إنغماسيّون في وطن.. “بلا ولا شي”!

 



في يومٍ من أيّام نيسان/ أبريل 1991، استقلّيتُ التاكسي فجراً، قاصدةً مبنى عملي في إذاعة الشرق. كنتُ قد وصلتُ للتوّ إلى باريس، وكلّ شيءٍ من حولي يرشح وحشةً وغربةً. في الدرب، توقّف بنا السائق، أقلّه، ثلاثين مرّة. أي، كلّما لاح له ضوءُ شارة المرور الأحمر.

أقلّ من عشرين دقيقة كانت المدّة التي يستغرقها مشواري، من بيتي في الدائرة الـ 15 إلى مبنى الإذاعة في الدائرة الـ 16. دقائق معدودة بدت لي دهراً. إذْ ضقتُ ذرعاً بتلك الأناة في القيادة. فالتوتّر كان يجتاح أعصابي، خوفاً من تأخيرٍ يعيق انطلاقي بنشرة أخبار الصباح. وبنزق الجاهل، قلتُ للسائق الفرنسي: “هل ترى يا سيّدي غيرنا في الشوارع؟ لماذا كلّ هذه الانتظارات الطويلة على الشارات الحمر؟ أيّ مخلوقٍ يمكن أن يلمحنا في مثل هذه الساعة؟”. تأمّلني الرجل في المرآة بوجهٍ أصفر (تمكّنتُ من رؤيته برغم العتمة)، وسألني بعد هنيهة ببرودة: “من أيّن أنتِ يا مدام؟” (ويقصد طبعاً معرفة جنسيّتي). “من لبنان”، أجبته. “ولكن لماذا تسأل؟”، أردفت. “هكذا.. مجرّد سؤال”، قال متمتماً، لتنتهي محادثتنا عند هذا الحدّ.

في ما بعد، كَفَفْتُ عن طرح هذا النوع من الأسئلة على الفرنسيّين. بعدما تظهّر لي، يوماً بعد يوم في غربتي، أنّ محادثتي تلك، كانت عيّنة ممّا يسمّونه في هذا العصر “صدام الحضارات”. أدركتُ، كم إنّ حجم الفروقات (الثقافيّة) هائل بين الشعوب. بين حضارتنا ودولنا، وبين بعض حضارات الغير ودولهم. فأنا الآتية، حينذاك، من غابةٍ كان اسمها لبنان في تسعينيّات القرن الماضي، كنتُ معتادة على مشاهداتٍ أخرى. على رؤية السيّارات، مثلاً، تتسلّق على بعضها البعض. وعلى البشر، أيضاً. فلم أستوعب، لماذا يتوقّف سائقٌ عند الساعة الثالثة فجراً على إشارة مرور!

للأمانة، لم أكن قد رأيتُ شارة مرور، في كلّ حياتي. الّلهمّ إلاّ في الصور والأفلام القديمة! لذا، اعتبرتُ سلوك ذاك السائق الفرنسي، يومها، بمنتهى السذاجة. لم “أهضم” مسارعته للفَرْملة، طالما أنّ الشوارع وتقاطعات الطرق كانت شبه فارغة من السيّارات والمشاة. وطالما أنّ احتمالات “انقضاض” “شرطيٍّ ما” عليه لتحرير مخالفة بحقّه، كانت شبه معدومة، أيضاً. فلا شرطة ولا مَن ينقضّون. مسكينة يا أنا. كنتُ مثل “أليس” في بلاد العجائب! أي لستُ بوارد الاستيعاب، أنّ هناك شيئاً إسمه قانون سير في فرنسا يجب التقيّد به. أنّ هناك شيئاً إسمه قوانين في الحياة يجب احترامها. بنظري، كان القانون “شيئاً” لا يمتثل إليه الإنسان إلاّ للنجاة من العقاب! لكن، لماذا تذكُّر هذه السالفة الباريسيّة اليوم؟

بسبب حال “الهرج والمرج” التي نشهدها في لبنان، بعدما أصبح فيروس كورونا خارج السيطرة. بعدما بات اللبنانيّون قاطبةً، يقفون، جنباً إلى جنب، مع الموت. وبينما كلّ المعطيات تؤكّد الوتيرة المتسارعة بزخمٍ موصوف لعدّاد ضحايا المسار الوبائي في لبنان، نجد معظم شعبه يبحثون عن طريقة للتحايل على إجراءات الوقاية التي تفرضها الدولة. فمنذ ظهور أوّل حالة كورونا في لبنان في 21 شباط/فبراير 2020، والناس يتعاطون مع الجائحة عَمَلاً بنصيحة إخوانهم الطليان القائلة “كلّما استُنبِط قانون، استُنبِطت طريقة للتخلّص منه”. لأكثر من خمس عشرة مرّة خلال الأحد عشر شهراً الماضية، حاول المجلس الأعلى للدفاع في لبنان أن يفرض تدابير لكبح جماح تفشّي الفيروس. تراوحت هذه التدابير بين: إقفالٍ محدود، وحظرٍ جزئي للتجوّل، وإعلان التعبئة العامّة، ومن ثمّ تمديد التعبئة، وصولاً إلى إقفال البلاد بشكلٍ كامل لأحد عشر يوماً (تنتهي في 25 كانون الثاني/يناير الحالي).

وطوال شهور المحنة (العالميّة)، والمسؤولون في دولتنا الفاشلة يُخفقون في فرض هيبة القانون على الناس. فشلوا. وفشلهم، بلغة الرياضيّات، منطقي. ففي الدولة الفاشلة يرتع، عادةً، مسؤولون فاشلون. والمسؤولون الفاشلون، لا يمكنهم إلاّ أن يفشلوا في كلّ ما يفعلون، لو كانوا يعلمون! فمحاولاتهم فاشلة، كونها تصدر عن أناسٍ فاشلين. والفاشل لا يمكن أن يحظى بهيبة يهابها الناس (تكلّمنا عن هذا الموضوع في مقالة الأسبوع الفائت). إذن، “يا عين صبّي دمع..على هيبة محبوبي”. وبعد؟

يشحذ مسؤولونا الطاعة من المواطنين، كيلا يسرحوا ويمرحوا في الأماكن العامّة والخاصّة حتّى. لكن عبثاً. يحاولون إقناعهم بخطورة المخالطة في هذه الأيّام الصعبة. لقد نذر المسؤولون الساهرون، أبداً، على حُسن ووحدة المعايير بين الناس وعلى “حقوق أولاد ملَّتهم”. تضرّعوا لجميع القدّيسين والأنبياء. التمسوا “معجزاتهم” كي تُلهِم شعب لبنان العظيم والبائس الاتّعاظ، رحمةً بأرواحٍ بقيت عصيّة على عزرائيل. وعزرائيل هنا، هو الاسم الفنّي للطبقة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة. عجز القدّيسون والأنبياء، معاً، عن جعل بعض اللبنانيّين الأشاوس يعتزلون، ولو مؤقّتاً، الغرام وحضور الاحتفالات والمناسبات الاجتماعيّة التي تحوّلت إلى سلاحٍ فتّاك. لكن، كلّ محاولات المسؤولين والقدّيسين باءت بالفشل (قلنا إنّهم فاشلون فلم تصدّقوا). فلا رأي لمَن لا يُطاع.

لكن، لماذا يتصرّف اللبنانيّون بهذا الاستهتار؟ لماذا تذاكيهم في التحايل على القانون؟ لماذا، كي يخرقوا الحظر، يدفعون المال ليزوّروا بطاقة صحافي أو صيدلي أو طبيب أو موزِّع ديليفيري..؟ لماذا نريد في بلاد الغير أن نعيش بالقانون، ونريد في بلادنا أن نعيش بالاستثناءات؟ لماذا في بلاد المهجر يطأطئ اللبناني رأسه للدولة والقوانين، ويدوس في بلده على هيبة الدولة والقوانين؟ هل هي الرغبة في المشاكسة والتمرّد؟ أم الجهل؟ هل هي الرغبة في التحدّي والدلال؟ أم اليأس؟ أم مااااااااذا؟ هناك شقّان للإجابة.

أحدهما يعود إلى طبيعة “اللبناني”. والآخر يعود إلى طبيعة علاقة هذا “اللبناني” بالدولة. صحيحٌ أنّ ثقة اللبناني بدولته معدومة أزليّاً. إنّما ما يحدث اليوم، خطير للغاية بقدْر ما هو مُحزِن. فاللبناني بات يعتبر، أنّ حياته قصيرة لكنّ المصائب تجعلها طويلة. اللبناني بات يعتبر، أنّ السلطة بما وبمَن تحويه من سياسات ومسؤولين، باتت، بذاتها، حقل ألغام قابل للانفجار فيه، في أيّ لحظة. لا يثق اللبنانيّون بأيّ إجراءٍ أو تدبير تتّخذه هذه الطبقة الحاكمة، بذريعة النيّة في حمايتهم من الموت الأصفر. فكلّ ما يصدر عنها، هو بالنسبة إليهم مثل الـ fake news. بمعنى أوضح، كلّ ما يصدر عنها، ليس إلاّ “ضرباً” من عُدّة النصْب للحُكّام. فجميع هؤلاء، ومن دون استثناء، هم بالنسبة للّبنانيّين كاذبون ومرتَهَنون. وبالتالي، لا يمكن أن ينطقوا بحرفٍ، إذا لم يكن يصبّ في مصلحتهم الخاصّة والضيّقة. لا يصدّق اللبنانيّون مطلق شيء يصدر عن دولتهم. لكنّهم، بالمقابل، يصدّقون كلّ شيء يصدر حولها. أي كلّ المعلومات والأخبار التي تتناولها. بالعاطل أو بالجيّد. لا يضعون تفصيلاً يمتّ إلى حُكّامهم بصلة، في خانة الشائعات. مثل الخبر الذي تمّ تداوله، قبل أيام، عن توجّه لاحتكار اللقاحات لتلقيح الرؤساء والنواب والوزراء والمدراء العامّين..إلخ.

“جسم دولتنا لبّيس”، كما يُقال. فشتّى صنوف ثياب الحرام والسوء والإجرام والارتكابات، تليق بها. وإذا كان بعض اللبنانيّين ما زالوا رافضين الالتزام بأدنى معايير الوقاية، فلأنّهم ما زالوا يصرّون على أنّ الوباء “كذبة”. بعضهم مقتنعون، يا أصدقاء، بأنّ الكورونا في لبنان هي كذبة من كذبات السلطة، ومؤامرة من مؤامراتها. كيف لا، وحُكّامنا يكذبون مثلما يتنفّسون؟ كيف لا، وقياداتنا العسكريّة والأمنيّة تؤمن بالقوّة أكثر ممّا تؤمن بالعدالة؟ كيف لا، وقضاؤنا بات مُدرَجاً على لائحة المفقودين في لبنان؟ كيف لا، وقياداتنا السياسيّة تظنّ أنّ أخبار ممارسة عهرها، في العتمة كما في الضوء، تحظى بالاهتمام؟ أنّ أخبار مماحكات لصوصها، صارت كالخبز الذي تقف الناس في الطوابير من أجل الحصول عليه!

يفترض حُكّامنا، أنّ العالم يحبس أنفاسه ترقّباً لولادة الحكومة العتيدة. يتوهّمون أنّ أعداءنا (وما أكثرهم)، يقفون على “إجْر (قدم) ونصّ” بانتظار المفاعل النووي الذي يتمّ تصميمه، بالتكافل والتعاون، بين أروقة بعبدا ودوائر بيت الوسط!

يقول Johann Goethe أحد أعظم أدباء ألمانيا، “إنّ الدجاجة حينما تقول قيط قيط وتكون تريد أن تبيض، فهي تظنّ أنّها سوف تبيض قمراً سيّاراً”. حُكّامنا مثل تلك الدجاجة. يُخيَّل إليهم، أنّ ما قاموا أو يقومون أو سيقومون به، جليل القدْر. لا يعرفون أنّ كلّ شيء يتغيّر (تغيّر؟). أنّ الناس قد تغيّروا. أنّ المواطنين التعساء أصبحوا يأخذون الكوميديّين على محمل الجدّ، ويأخذون السياسيّين على محمل المزاح. كلّ سياسيّينا، كبيرهم وصغيرهم والكوامخ بينهما، أمسوا في هذه الأوقات العصيبة مجرّد مهرّجين في عيون الغالبيّة الساحقة من اللبنانيّين. ولكن، ليس أيّ نوعٍ من المهرّجين! مهرّجين فاشلين، لا يثيرون سوى الضوضاء والمتاعب من حولهم. هم نوعٌ من المهرّجين، يشبه الديناصورات. وهو نوعٌ من أصل نوعيْن من الأشياء، التي يمكن رؤيتهما، حصراً، من الفضاء: عجزهم، وجبال الهيمالايا.

إذن، هي هذه الفجوة الرهيبة بين المواطن اللبناني والسلطة التي تحكمه. فجوة، يسمّيها علم السياسة “أزمة ثقة” بين المواطن والدولة. ويُعَدّ مفهوم “الثقة السياسيّة”، أحد المفاهيم المهمّة في ظلّ ما تشهده بعض دول عالمنا اليوم، من أزماتٍ واتّساعٍ لدوائر عدم الثقة بين الحكومات وبين أفراد المجتمع. “الثقة السياسيّة” هي، إذن، سمة مجتمعيّة وليست فرديّة. بحيث، يشارك الأفراد ويستفيدون من “ثقافة الثقة”، أو من المؤسّسات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعزّز سلوك الثقة. وفي هذا الإطار، يُعرّف عالم السياسة الأميركي Jack Citrin انعدام الثقة، بأنّه “حالة من العداء تجاه القادة السياسيّين والاجتماعيّين ومؤسّسات الحُكم والنظام. والتي تعبّر عن حالةٍ من سخط الرأي العامّ تجاه الحُكّام، بسبب فشلهم في تلبية احتياجات المواطنين أو تلبية توقّعاتهم. ما يؤدّي، بلا ريب، إلى تآكل الشرعيّة السياسيّة”.

هل من كلامٍ يعكس واقعنا أكثر من هذا القول؟ كلا. ماذا بعد؟

لا يخجل المواطن اللبناني، عموماً، من الخروج على القانون. وإذا ما أردتَ أن تصيب الحقيقة في فهم الذاتيّة اللبنانيّة، يقول أستاذ الفلسفة اللبناني مشير عون، “فإبحث عنها في ما تخفيه الاجتماعيّات اللبنانيّة من مواربات تُبطِل كلّ مساعي الإصلاح الحقيقي”. وهذه المواربات هي أحد مرادفات التحايل (المشار إليه آنفاً). فالثقافة السائدة في مجتمعنا اللبناني، لا تخدم، بأيّ شكلٍ من الأشكال، احترام القانون والمحافظة عليه. ليس عندنا الوعي الكافي لذلك. فهذه الثقافة، هي عطبٌ متأصِّل في وطننا الصغير. لكنّنا اكتسبنا “مهارات” خرق القانون اكتساباً، أبّاً عن جدّ. ربّما، “ساعدتنا” الظروف السيّئة التي عاشها أجدادنا وآباؤنا، متنقّلين بين وصايةٍ ووصاية. وهكذا، إعتاد اللبنانيّون أن يروا “السلطة”، التي من المفترض أن تطبّق القانون وتعاقب على اختراقه، وهي تتحوّل إلى جمعيّة توعية (فاشلة) ليس أكثر. سلطة، تعلن استسلامها أمام اللبنانيّين الذين يضعون أنفسهم فوق القانون (وغالباً ما ينجحون). “شو وقفت عليّي؟”، هي العبارة – السؤال الشهيرة التي يردّدها اللبنانيّون، كلّما واجهوا موقفاً محرجاً. أو كلّما ارتكبوا “خطأً ما” أمام أحدهم. يمتشقونها لتبرير ما يقومون به. وللإشارة إلى أنّهم ليسوا الوحيدين الذين يخطئون.

كلمة أخيرة. بنظر علم الاجتماع، فإنّ المحنة في الحياة اليوميّة للناس تُتَرجَم عبر مواقفهم وممارساتهم وتمثّلاتهم حول أنفسهم وحول المجتمع، وعبر إحساسهم بغياب العدالة وشعورهم بالمعاناة. في زمن الكورونا، يحاول بعض اللبنانيّين تنفيس هذه المشاعر بالأسلوب الخطأ. فإذا بهم كالإنغماسيّين الإرهابيّين، يندسّون ليزرعوا الموت بين المدنيّين، ببذار أجسادهم. وكأنّي بهم كمَن يقول، “أرغبُ في ارتكاب تلك الجريمة التي سُجِنتُ بسببها ظلماً”! إسمع يا لبناني ما صدح به ذات يوم، الشاعر الكبير محمود درويش: “قلْ للناس أيّها الأمير! نحن الضحيّة التي جُرِّبت فيها كلّ أنواع القتل. لكنّنا الأعجوبة التي لا تموت. ولا تستطيع أن تموت”. إقتضى الإنصات جيّداً.. للقانون ولمحمود درويش.

ينشر بالتزامن مع موقع post180


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق