أحد عشر قمرًا بزغوا


بقلم: هيثم أبو الغزلان

     يحاول الأحياء رثاء القادمين من قرص الشمس.. ولكن، لا الأحرف احتوت القادمين، ولا سلك الراثون سُبُل العروج إلى سماوات المجد؛ حيث تموت الكلمات عند أقدام الشهداء، الذين يرسمون بدمهم أفق المرحلة. 

انتثرت أجسادهم في فيافي الوطن، وفي بياراته، وعلى عريشة الدالية وشجرة التين سقط بعضها، فقَصَّت علينا حكاية المجد، وسِفر الخلود. رتّلت آيات التين والزيتون، وجراح الحسين جرحًا جرحًا، وصرخة الشيخ القسام في يعبد أن موتوا شهداء، فارتفع نخيل الرّوح لمن عانق الموت لِيَهب للآخرين الحياة. 

   انتثر كل شيء فيهم.. فذابوا بطمي الأرض حينًا، وببهاء حضورهم يعودون في كل حين. كانوا مثل فرسان "بدر" يجولون، ومثل الفرسان على الجبل لا يغادرون القتال.. هم: جهاد، وخليل، وطارق، وإياد، وعلي، وأحمد، ومحمد، وعليان، وعبد الحليم، وسائد، ووائل.. سيوفًا، وصواريخ، وصلاةً، وتهجّدًا، وروحًا تقاتل.. لم يتركوا القتال إلا للصلاة، ولم يتركوا الصلاة إلا للقتال.. والشهادة. 

    كان بعضهم يُعدُّ للصباح فجره، وكان بعضهم الآخر ينسج للنهار خيوطه الوردية.. وكان آخرون يرسلون الموت للمحتلين، ويكتبون على جدار الروح: لم نهن يومًا، ولم نضعف، وسنبقى ننسج من خيوط الروح حدود الوطن. 

    ما أجمل الشهداء حين لا تجد من أجسادهم إلا الروح ترفرف فوق بيوت المخيم، وجبل الكرمل، وصحراء النقب، وحين تسلك في الجليل دروب الآلام، فينبثق طائر الفينيق كالعنقاء، ليقذف بحجره، وصواريخه، وسلاحه، المحتل فيركم ما صنع..

   لا تحدثني عن الأمّ بعد اكتمال القمر، ولا عنها حين يكتمل قرص الشمس في سماء الشهادة. وحدهم من يشقّون طريق الريح والغضب، والنار والأمل، ووحدهم من يرتقون إلى هناك هناك يشعلون ضوء النهار، ويكتمل بدرهم في الأوطان. هناك نراهم عند عتبة الضوء مُجدّدًا، يأتوننا مثل صبح يفلق حَبَّه نهار الوجع في ليل الهزيمة.. فيأتوننا على قدر يسرجون فيه الخيل والليل والفجر والنهار، يُردّدون آيات النصر وتراتيل الصبر عند اللقاء.

  لا يُرثَى الشهداء، ولا يزرْهم الموت، بل هم يعيدون تشكيل الحياة، ويقهرون الغياب بحضورهم المتجدّد: ألقًا، ووعيًا، وثورة. يعيدون حضورهم بجمر القتال، وبسورة الإسراء، وفي صحراء العرب ينصبون خيمة، وعند مدامع العين يُسكنون طفلًا قتل المحتل أبويه، ويطارده بالأف 16، وبصواريخ ذكية، وبطائرة مسيرة تفجر رأسه قبل اكتمال الحلم. 

  هو دم فلسطينيٌّ من شام العروبة ودروب الياسمين الضيقة فيها، إلى بيروت المتدثرة بالمقاومة حتى النخاع، إلى جنوبها المعمد بالرضوان وعيونه الساهرة على طول المدى، ونبض قلبه الموصول بشعاع الحب والقوة من: بنت جبيل، إلى العديسة، والناقورة، حيث يهدي البحر هناك أمواج حيفا، قبلة صيّادٍ ورشّاشٍ ومدفع. 


* مهداة إلى شهداء سرايا القدس وشعبنا في معركة ثأر الاحرار. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق