احتفل محرّك البحث الأشهر، "غوغل"، بمرور 25 عاماً على تأسيسه في 27 سبتمبر/ أيلول. الشركة التي بدأت كمشروع رسالة دكتوراه في جامعة ستانفورد تحولت إلى "عملاق رأسمالي" عابر للقارات. الموقع ذو الواجهة البسيطة التي لم تتغير طوال سنوات يتربع على قمّة محركات البحث، بل وطغى على تلك التي أصبح الحديث عنها نوعاً من الحنين إلى ماض غابر كـ"ياهو"، خصوصاً في ظل تطوره ليشمل الترجمة والصور والأبحاث مع الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، جاعلاً زرّ "أشعر بأنني محظوظ" دافعاً للاكتشاف الذي احتفت به الشركة في بيانها الذي عنونته: "شكراً على 25 عاماً من الفضول".
سطوة "غوغل"، كما يرى دينيس دانكن في كتاب "الفهرس، تاريخ مغامرة بين الكتب من مخطوطات العصور الوسطى إلى العصر الرقمي" الصادر العام الماضي، تكمن في كونه فهرساً عملاقاً لكلّ ما هو على الإنترنت، وتحديداً لأسلوب الترتيب الذي يعتمده، وهو الشأن السياسي والإعلاني الذي نحاول كل يوم الخوض فيه، إما للإشارة إلى ما يختفي عن محرك البحث هذا أو ما يفرض علينا في صفحته الأولى.
الصراع على الصفحة الأولى
تشكل الصفحة الأولى في "غوغل" محطة "حرب" لا يمكن تجاهلها. شركات بأكملها تعمل وتضخ محتوى لتهيمن على أول خيار في صفحة نتائج البحث. و"غوغل" لا تتوانى عن مقاضاة من يدعي قدرته على التأثير في ما يبرز على هذه الصفحة. في الوقت نفسه، تتعرض للمقاضاة بسبب احتكارها للإعلانات الرقميّة وتوزيع النتائج. الملايين تدفع بهدف السيطرة على الصفحة الأولى من نتائج البحث، لدرجة أن هناك نكتة رائجة تقول: "إن أردت أن تخبئ شيئاً بعيداً عن أنظار العالم، ضعه في الصفحة الثانية من غوغل"، والمعنى هنا أن لا أحد يتجاوز الصفحة الأولى.
لا تكتفي "غوغل" بالهيمنة على محركات البحث، بل أصبحت جزءاً من الحياة اليومية ولغتها، فكلمة "غوغل" دخلت المعاجم الإنكليزية بوصفها فعل البحث على محرك غوغل، في حين أنها لم تدخل اللغتين الفرنسية والعربية على الرغم من استخدامها وتصريفها في الحياة اليوميّة باللغتين. وهنا المفارقة، الكلمة تعني حسب البعض رقم واحد وبعده مئة صفر، لكن استخدامها المعاصر كفعل يعود إلى الشركة نفسها، خصوصاً أن فعلاً كهذا لا يمكن أن يكون موجوداً من دون محرك البحث.
مخاوف حقوق الملكيّة
مسيرة "غوغل" لا تخلو من الإشكاليات القضائية والفكرية، إذ اشتعل جدل عالمي عام 2019، مع رواج قوانين إصلاح حقوق الملكية الفكرية (DMCA) التي نصت في بعض الدول لا فقط على تغريم وتجريم المنصات التي تنشر محتوى مقرصن، بل والمنصات التي تسهّل الوصول إليه، ما يعني بداية "غوغل". لكن هذه التعديلات لم تطبق كونها تهدد "كل" الإنترنت وحرية تبادل المعلومات. مع ذلك لم يتوقف "غوغل" عن السعي للوقوف بوجه انتهاك حقوق الملكيّة، إذ ترد أخبار متفرقة عن قيام "غوغل درايف" بتحذير المستخدمين من المحتوى المقرصن المحفوظ لديهم، تحت تهديد حذفه.
المنافسة المتوحشة
لا يخفى على أحد أن "غوغل" شركة رأسمالية في النهاية، تشتري المنافسين وبراءات الاختراع وتحاول السيطرة على السوق، كما حين اشترت "يوتيوب" عام 2006 لتتحول إلى أكبر منصة مشاركة للفيديو ودفعت منافسيها إلى الخفاء كـ"ديلي موشن". فلا شركة قادرة على منافسة "غوغل"، والأفضل هو الانصياع لشروط الاستحواذ عوضاً عن المنافسة. استحواذ "غوغل" على أي منافس أو تكنولوجيا جديدة تتضح ملامحه في فيلم The Billion Dollar Code الذي يقدم نسخة متخيّلة عن الطريقة التي استحوذت فيها الشركة على الكود الخاص بنظام الخرائط من مبرمجين أوروبيين، وحولته إلى منتجها الخاص، بعد أن كان عملاً فنياً لتحقيق الحلم بالطيران حول العالم.
انطلاق محاكمة "غوغل": عودة إلى 1998
التأثير على المخيّلة و"استبدال العالم"
تناقش العديد من الأعمال الفنية المعاصرة أثر "غوغل" على المخيلة الإنسانية ووعي الأفراد بالعالم من حولهم، أبرزها تلك التي ترى أن نتائج صور بحث "غوغل" استبدلت مخيلتنا عن العالم، فأصبحت الكلمة سواء كانت شجرة أو كرسي أو أي شيء، تمتلك مرجعية في صفحة البحث، لا مرجعية واقعيّة نحتفظ بها في مخيلتنا، ما يعني إمكانية تلاعب "غوغل" بالصور النمطية وقدرتنا على إدراك العالم. تبدو المقاربة السابقة أقرب للخيال العلميّ، لكن لنفكر: إن أردنا أن نعرف شكل شيء ما، فنحن نبحث عن صورته في "غوغل"، لا في الواقع أو الكتب، وهذا بالضبط ما يراه البعض تهديداً لصورة العالم التي نمتلكها في عقولنا.
الكلمات المفتاحية عوضاً عن الحفظ
لن نحاول نفي أهمية محرك البحث ودوره في تغيير تقنيات الكتابة والإبداع والوصول للمعلومات، خصوصاً أنه كسر احتكار المعلومة وصعوبة البحث عنها، لكنه في الوقت نفسه هدد الذاكرة، إذ لم يعد الحفظ مهارة مطلوبة، بل استبدل بمهارة البحث، وتحديداً في صياغة الكلمات المفتاحية (أي تصفح الفهرس) وذلك لكي نصل للمعلومة التي نريد بأقل عدد ممكن من الكلمات والنقرات. هذه المهارة "الجديدة" غيرت أسلوب تعاملنا مع العالم من حولنا، لم يعد السؤال كيف أجد هذه الكلمة أو المعلومة في كتاب، بل ما هي الكلمات التي يجب أن أكتبها كي أصل إليها عبر "غوغل".
حالياً مع دخول "غوغل" عالم الذكاء الاصطناعي، سيتغير أسلوب البحث. الكلمات لم تعد مهمة، بل السؤال نفسه. نسأل "غوغل" سؤالاً، ليتولى البحث والتصنيف والترتيب. وكلما ازدادت دقة السؤال ازدادت دقة الإجابة، خصوصاً أننا حالياً أمام ميزة "إكمال السؤال" التي يقدمها محرك البحث، والتي تحولت إلى برنامج ترفيهي. وهنا نحن أمام سؤال مرعب، ما هو كم المعلومات التي يمتلكها غوغل عن "العالم"؟ بل ماذا لو اكتسب الذكاء الاصطناعي استقلاليته واستخدم هذه البيانات، فما هو مصيرنا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق