التاريخ بالمقلوب


 بقلم وفاء بهاني
عاندني امس جهاز الخلوي، فلم افلح في منعه عن اضافة ساعة عملاً بقرار مجلس الوزراء. 
بدا لي ان هذا الجهاز اذكى مما أتصور، واكثر إدراكاً مني لمعايير الميثاقية عندنا. 
هو لم يكن موجوداً عام ١٩٨٩ يوم كان لبيروت الشرقية حكومة ولبيروت الغربية حكومة اخرى. ولم يزوده احد بتلك المعلومة التي تفيد بأن كلتا الحكومتين توافقتا وقتها على تأخير العمل بالتوقيت الصيفي.
حتى تحت هزيم المدافع كان ثمة حينها مجاملات،  وتفاهم على مراعاة الميثاقية. 
يومها كان الفرز الطائفي تلقائياً فلم نكن بحاجة للتذكير بضرورة "الفرز من المصدر". 
الدولار وقتها ايضاً كان يلتهم الليرة، وكان الجوع يضرب اطنابه على الضفتين. 
نفايات سوق صبرا للخضار كانت مخصصة يومذاك لفقراء المسلمين، يتسوقون منها قوت يومهم، ولم يكن فقراء المسيحيين يزاحمونهم لأن عندهم مكبات الشرقية. 
كان الفقير ينام مطمئناً على وقع راجمات الصواريخ لأن ثمة من كان مشغولاً عنه بكتابة التاريخ على الطريقة التوافقية (٦ و٦ مكرر). 
وثمة من كان يفلسف اتفاق الطائف ميثاقياً ليراعي أمراء الحرب وزواريبها كي يخرج الجميع رابحاً. 
وثمة من كان يُعِدّ، بالتساوي، اقتسام غنائم الحرب وتذويب الميليشيات في الدولة. 
خلطة الاقتسام تلك، على طريقة شرشبيل، لم تكن تراعي حتماً فقراء السنافر من كلا الصنفين المسيحي والمسلم، ولذا لم يلتفت احد الى انها افضت لتذويب الدولة في الميليشيات لا العكس. 
قشرة دولة عشنا معها نشأت من تلك الخلطة العجائبية، كانت تغطي وهماً كبيراً ورفاهية مصطنعة، سرعان ما انفلقت عن فراغ سحيق. وجنى اعمار السنافر وتعب الليالي وسنين العذاب ذهبت كلها لجوف شرشبيل. 
ما عاد سوى ظل الجوع والموت على اعتاب المستشفيات، يخيم تحت قطعة السماء هذه، بجناحيها، وبدا جلياً ان سرقات الزعماء "عالأرض تاني ما إلا"..
بيروت الشرقية المتجهة غرباً وبيروت الغربية المتجهة شرقاً عادتا اليوم لرفع المتاريس في معركة " العبث بالساعة" وكأنهما في زمن قيام الساعة. 
وحين تُرفع المتاريس الطائفية، فثمة بالتأكيد توافق ضمني على تغطية خطب ما. جريمة ما، سرقة ما. 
فلنعد الى التاريخ الطائفي لنقرأ فتنة عام ١٨٦٠ بالمقلوب، لندرك ما يحصل اليوم. 
في تاريخ فؤاد افرام البستاني، الذي لم يرَ في لبنان سوى جبل لبنان، ان السبب المباشر لتلك الفتنة كان "لعب الكلة". عبث أطفال أفضى لكارثة وصراع طائفي دموي. 
وعبث الأطفال قاتل حينما يقع على متاريس حقوق الطوائف، لا فرق ان كان ما يلهون به "كلة" أم ساعة. 
هذا ما يقوله التاريخ بالصيغة المباشرة.  
اما قراءة التاريخ بالمقلوب فيمكنها ان تكشف لنا ما تحت "الكلة". 
ثمة صفحة مشرقة يخفيها التاريخ تحت ما يرويه عن فتنة عام ١٨٦٠، فَلَو قلبنا الصفحة لوجدنا ان عام ١٨٥٩ كان عام اجهاض اهم ثورة فلاحية قامت في وجه الإقطاع وجبروته. تلك ثورة طانيوس شاهين. 
ثورة أطاحت بزعماء الإقطاع ما كان لها ان تُجهَض الا بفتنة طائفية.  
هكذا دوماً تخفي الطائفية الصراع الطبقي عندنا، والانقسام الأفقي يحجبه الانقسام العمودي. 
ماركس لم يكن مخطئاً لا في نظريته عن الصراع الطبقي ولا في حكايته عن مهزلة التاريخ. 
ولبنان خير شاهد على ما تخفيه مهازل الطوائف من بؤس طبقي عابر للطوائف يجري إخفاؤه بلغات التعصب الخشبية. 
وهو خير شاهد على شعبٍ لم يُحسن حتى اليوم قراءة التاريخ ليستخلص العِبر، لا فرق عند جوعه وبؤسه وجهله، بين التوقيت الصيفي، او التوقيت الشتوي. 

فجر ٢٦ آذار
الساعة ٤.١٥ توقيت غرب بيروت
الساعة ٥.١٥ توقيت شرق بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق