نحنُ إلى القدس أقربُ وهم عنها أبعدُ


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

قديماً... ربما كان الإسرائيليون أقرب إلى تحقيق الحلم اليهودي بتهويد مدينة القدس، وشطب هويتها العربية والإسلامية، وتحويلها إلى مدينة يهودية خالصة، وتبديل أسماء شوارعها وميادينها وساحاتها إلى أسماء يهودية قومية ودينية، وإطلاق أسماء توراتية وتلمودية عليها كأسماء ملوكهم وأنبيائهم وقادة جيوشهم وزعماء أحزابهم، وربما كانت خطواتهم حينها متسارعة وناجحة، ومنظمة ومنسقة، ومبرمجة ومتدرجة، وقد استطاعوا خلال سنواتٍ قليلةٍ، وبسهولةٍ كبيرةٍ، تحقيق الكثير من الإنجازات التي كانوا يحلمون بها، مدفوعين بحلم استعادة ممالكهم القديمة، التي يعتقدون أن "أورشليم" كانت عاصمتها، و"يهودا والسامرة" كانت أقاليمها، وأنهم بعودتهم إليها وسيطرتهم عليها يستعجلون زمان إعادة بناء هيكل سليمان الثالث.

 

فقد أعلن الإسرائيليون القدس عاصمةً أبديةً موحدةً لكيانهم، ونقلوا إليها مقرات كيانهم السيادية، وحاربوا كل سيادةٍ وهويةٍ وأصولٍ عربيةٍ فيها، وأقنعوا عدداً من الدول بالاعتراف بها عاصمةً، وطلبوا منها نقل سفارتها إليها، وضيقوا على الفلسطينيين فيها، وهدموا بيوتهم ومساكنهم وطردوهم منها، وصادروا ممتلكات الغائبين والموجودين، وحرموا المواطنين من مشاريع التوسعة والترميم، والصيانة وتقديم الخدمات، وسهلوا إجراءات اقتحام المسجد الأقصى تحت ستار الزيارة، وسمحوا لليهود بأداء الطقوس الدينية فيها، وجعلوا من وجودهم في باحاته والتجوال في ساحاته أمراً طبيعياً عادياً، تألفه العيون وتقبل به النفوس ولا يعترض عليهم أحد.

 

ساعدهم في العقود السابقة على تحقيق أحلاهم وتنفيذ مخططاتهم، الواقعُ العربي البئيس المشرذم الضعيف، وعجز الأنظمة العربية عن الدفاع عن المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، وانشغالها بنفسها عن القضية الفلسطينية، وإهمالها للواجب المكلفة به تجاهها دينياً وقومياً وإنسانياً، والتزامها بالسياسة الأمريكية وخضوعها لها، حيث فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عليها الاعتدال في مواقفها، وعدم الإنجرار إلى مواقف متطرفة وسياساتٍ متشددة في مواجهة المخططات الإسرائيلية، والعمل على تهدئة الشعوب الإسلامية من خلال مؤسساتٍ رسمية تعنى نظرياً بشؤون القدس والمقدسيين، بينما تقف عاجزة عملياً عن الدفاع عن المدينة وسكانها ومقدساتها التي كانت تتهاوى أمام معاول الهدم والتخريب الإسرائيلية.

 

وقد نجحت السياسة الأمريكية التي تعمل لخدمة الكيان الصهيوني وتسعى لتأمين احتياجاته المختلفة، في تهدئة ردود الفعل العربية الرسمية، وضبطها ضمن سياسات الإدانة والاستنكار والمعارضة الشكلية، والاكتفاء بإصدار بيانات تدين وتستنكر خروج الكيان الصهيوني بإجراءاته الاستفزازية ضد القدس والمسجد الأقصى عن الوضع التاريخي للمدينة، ومخالفته للاتفاقيات والتفاهمات الدولية، القاضية بالحفاظ على الوضع التاريخي للمدينة ومقدساتها، والإبقاء عليها تحت رعاية المملكة الأردنية الهاشمية.

 

وبموجب هذه السياسة المضبوطة امتص العرب والفلسطينيون حرق المسجد الأقصى المبارك عام 1969، وسكتوا عن الاعتداء على قبة الصخرة المشرفة عام 1982، وغضوا النظر عن الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى، وعن عمليات البحث والتنقيب والتخريب، وبناء الجسور وصيانة الأدراج وغلق البوابات وفتح بعضها أمام الزوار اليهود، وغير ذلك من الإجراءات التي اعتاد العرب على تجرعها والقبول بها، والاستهانة بها وعدم الرد عليها، بينما كانت تصب جميعها في خدمة المشروع الصهيوني.

 

شعرت حكومات الكيان الصهيوني أنها حققت ما تريد، ونالت ما تمنت، وظنت أن مدينة القدس قد أصبحت لهم وحدهم، بعد أن زرعوا فيها عشرات المستوطنات، وجلبوا للعيش فيها عشرات آلاف المستوطنين، وقاموا بتوسيع حدودها على حساب أراضي رام الله والخليل وبيت لحم، وبدأوا في تنفيذ أحزمة القدس الكبرى، وبناء الحدائق والمنتزهات العامة، وشق الطرق وتوسيع الشوارع، وذلك بالاعتداء على حقوق المواطنين الفلسطينيين في مختلف قرى وبلدات مدينة القدس، التي أصبحت أرضها مستباحة للحكومات الإسرائيلية ولغلاة المتطرفين اليهود، الذين اعتادوا على الاعتداء على حقوق وممتلكات الفلسطينيين في المدينة، وهم يخططون وقد زاد عدد المستوطنين اليهود في المدينة عن 300 ألف مستوطنٍ، إلى الخلاص بكل الطرق من الإنسان الفلسطيني واقتلاعه منها، وسحب هويته وإنهاء إقامته ومنعه من الحياة فيها.

 

لكن طمأنينة الكيان الصهيوني لم تدم طويلاً، وإحساسه بالأمن والاستقرار لم يطل كثيراً، إذ انطلقت مقاومة فلسطينية قوية فتية صلبة عنيدة، واثقة مطمئنة وتعتقد أنها على الحق، ولديها اليقين أنها ستنتصر على عدوها، وستتمكن من هزيمته وتفكيك كيانه، وستطرده من فلسطين كلها، وستطهر مقدساتها منهم، فطفقت تقوم بعمليات تجهيز وإعداد وتدريب وتأهيل، حتى أصبحت تمتلك القوة التي تقلق بها العدو وتزعجه، وتهدد أمنه وتعرض مشاريعه للخطر، وامتلكت القدرة والجاهزية لقصف مدنه، واستهداف قلبه قبل أطرافه، فهددت مشاريعه، وأفسدت خططه، وأخافت المستوطنين ودفعت عشرات الآلاف منهم للهجرة أو الهروب من مناطق الحدود إلى الوسط الذي بات لا يحميهم إذ وصلته صواريخها ودكته.

 

أمام تنامي قدرات المقاومة، وبعد الحروب والمعارك الفاشلة التي شنها العدو على المقاومة الفلسطينية، وفشله في تحقيق أهدافه، ووقوفه مذهولاً أمام الشعب الفلسطيني وأجياله الجديدة الواثقة بالنصر والمصرة على التحرير، والمتمسكة بالحقوق والثوابت، وأمام سيل عمليات المقاومة وتنوعها، وإقدام الشباب وتنافسهم، واندفاعهم نحو الشهادة بثباتٍ ويقين، بات الإسرائيليون يدركون أنهم يبتعدون عن مشروعهم، ويخسرون إنجازاتهم، وتتبدد أحلامهم، وتغور أمانيهم، ويتفكك مجتمعهم، وتتصدع جبهتهم، ويهرب مستوطنوهم، بينما يقترب الفلسطينيون من تحقيق حلمهم واستعادة أرضهم وتحرير وطنهم، ويصبحون يوماً بعد آخر أقرب إلى النهوض واستعادة الحقوق، وتفكيك المشروع الصهيوني وإجبار من بقي منهم على المغادرة والرحيل، وسيكون هذا اليوم قريباً بإذن شاء الله، نعد فنحن على أعتابه نتجهز له ونستعد، ويترقبه العدو ويتوقعه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق