في أوقات الحروب، وعند ذراها العالية المشتعلة، تصرفان بائسان اختلقا لضرب ظهر المجاهدين، وكسر الإرادة والعزيمة وتمييع وعيهم وصرفهم عن فهم واستيعاب ما يحدث فعلًا على الأرض، وطمس بطولات أشرف وأعز أبناء هذه الأمة، وتفتيت الروحية الإيمانية التي تجسدت بين مواطني غزّة وصمودهم المبهر، واستمرار مجاهدي الفصائل كلها في قتال مرير ضدّ أعتى آلة حرب عرفتها البشرية، واستمرار جبهة جنوب لبنان واليمن في إسنادها، بالرغم من الكلفة الهائلة التي يتحملانها، في مشهد لا تلخصه سوى كلمة "معجزة".
وسط فوضى القتال وحمامات الدم الجارية، برعاية مباشرة من أميركا وأوروبا، ومشاركة باليد واللسان والقلب لأنظمة عربية رسمية متصهينة، ومع ثبات القلة المؤمنة في جبهات القتال كلها من غزّة إلى الضفّة الغربية إلى جنوب لبنان مرورًا بسورية والعراق وإيران وصولًا إلى اليمن، فإنّ الإعلام الصهيوني عبر تابعيه العرب، قد اختار اللحظة لتقديم كأس السم للأمة، في صورة تسيّيد مشهد ما يحدث في مستشفى الشفاء في غزّة، وجرائم الحرب الصهيونية المتكرّرة ضدّ كلّ شعب عربي اختار المقاومة والمواجهة، ورفض خيار الخنوع والذلة، وجعله الصورة الوحيدة القائمة في المنطقة، وصرف الانتباه عن كلّ ما عداه من صور البطولة والإنجاز.
التصرف مع ما يحدث في مستشفى الشفاء ليس جديدًا، ولا هو اختراع صهيوني. صاحب براءة اختراع الإرهاب الجماعي الأبشع في التاريخ هو الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة التي مارست هذه العملية مرارًا وتكرارًا في تاريخها المشين، حتّى أصبحت بحق هي صبغتها على الحضارة الإنسانية، والكيان لم يفعل شيئًا سوى استيراد الفكرة وتطبيقها، بداية من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا مرورًا ببحر البقر وقانا الأولى وقانا الثانية، ثمّ غزّة، أطول مأساة عرفها العرب في تاريخهم الطويل.
ارتبط الإرهاب الأميركي الأول بالحرب العالمية الثانية، وما بعدها، حين اخترعت القاذفات النفاثة الثقيلة، القادرة على نقل أكبر ما يمكن نقله من شحنات دمار إلى كلّ جغرافيا العدو، وأسهم المجهود العلمي للجامعات الأميركية "المرموقة" في تخليق أبشع أسلحة الدمار الشامل، وبعيدًا عن قصّة القنبلة النووية، الولايات المتحدة قامت بغارة منسية على العاصمة اليابانية طوكيو ليلة 9/10 آذار 1945، كان ضحاياها أكثر من ضحايا قنبلة هيروشيما الذرية.
البداية كانت مع توصل فريق علمي، في جامعة هارفارد، على رأسهم العالم لويس فيزر، بتطوير سلاح حارق يمكنه الوصول إلى المخابئ والتدمير الذي يشمل المسح الكامل للمناطق المستهدفة، وفي الليلة الموعودة وتحت اسم عملية "منزل الاجتماع"، حشدت الولايات المتحدة 279 قاذفة طراز "بي - 29"، واستبدلت ذخائرها التقليدية بـ 1665 طنًا من "النابالم" الحارق والفسفور الأبيض، لتدمير وحرق أكبر مساحة ممكنة من عاصمة اليابان بمنازلها الخشبية الشهيرة، ومع العواصف التي نشرت عاصفة النار الجهنمية، قتل ما يزيد عن 100 ألف إنسان، وأصيب أضعافهم، وتشرد نحو مليون إنسان، وهذه هي أكبر محرقة للبشر في يوم واحد.
كانت عمليات القصف الأميركي لمدن دول المحور بصفة عامة تعرف باسم "حملات القصف الاستراتيجي"، وهي كانت مجرد مثال على ما سيكون عليه شكل الحروب الأميركية في المستقبل، من فيتنام إلى أفغانستان ثمّ العراق، وهي حملات ممنهجة تتقصد السكان المدنيين والمدن بشكل أساسي، ولا توجه لأي هدف عسكري أو صناعي. وتستهدف في المقام الأول شرعية حكومة العدو، إذ إن أي نظام سياسي يتحدد ولاء شعبه له عبر قدرته على الحماية، فإن سقطت في خضم النار الأميركية تهتز الجبهة الداخلية بعنف، وتبذر فيها الخلافات والمشكلات والأزمات، هي في النهاية فكرة شيطانية لكسر إرادة القتال عند طرف ما، بوصوله إلى وضع "الكفر واليأس" من المقاومة.
هذا ما يحاول الكيان الصهيوني بالضبط الوصول إليه في غزّة، عبر ممارسة ممنهجة وواسعة للقتل الذي يبدو عشوائيًا، وعبر حصار التجويع، أو السماح بدخول قافلات إغاثة غذائية ومن ثمّ قصف المواطنين المتجمعين حولها، وتصوير كلّ ما يحدث بشكل فوري، ونشره على أوسع نطاق، والهدف الوصول إلى مرحلة أن يستثقل الجميع الثمن المدفوع في المقاومة، أن يكون الاستسلام ودعاته هم العقلانيون، لا الخونة.
اليوم، مر على بداية عملية طوفان الأقصى المباركة 173 نهارًا وليلة، أثبتت فيهم الروحية الجهادية الحاضرة في الساحات قدراتها المبدعة الخلاقة، وكتبت من جديد أن البندقية العربية انتصرت في يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وفي كسر كلّ معادلات العدوّ وتفتيت جدران أمنه وتحطيم دفاعاته وفرقه العسكرية، وبددت الثقة في سلاحه وكفاءته، وأكثر ما يرعب العدوّ ليس فكرة الهزيمة، فهي قد وقعت بالفعل، لكن فكرة أن البندقية التي انتصرت في طوفان الأقصى باقية ومرفوعة ببأس وإصرار، وهي قادرة على الانتصار في أيام أخرى غيره، قادمة أكيدًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق