تعلّم اللغة العبرية إحدى وسائل مقاومة العدو، حيث يجب معرفة ما يقوله ويكتبه، أو كيف يفكّر وما هي مخططاته. في الوقت الحاضر، لا تخلو صحيفة فلسطينية أو عربية من ترجمة مقالات ودراسات صهيونية، تصدر في صحف العدو وعن مراكز أبحاثه المختلفة، إضافة الى وجود مراكز عربية متخصصة بهذا النوع من الترجمة، حتى باتت هذه الترجمات تعدّ أحيانا من بين أهم مصادر الأخبار والتوقعات في فلسطين والمنطقة، وأهم مصادر للدراسات عن فلسطين والدول العربية، من ناحية أخرى، دون أي حذر واحتياط ازاءهم. وبسبب الترجمة المكثفة للأخبار والتحليلات الصادرة في صحافتهم، يتم التضليل الإعلامي وبث الإشاعات المضرّة بالشعب الفلسطيني ووحدته، كون الصحافة الصهيونية تعمل إجمالا لصالح مخابرات العدو، وما الإشاعات حول أهل الناصرة والداخل المحتل عام 1948 إلا آخر مثال على هذا التضليل الذي انتشر خلال عملية "نفق الحرية".

بسبب الاعتقال والعمل، يضطر عدد كبير من الفلسطينيين تعلّم هذه اللغة، وهم يقومون بالدراسات المتخصصة والترجمات، كما أن للمقاومة أجهزة مختصة لمتابعة ما يكتبه العدو وما يصرح به يوميا، وحتى ما يخفيه. هل المطلوب أن تتعلّم الجماهير العربية اللغة العبرية "الإسرائيلية" لمعرفة ما يفكّر به العدو، أم أن قراءة هذه الترجمات كافية؟ هل يتوجب على الجماهير العربية معرفة تفاصيل حياة الغزاة المستوطنين في فلسطين، من خلال دراستها للغة العبرية "الإسرائيلية" والمشاركة في إشاعتها، أم أن بمقدورها فهم هذه الأمور من خلال بعض كتب ودراسات الباحثين العرب والأجاتب أو الكتب المترجمة؟ هل التعرّف على "المجتمع الإسرائيلي" لمحاربته من الداخل يتطلب معرفة اللغة العبرية "الإسرائيلية"، المكوّن الأساسي لمجتمع المستوطنين؟ أم أن إشاعة اللغة العبرية "الإسرائيلية" في فلسطين المحتلة والدول العربية يعني تكريس أهم مكوّنات الكيان الصهيوني؟

اعتبر أحدهم إن اللغة العبرية "الإسرائيلية" لغة محايدة، كما هي اللغات الأخرى، الفرنسية والانكليزية والألمانية وحتى العربية، لان الأصل والأهم هو المحتوى وليس اللغة، التي يمكن اعتبارها مجرد إطار لنقل المعلومة أو الفكرة. تنسف هذه المقولة كل الدراسات حول الاستعمار وسعيه للقضاء على اللغات الأصلانية وفرض اللغات الأجنبية على شعوب الكون، لأن هذه اللغات تنقل أكثر من كلمات، فهي تنقل وتفرض نمط حياة ونمط تفكير بسبب قوتها المادية، لا المعنوية أو الأخلاقية، وبالتالي تدمر ثقافة الشعوب لتفرض ثقافة غريبة وأقلية حاكمة تتماهى مع المستعمِر.

يكفي النظر الى الصراع حول اللغة العربية في المناطق المحتلة عام 1948 وفي القدس المحتلة ومدارسها، وكيف هوّد و"عبرن" الكيان الصهيوني أسماء المدن والقرى والجبال والأودية العربية، لدحض فكرة حيادية اللغة. ويكفي معرفة ما فعل الفرنسيون في الجزائر، الذين فرنسوا أسماء الاماكن ومنعوا تعليم اللغة العربية في المدارس، حتى اضطرت السلطات ما بعد التحرير الى استقدام جيش من معلمي اللغة العربية من كل الدول العربية لاستعادة مكانة اللغة العربية في البلاد، كون اللغة في قلب الصراع من أجل الاستقلال.

لكن، إضافة الى تدمير لغات شعوب العالم، لقد قامت اللغات المسيطرة عالميا على تدمير اللغات "الصغيرة" في بلدانها، ثم قامت بعد ذلك بتعليم بعضها في جامعاتها كلغات منقرضة وقديمة، أي لنخبة باحثين أو مهتمين، بعد أن تم تدمير محتواها الفكري، كما فعلت الدولة الفرنسية مع لغات مناطقها.

ومن أجل سيطرة اللغة العبرية "الإسرائيلية" على مجتمع المستوطنين، لقد دمّر كيان العدو لغات الجاليات اليهودية العربية التي استقدمها الى الكيان ليجعل منها مستوطنين صهاينة. هل كانت الجاليات اليهودية المغربية أو العراقية أو اليمنية تتكلّم اللغة العبرية "الإسرائيلية" قبل اقتلاعها وتحويلها الى مستوطنين؟ تؤكد عملية صهينة اليهود العرب وغيرهم (الفلاشا الأثيوبيين) عبر اللغة العبرية "الإسرائيلية" أنها غير محايدة، وأنها أداة دمج وصهينة بالأساس، والمحافظة على لغات الشعوب لا تستوجب تعلّم لغة المستعمِر، بل لغات هذه الشعوب المقهورة.

هل يمكن أن تكون الآداب مختلفة عن السياسة في مجتمع المستوطنين؟ لقد تم ترجمة معظم المؤلفات "الإسرائيلية" الى لغات أجنبية ويتضح أكثر فأكثر أن أدبياتهم لا تختلف كثيرا عن العقلية الصهيونية الاستعمارية.

في مقاله عن الكاتبة الإيرلندية سالي روني، التي رفضت ترجمة كتابها الأخير الى اللغة العبرية، وقد وضّحت أنها لا تعارض هذه اللغة بحد ذاتها بل دور النشر الصهيونية، يذكّر الكاتب رمزي بارود أن اللغة العبرية لم تكن يوما لغة للتواصل الثقافي والتعايش السلمي، بل لغة تبث التمييز العنصري والكراهية. ورغم وجود كتّاب "إسرائيليين" معارضين لسياسة كيانهم الاستعمارية والإرهابية، لا تتحمّل هذه اللغة المستحدثة لإقامة كيان استيطاني، كتاباتهم الناقدة. لقد كتب معظمهم باللغة الإنكليزية وتصدر لهم كتابات ناقدة للكيان باللغات الأجنبية، ولا يقرأ كتبهم ومقالاتهم باللغة العبرية "الإسرائيلية" إلا القليل من جمهورالمستوطنين، كونهم منبوذين وغير معترف بهم. من يريد معرفة المجتمع الصهيوني المستعمِر، عليه قراءة كتبهم وأبحاثهم باللغات الأخرى وليس بالضرورة باللغة العبرية "الإسرائيلية".

إن لم يكن مجرد تعلّم اللغة العبرية "الإسرائيلية" نوعا من التطبيع مع كيان العدو، فالتطبيع يبدأ مع محاولة تقديم الحجج لتعلّمها وإشاعتها واعتبارها لغة محايدة وفصل الحياة السياسية في المجتمعات "الإسرائيلية" عن حياتها الثقافية والأدبية والرياضية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق