سلام تتخلله «غصّة» بين مخيم المية ومية وأهل القرية

 

نغم ربيع - المدن
جزء أساسي من تاريخ لبنان الحديث متصل بقضية اللجوء واللاجئين، على اختلاف هويات الآتين إلى هذا البلد-الملجأ، ومآلاتهم. اللجوء الفلسطيني خصوصاً كان أثره هائلاً على مصير لبنان.
اليوم، تتصدر قضية اللاجئين أولى اهتمامات الدولة وسياسييها.
يعتبر المخيم أصل حكاية اللجوء الفلسطيني، التي بدأت عام 1947. إنه مأوى لعائلات وسكان قرى فلسطينية حملوا غدر العالم، وحقد الصهاينة وتخاذل الأشقاء، وانطلقوا. وجوههم إلى الحدود وظهورهم إلى منازلهم وأرضهم وزيتونهم وبحرهم. الكل هرب من الموت، إلى أرض "الأشقاء" في لبنان وسوريا والأردن. قصدوا خيمة قالوا لهم: إنها منزل مؤقت بانتظار العودة إلى منازل الأجداد.
مع هجرة الفلسطينيين القسرية من فلسطين في عام 1948، وصلوا إلى عدة وجهات في لبنان، بما في ذلك منطقة المية ومية. فيما بعد، تم إنشاء المخيم ويغطي مساحة تبلغ 54 دونمًا، ويسكن فيه أكثر من 4500 لاجئ مسجل. على الرغم من بعض الجوانب الإيجابية التي تميز المية ومية مقارنةً بغيرها من المخيمات، فإن سكان المخيم يواجهون العديد من المشاكل في جوانب حياتهم المختلفة.
أجواء المخيم
تسوّر مداخل المخيم الحواجز العسكرية والأمنية، أحياناً تسمح للزوار بالدخول وأحيانا لا. ما إن سمح لنا بالدخول، بدا لنا المخيم بأزقته الضيقة التي بالكاد يصعب عبور سيارة فيها. أحياؤه مسماة على اسم مناطق فلسطينية أتى منها السكان. في مسالكها أطفال يلعبون، وآخرون يتشاجرون، وتملأ أعلام حزب حركة فتح سماءه.
توجهنا للتحدث مع بعض السكان عن أحوال المخيم والعلاقة بينهم وبين أهل الضيعة المجاورة. وحسب ما قالوه، فإن العلاقة بين المخيم وأهل الضيعة كانت قبل الاجتياح الإسرائيلي أكثر من جيدة. علاقة طيبة ومتينة، إضافةً إلى علاقات المصاهرة والعلاقات التجارية. إذ يقصدون المخيم لشراء البضائع، بسبب رخص الأسعار ومعرفة الناس وحسن المعاملة من قبل التجار الفلسطينيين.
على حد قول عضو اللجنة الشعبية في مخيم المية ومية، تيسير ياسين، إنَّ العلاقة بين مخيم المية ومية والضيعة هي علاقة جيدة. ويشير ياسين إلى أن "أهالي المنطقتين يتبادلون الزيارات ويقفون إلى جانب بعضهم البعض في الأفراح والأتراح، وحتى أنَّ ضيعة المية ومية توفر فرص عمل للفلسطينيين".
ويضيف: شهدنا مواجهة واحدة صاخبة سنة 1985، حيث كان هناك قسم من أهالي الضيعة قد التحقوا بجيش لحد وقاموا بتهجير بعض اللاجئين. توترت العلاقات بفعل هذه الأحداث، وتهجر كثيرون من أهل الضيعة إلى مناطق أخرى.
في هذا السياق، يقول ياسين لـ"المدن" أن "الجيل الذي يعرفنا تجمعنا به علاقة صداقة، نتيجة مساعي لتحسين العلاقات بيننا. لكن مع الجيل الجديد، لا علاقة بيننا أبداً، ولا يبالون بإقامة أو تحسين العلاقات أو حتى الاحتكاك، لأن نضج هذا الجيل على فكرة وجود مخيم مسيج، يمنع الاختلاط بين أهل المخيم والضيعة". ويزيد "الاحترام موجود، لكن هناك علاقات جيدة مع أشخاص، وسيئة مع آخرين، لكنها مبينة على علاقة احترام يسودها زيارات واجبات".
القانون ظالم؟
شهد المخيم أحداثاً أمنية في تشرين الأول من العام 2018، بين حركتي فتح و"أنصار الله"، وأوقعت حينها أربعة قتلى. ما زالت صور شهداء هذه الأحداث في كل أرجاء المخيم، عدا عن الحيطان المليئة بالرسومات التعبيرية والرسائل عن فلسطين والقضية. تلك الأحداث وما سبقها، حفّزت المواطنين اللبنانيين، من سكان البلدة، على تجديد مطالبتهم المزمنة باستعادة أملاكهم من بيوت وعقارات، ضمّها استيلاءً أمين عام "أنصار الله"، جمال سليمان، إلى معقله داخل المخيم. وبنى في حديقة أحد هذه البيوت مسجداً، ورفع مئذنته على سطحه. ويطالب أصحاب هذه المنازل والعقارات وورثتهم بإخلائها وإعادتها لهم.
في هذا السياق، أكد ياسين أن "هذه المشكلة زرعت الخوف في أهل الضيعة ونتيجتها فضّلوا خلق حواجز بيننا".
من ناحية أخرى، أعرب الدكتور أبو هاني موعد، وهو أيضًا عضو في اللجنة الشعبية، عن رأيه قائلاً "هذا حقهم، بأن يمتلكوا أرضهم، ولكن نحن هنا بشكل قسري. قانون عدم التملك للفلسطيني سبّب هذه المشكلة، فقد كان بإمكاننا شراء منزل في المخيم أو خارجه". ويزيد "هذا قانون مجحف جدا في حقنا، أوجدوا لنا حل لمخيماتنا الفلسطينية ومأوى في لبنان، ونحن نترك أملاككم".
يواجه اللاجئون بشكل عام، والفلسطينيون بشكل خاص، ضغوطًا ورفضًا في العديد من الأحيان. في هذا السياق، يعبر أبو فادي عن وجهة نظره قائلاً: "أعتبر لبنان وطني الثاني، وأنا لا أنكر الخدمات وومبادرات الإحسان التي استفدت منها في هذا البلد. لقد استفدت من خيراته وشربت من مياهه، وتنفست هواءه. ومع ذلك، بوصفي مواطنًا فلسطينيًا، لو لم أُطرَد من وطني الأصلي، لما كنت لجأت إلى لبنان بالأساس. إنه وطني الثاني، ولكنه ليس بديلاً عن وطني الحقيقي".
من جانبه، يعلق رفعت بو سابا، رئيس بلدية المية والمية السابق، قائلاً: "كانت الأمور ممتازة وكنا نتشارك قوتنا ونعيش بسلام. ومع ذلك، بعد الأحداث التي شهدناها، حدث تباعد في العلاقة بين سكان المخيم وسكان الضيعة. بدخول بعض الغرباء، تعرضنا للهجرة. ولكن عندما عدنا، عادت المياه إلى مجاريها واستعادت العلاقة الحسنة بين سكان المخيم والضيعة. وهذا بفضل الزيارات المتبادلة بين الفلسطينيين واللبنانيين. وسوف تظل هذه العلاقة على هذا النحو ما لم يدخل أشخاص غرباء لتعكيرها".
أكد بو سابا أيضًا فيما يتعلق بالعقارات أنهم يسعون لإيجاد حلول قانونية لهذه المشكلة، ولكنه أشار إلى وجود بعض الجماعات التي تتصرف كمستحقين لتلك العقارات، مما يثير الاستياء. وأضاف قائلاً: "لقد حاولنا التواصل مع الجهات المعنية وعقدنا اجتماعات مكثفة لحل هذه المسألة، ولكن للأسف لم يتعاون أحد معنا".
علاقة سلام يتخللها غصة
من جهة العائلات والأهالي، يقول سعيد قائلاً: "أنا ولدت في المخيم وعاشرت كل الأحداث التي جرت فيه، ولكن العلاقة بيننا وبين سكان الضيعة كانت وثيقة ومتميزة، حيث تسودها تبادل العادات والتقاليد والمناسبات. في أيام العيد، نرسل الحلوى لأصدقائنا في الضيعة، وفي عيد الفصح يرسلون لنا بيض الشوكولاتة أيضًا، لكن في بعض الأحيان تتوتر العلاقات نتيجة بعض الخلافات".
تحدث أنطوانيت، عن العلاقة القوية التي تجمعها بالمخيم والأهالي الفلسطينيين. وبأنها تفهم تمامًا معاناة هؤلاء الأشخاص المحرومين من وطنهم، وتكن لهم كل احترام ومحبة. ومع ذلك، تتسلل غصةٌ مؤلمة إلى قلبها، نتيجة حرمانها من ممتلكاتها في المخيم. وتقول لـ"المدن": "أغص عندما أزور المخيم وأرى أرضي الذي لا يستفيد منها أولادي وأحفادي".
في هذا الإطار، يؤكد راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك، المطران إيلي حداد أن السلام موجود بين أهل الضيعة والمخيم والكثير من التفهم عن أن الفلسطينيين ليسوا هم المسؤولين عما حدث لهم، القضية الفلسطينية قضية مقدسة وندعمها، لكن هذا الدعم هو على حساب فئة من الناس الموجودين في منطقة صيدا وشرق صيدا، أي في مخيم المية ومية وعين الحلوة، التي تشكل أكثر من 90% أراض لمسيحيي شرق صيدا. ويضيف "الأحداث التي وقعت في المية ومية سنة 2018، خلقت توترات وخوف عند سكان الضيعة من الوضع الأمني في المخيم. وصار هناك استعداد لتهجير ثاني لأهل الضيعة. استوعبنا المشكلة بطريقة منطقية كي لا يخلق حوار قاسي بين أهل المخيم والضيعة ونجحنا بأن نرفع المسؤولية عن الفلسطيني، وبالتدخل مع الفعاليات نجحنا بنزع هذا التوتر وإخراج جمال سليمان من المخيم".
جزم حداد أن العلاقات الإنسانية واضحة، لكن العدالة العميقة في التاريخ والنفوس تقول إن هذه أرضنا، ولا تغيب عن بال أهل الضيعة. إذ يشعر سكان مدينة شرق صيدا بأن ما حدث لهم على يد الفلسطينيين هو بالضبط ما حدث للفلسطينيين، فقد تم تهجيرهم من قراهم وتم تهجير الفلسطينيين من وطنهم.
وأكمل قائلاً: "في ظروف شروط الحياة في المخيم، أشعر بأنه من الحرام يعيش فيها الفلسطيني، أرغب في أن يعيش بكرامة حتى على الأرض اللبنانية". وختم حديثه "لا يوجد حب بين أهل الضيعة وأهل المخيم، هناك فقط رغبة بالعيش بسلام، فلا أحد يحب من استملك أرضه، هل الفلسطيني يحب الإسرائيلي؟"
في نهاية اللقاء، عبر ياسين بالغصة التي أغلقت حلقه والدمعة التي تلألأت في عينيه. بكل قوة وعاطفة، أعلن قائلاً: "نحن ناس نحب الحياة، ونستحق الحياة. كل المآسي التي عشناها، منذ العام 1948 وحتى اليوم، ينبغي للعالم أجمع أن يشعر بها. لا يوجد شعب في العالم، إلا وقد حصل على حريته، باستثناء الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يكافح من أجل تحقيق هدفه المنشود".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق