إنهم يعدّون الجنازة ؟! ...


معتصم حمادة

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

 

لم يذهبوا إلى ميناء العقبة الشهير، ليتدفأوا بشمس الربيع المبكر بعد شتاء قارص، ولا ليتزلجوا فوق مياه الخليج الأردني تجرهم الزوارق السريعة، ولا حتى ليصطادوا السمك في مياهه الهادئة.

ذهبوا إلى العقبة بدعوة أميركية، ليبحثوا ما في جعبة جهاز الشاباك، والأمان، والوكالة المركزية الأميركية للاستخبارات، من تقارير وأبحاث ودراسات عن الأوضاع في الضفة الفلسطينية، وخطر ذلك على المصالح المشتركة للتحالف الأميركي الإسرائيلي، ولوضع خطة عملية تؤدي إلى ما بات يسمى «خفض العنف» و«إنهاء التوتر» و«إعادة الأمن والاستقرار» إلى المنطقة (والمقصود بذلك المنطقة العربية وليس فقط الضفة الفلسطينية)، ورسم الخطط والآليات لتهيئة الوضع لاستقبال المشروع الأميركي الإسرائيلي للحل، المسمى مرة حلاً اقتصادياً، وتارة أخرى حل الدولتين الوهمي وكلها أسماء متعددة لمشروع واحد، يقفز عن الحقوق الفلسطينية، وعن المشروع الوطني الفلسطيني، ويهدف في خطوة «ضرورية»، لإجهاض كل أشكال النضال الوطني الفلسطيني، بالأساليب المختلفة، بالترهيب والترغيب، للقبول بما ترسمه الغرفة السوداء في سفارة واشنطن في القدس المحتلة.

رؤية أميركية

فالولايات المتحدة تلتمس أوضاعاً سياسية، لا تقبل أن يشاغلها أحد، عن همومها في أوكرانيا في مواجهة روسيا وفي أوروبا في مواجهة محاولة بعض «أطراف الاتحاد الأوروبي» التمرد على إرادتها، وفي المحيط الهادئ، في مواجهة الصين الشعبية، وكوريا الشمالية وفي منطقة الخليج العربي في مواجهة إيران بذريعة منعها من امتلاك القنبلة النووية ودرء خطرها على الأمن وعلى استقرار الجوار، وما بات يسمى السلم العالمي.

لذلك وضعت واشنطن خطة تبقي الملف الفلسطيني الأكثر التهاباً في المنطقة تحت السيطرة، بالتلويح بالوعود الكاذبة (مفوضية م. ت. ف في واشنطن أو القنصلية الاميركية في القدس المحتلة ...) والتلويح بـ«حل الدولتين» وتخدير المشاعر بـ«الحل الاقتصادي».

الهدوء والاستقرار في الأراضي الفلسطينية «يشكل بالنسبة للولايات المتحدة شرطاً لازماً لتعزير دور تحالف أبراهام في إقليم الشرق الأوسط » بما هو تحالف عربي - إسرائيلي شريك مع الولايات المتحدة في هيمنتها على المنطقة، وضمان أمن مصالحها فيها، وبناء حلف في مواجهة طهران، وبقدر ما يتقدم «تحالف أبراهام» إلى الأمام، بقدر ما تفتح الطريق أمام برنامج نتنياهو وحكومته، باعتبار الأولوية تقع في «حل قضايا النزاع العربي - الإسرائيلي» أولاً، أي تعزير النفوذ والدور الإسرائيلي، وتغلغل دولة الاحتلال أكثر فأكثر في تفاصيل الحياة السياسية للنظام العربي (أو معظم أطرافه) بما يمكن إسرائيل من لعب دور فعال، في إعادة صياغة معادلات الصراع ومعادلات التحالف، وإعادة صياغة معادلات العداوة، ومعادلات الصداقة، وبحيث يولد اصطفاف جديد تقف على رأسه الدولة الأقوى (إسرائيل) تنتظم في طوابيره الأطراف الأقل قوة، أو الأطراف الضعيفة (الأنظمة العربية) وبحيث تتوارى القضية الفلسطينية خلف الأسوار، مخلية مكانها وللقضايا الأكثر أهمية لأنظمة عربية مطواعة ربطت مصيرها بمصير الهيمنة الأميركية على إقليم الشرق المتوسط.

وبذلك التقى مشروع «تحالف أبراهام» باعتباره ترجمة للإستراتيجية الأميركية مع إستراتيجية نتنياهو في أولوية «حل النزاعات» كما ترسمها إسرائيل (العرب أولاً) وبعد ذلك الفلسطينيون، وتتساند الإستراتيجيتان كل مع الاخرى ويصبح تقدم كل منها رهناً بتقدم الإثنين معاً.

فلا «تحالف أبراهام» يستطيع التقدم إلى الأمام، في ظل أوضاع فلسطينية ملتهبة، ولا «حل النزاع مع العرب أولاً» يمكنه أن يتقدم دون «تقدم تحالف أبراهام» واتساع دوائره وآفاقه، في ظل هذا تابعت الولايات المتحدة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية بقلق شديد، خاصة مع مطلع العام الحالي، وفي ظل وجود حكومة إسرائيلية فاشية، أعلنت واشنطن رفضها التعامل مع بعض وزرائها، وقد رأت في مواقفهم تصعيداً للتوتر، وإضراماً للمزيد من النيران في أرجاء الضفة.

كما لاحظت الولايات المتحدة أن الإجراءات الأمنية العميقة لدولة الاحتلال، باتت عاجزة بمفردها، أن تخمد النيران، ودون مساعدة من السلطة الفلسطينية التي بدت محرجة أمام الأطراف كلها:

• أمام الولايات المتحدة، التي تعلق السلطة الفلسطينية الأمل على موقعها المركزي وشبه الوحيد في حل المسألة مع إسرائيل.

• في مواجهة إسرائيل، وقد بدت السلطة الفلسطينية عاجزة عن التوغل في الدم الفلسطيني، ومجاراة القمع الإسرائيلي المتصاعد، ما يمكن حكومة نتنياهو من اتهام السلطة بعدم القيام بما عليها من استحقاقات في ميدان «التنسيق الأمني».

• وأخيراً وليس آخراً، في مواجهة الشعب الفلسطيني نفسه، الذي رأى في السلطة طرفاً عاجزاً عن حماية شعبه، ودرء المخاطر عنه، وحفظ كرامته الوطنية، فانخفضت أسهم السلطة إلى الحضيض، ولم ينقذها في هذا المضمار تصريحاتها ونداءاتها إلى المجتمع الدولي للتدخل، بعد إدراك الشارع الفلسطيني حقيقة الأوضاع داخل المؤسسات الدولية، ومدى قدرة الهيمنة الأميركية على تعطيلها.

زاد من سوداوية نظرة الشارع إلى السلطة تلك الخطيئة المدوية في سحب مشروع القرار في مجلس الأمن، لإدانة الاستيطان والدعوة إلى وقفة لصالح بيان هزيل، في تراجع مكشوف أمام الضغوط الأميركية، وما تلا ذلك في نابلس، حين ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة دموية غير مسبوقة في 22/2/2023، سقط فيها 12 شهيداً وأكثر من مئة جريح، ارتجت لها الضفة الفلسطينية، فخرج سكانها، في منتصف ليل الجريمة بعشرات الآلاف إلى الشوارع يلبون نداء المقاومة ونداء الفدائيين «عرين الأسود» في مدينة نابلس، وهو ما جعل الولايات المتحدة تطرح حلاً من شقين:

• الأول: تخفيف الإنخراط الإسرائيلي في حفلات القمع الدموي، لاستعادة بعض ملامح القبول العربي والدولي لحكومة التحالف اليميني المتشدد والفاشي، والذي أثقلت أعماله الدموية حتى على السياسة الأميركية نفسها، ما اضطر عدد من كبار مسؤوليها لانتقاد بعض التصرفات الإسرائيلية علناً.

• الثاني: الضغط على الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية لتقوم بما «عليها أن تقوم به» في سياق التنسيق والتعاون الأمني، و«تحمل مسؤولياتها الأمنية» في أنحاء الضفة الفلسطينية، بديلاً عن قوات الاحتلال.

وبنشاط محموم، برئاسة وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن، ومساعدته لشؤون الشرق الأوسط بربارة ليف، والمبعوث الأميركي للقضية الفلسطينية هادي عمرو، ومستشار مجلس الأمن القومي في الإدارة الأميركية جيك سوليفان (صف عريض وتقيل من كبار المسؤولين) وجولات مكوكية، بين رام الله والقدس المحتلة، نجح الجانب الأميركي، وبالتشاور مع عمان والقاهرة، في هندسة مسار العقبة – شرم الشيخ، الذي عقد أولى اجتماعاته في ميناء العقبة الأردني في 28/2/2023.

رؤية عربية

لا يقل الجوار العربي عن الولايات المتحدة قلقاً، وهو يتابع تطور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من صعود لأعمال المقاومة الشعبية والمسلحة، واتساع رقعتها وانخراط شرائح اجتماعية وأطراف سياسية إضافية في فعالياتها النضالية ضد الاحتلال، واتساع الالتفاف الشعبي حول كل أشكال النضال مع قوات الاحتلال، وتحدي الحالة الجماهيرية العزلاء لقوات الاحتلال دون حساب لما قد تقدمه من تضحيات في الأرواح والمصالح الشخصية.

كما يشعر الجوار العربي بقلق شديد إزاء التصعيد الدموي لقوات الاحتلال، وانخراط المستوطنين بشكل «نظامي»، هذه المرة إلى جانب قوات جيش الاحتلال في أعمال عدوانية تجاوزت كل الاحتمالات، بما في ذلك إحراق القرى والبلدات الفلسطينية، وارتكاب المجازر الجماعية ضد أبناء المخيمات والمدن بذريعة مطاردة الفدائيين المسلحين، وتدمير البيئة والسطو على المزارع، وغير ذلك من أعمال التنكيل المسلح بالشعب الفلسطيني في ظل حكومة إسرائيلية، لا يتورع وزراءها عن رفع شعارات شديدة التطرف، تستعيد التراث الأسود للنازية الألمانية، في الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والتمييز العنصري.

ويدرك الجوار العربي أن لهيب المقاومة الشعبية والمسلحة في الأراضي الفلسطينية، وأن ردود الفعل على المجازر الإسرائيلية، لن تقف عند حدود الأراضي الفلسطينية، بل من شأنها أن يمتد لهيبها إلى مناطق الجوار، وأن يمتد دخانها ليغطي سماء المنطقة، وللجوار العربي في هذا المجال تجارب عميقة، فلهيب الانتفاضة الأولى امتد حتى العواصم العربية نفسها، ما جعل إسرائيل دولة معزولة، دفع ذلك للبحث عن «حل سياسي» في مؤتمر مدريد، ومباحثات أوسلو. كذلك امتد لهيب الانتفاضة إلى خارج الحدود، ما دفع رئيساً عربياً، ليطلق نداء إلى الولايات المتحدة للإسراع في إخماد اللهيب خشية وصوله إلى الدول المجاورة، ولعل ذلك ما تجلى في لقاء وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، آنذاك، مع الرئيس عرفات للضغط عليه لوقف الانتفاضة، والتي خمدت نيرانها مع رحيلهم في 11/11/2004، وانتخاب الرئيس محمود عباس خلفاً له، ولا يختلف الوضع الحالي في سياقاته العامة، عما شهدته المنطقة من تداعيات كبرى تحت وطأة الانتفاضتين الأولى والثانية، ولعل التمايز الوحيد والمهم، أن حكومات الاحتلال، في زمن الانتفاضتين كانت ترى في «الحل السياسي» مدخلاً لإخماد نيران الانتفاضة، بينما لا ترى الحكومة الإسرائيلية الحالية، حلاً لإخماد المقاومة الشعبية إلا في المزيد من القمع والقتل والإعدامات والتنكيل، وسن القوانين الجائرة، شديدة التطرف في مواجهة الأسرى وعموم أبناء الشعب الفلسطيني.

وبالتالي، جاء مسار العقبة – شرم الشيخ، ليلبي حاجة لعدد من دول النظام العربي المقيدة باتفاقات التطبيع و«تحالفات أبراهام».

وبذلك شكل حضور بعض الوفود العربية غطاء سياسياً لمسار أمني، يتلخص هدفه في وضع الخطط والآليات لاجتثاث المقاومة الشعبية والمسلحة، وإخماد نيرانها، وإعادة ترتيب أوضاع السلطة الفلسطينية لتصبح قادرة على الإمساك بزمام الوضع الأمني، مع إسناد خلفي من قوات الاحتلال، والغرفة السوداء في سفارة الولايات المتحدة الأميركية في القدس المحتلة، حيث يقيم الجنرال مايك فنزل، الذي ورث المهام القذرة لسلفه الجنرال دايتون، ذي السمعة المشينة.

السلطة الفلسطينية

لا تستطيع السلطة الفلسطينية أن تغطي على ارتباكها السياسي الذي أدخلها في أكثر من مأزق، فبدت في حالة عجز، مجردة من القدرة على رسم استراتيجية سياسية واضحة المعالم، لمواجهة الحالة القائمة؛ الضغط الاميركي من جهة، والعربدة الإسرائيلية من جهة اخرى، وشبه اللامبالاة العربية من جهة ثالثة، وتراجع هيبتها وشعبيتها بين الفلسطينيين من جهة رابعة، في الوقت الذي تخوض فيه صراعاً انقسامياً مع حركة حماس، تعتبره ميدانها الرئيسي في الهم السياسي والأمني اليومي، إلى حد أنها ترفض أن ترفع حماس رأسها فوق الماء، في الضفة الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية تقيم رهانها الإستراتيجي (إذا ما صحت تسميته بالإستراتيجي) على الوعود الأميركية بخطوات تعتبرها السلطة مكاسب سياسية لها، كإعادة فتح مكتب مفوضية  م. ت. ف في واشنطن، أو إعادة فتح القنصلية الأميركية العامة في القدس المحتلة، والضغط على إسرائيل «لحماية» حل الدولتين، على حد تعبير الخطاب السياسي المرتبك للسلطة، و«فتح أفق سياسي» يمهد كما تدعي السلطة للوصول إلى «حل الدولتين».

هذه وعود قدمتها إدارة بايدن، حتى قبل وصولها إلى البيت الابيض، مما برر للسلطة في 17/11/2020 الإنقلاب على القرار الجماعي الفلسطيني في 19/5/2020 بالتحلل من «إتفاق أوسلو»، ورغم مرور أكثر من سنتين على دخول بايدن البيت الأبيض، وما زالت وعوده سحاباً يسبح في سماء الأكاذيب الأميركية، خاصة وأن تطورات الأوضاع العالمية، في ظل تصاعد الصراع في أوكرانيا، والمحيط الهادئ، سوف تغرق بايدن أكثر فأكثر في هموم لن تترك له الوقت الكافي للاهتمام بقضايا السلطة الفلسطينية، وفتح ملفات الوفاء بوعوده.

مع هذه السياسة الأميركية، وفي ظل رهانات السلطة كلها، تبدو هذه السلطة أقرب إلى العارية.

ففي مواجهة إسرائيل، وقوات الاحتلال، يزداد المأزق وضوحاً، وتبدو علامات الإرتباك جلية ترسم ملامحها على جسد السلطة الضعيف والمنهك وشبه المتهالك، فهي من جهة تريد أن تؤكد للجانب الأميركي وفاءها للاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، باعتبارها خطوة ملزمة «لحماية» حل الدولتين، كما صرح بذلك أكثر من مرة وزير الشؤون المدنية في حكومة السلطة. ومن جهة أخرى، وأمام استخفاف إسرائيل بالاتفاقات، وانتهاكها اليومي لاستحقاقاتها، تحاول السلطة أن «تقنع» شعبها بأن اتفاق أوسلو قد مات. كما صرح بذلك أكثر من مسؤول في السلطة، وعند السؤال عن علامات موته، وعن الأسباب التي ما زالت لأجلها تلتزم السلطة استحقاقات التنسيق الأمني، والاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي والالتحاق به، تخرج تصريحات تهدد (مرة تلو المرة) بوقف الالتزام بالاتفاق إذا لم تلتزم به دولة الاحتلال، ويستمر الوضع على ما هو عليه، السلطة تلتزم من جانب واحد بـ«اتفاق أوسلو»، ودولة الاحتلال تواصل سياسات لا تقيم وزناً لأي اتفاق ومعيارها الوحيد هو مصالحها كدولة احتلال ولا شيء سواها.

وهذا ما يضع السلطة في مواجهة حالة شعبية ناهضة، باتت على قناعة بأن السلطة في وضعها الراهن باتت عبئاً على الحالة الوطنية، وأنها فقدت الجوهر السياسي لبقائها، أي مرحلة انتقالية نحو قيام الدولة المستقلة، وأن «الجوهر» البديل لبقائها، كما اعترفت صحيفة «هآرتس» في 5/3/2023 هو حماية مصالح الطبقة الحاكمة في رام الله، ولو على حساب مصالح شعبها، وأنها باتت سلطة لا يهمها أن تدافع عن شعبها، حتى في ظل أوضاع مأساوية كالتي شهدتها بلدة حوارة، حيث فقدت السلطة وأجهزتها الأمنية ما تبقى لها من ماء الوجه.

وحين حاولت السلطة أن تجعل من التحرك السياسي والدبلوماسي بديلاً لدورها الميداني في حماية شعبها، وجدت نفسها أمام استحقاقات معقدة لم تستطع ان ترتقي إلى مستواها، وأن تنهض بما تمليها عليها من استحقاقات وطنية، فتحت الضغط الامريكي وافقت السلطة، على سحب مشروع القرار من أمام مجلس الأمن بإدانة إسرائيل واستيطانها، والدعوة لوقفه وتأكيد الحالة القانونية للضفة الفلسطينية (وفي القلب منها القدس) أرضاً فلسطينية محتلة، سحبت مشروع القرار، إرضاء للولايات المتحدة لصالح بيان هزيل يصدر عن مجلس الأمن.

وقد حاولت السلطة أن تغطي على انسحابها المخجل هذا بالأكاذيب، بالإدعاء أن دولة الامارات العربية هي من سحب مشروع القرار. لكن ممثل دولة فلسطين في الأمم المتحدة «رياض منصور» أصدر بياناً أكد فيه أن سحب القرار تم بموافقة دولة الإمارات العربية ودولة فلسطين، وأن الهدف من هذه الخطوة هو الحفاظ على وحدة الجبهة «الدبلوماسية» في وجه إسرائيل، في إشارة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، برفع قضايا الاحتلال إلى المحاكم الدولية. وقد توالت الأحداث لتؤكد حجم المأزق والإرباك وحالة العجز في السلطة الفلسطينية، في مجزرة نابلس، بعد ساعات على الانسحاب من مجلس الأمن لصالح إسرائيل والولايات المتحدة. وجدت السلطة نفسها في انزلاقات بلا قعر. وكشف «استجداءها للشرعية الدولية» و«المجتمع الدولي»، فهي من جهة تطالب المجتمع الدولي والشرعية الدولية بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني (لتبرير عجزها عن فعل ذلك)، وهي من جهة أخرى، تعطل دور مجلس الأمن وتقطع عليه الطريق لإصدار أي موقف أو قرار لصالح القضية الفلسطينية، وفي إدانة دولة الاحتلال. نفاق سياسي، وازدواجية فاضحة في الأداء السياسي والدبلوماسي، ولعب بهلواني على الحبال، يهدد بالسقوط في الهاوية في كل لحظة.

جاءت الدعوة إلى العقبة – شرم الشيخ في هذا السياق المحموم. السلطة هرولت إلى العقبة رغم أنه مسار أمني، حوّل القضية الفلسطينية إلى مجرد قضية أمنية، إذ تمحورت أهدافه، كما أكد جدول أعماله، على «خفض التصعيد» و«إنهاء التوتر»، والبحث في استعادة التنسيق الأمني، وتشكيل لجنة ثلاثية أميركية – إسرائيلية – فلسطينية، لدراسة وبحث قدرات السلطة وآلياتها للعودة إلى التنسيق الأمني، لتشكل بديلاً لدولة الاحتلال في «ضبط الوضع الأمني» في نابلس وجنين، وفي غيرها من المدن، وإنهاء «ظاهرة المسلحين».

كعادتها تحاول السلطة أن تزوّر الوقائع، وأن ترسم صورة بديلة لاجتماع العقبة الذي سيتلوه اجتماع أكثر حسماً في شرم الشيخ، لوضع آليات تطبيق قرارات العقبة.

السلطة تدّعي أن اجتماع العقبة كان سياسياً وأمنياً، وتحاول أن تستشهد بتركيبة الوفد الفلسطيني، بأنه كان سياسياً ولم يكن أمنياً. كان يتشكل من وزير شؤون الإدارة المدنية في حكومة السلطة (أي ضابط الارتباط الأعلى مع سلطات الاحتلال) ومن مدير جهاز المخابرات العامة، والناطق باسم الرئاسة الفلسطينية (لضرورات إعلامية معروفة) ومستشار رئيس السلطة (وهي مشاركة لا تنفي عن الوفد طبيعته الأمنية، فإلى جانب الأمنيين في المفاوضات الأمنية، يتواجد مستشارون سياسيون وقانونيون دون أن يفقد طبيعته الأمنية، بل على العكس من ذلك، فوظيفة هذا التواجد هو إسباغ «الشرعية القانونية والسياسية» على القرار الأمني).

بالمقابل كان الوفد الإسرائيلي وفداً أمنياً من الطراز الأول (مستشار الحكومة للأمن القومي، رئيس الشاباك، رئيس الإدارة المدنية لقوات الاحتلال ومنسق الاحتلال في الضفة الفلسطينية ...).

وكذلك كان حال الوفود المراقبة، وأما أن يفتتح وزير خارجية الأردن الاجتماع بكلمة فكان تقيداً بالبروتوكول، واحتراماً لسيادة الأردن على أرضه.

ماذا حققت السلطة من مسار العقبة – شرم الشيخ

• تدّعي السلطة أن اجتماع العقبة أقر عودة الطرفين، السلطة من جهة، ودولة الاحتلال من جهة أخرى، إلى العمل بالاتفاقات الموقعة، أي إلى مسار أوسلو، الذي لم تغادره السلطة أصلاً، وغادرته بالممارسة العملية دولة الاحتلال، وفي ظل ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل، وفي ظل حالة العجز الذي تعانيه السلطة، أراد الوفد الفلسطيني إلى العقبة، تقديم هذا الأمر وكأنه انتصار للسلطة (على غرار الانتصار المشين) الذي حققته السلطة في 17/11/2020، حين انقلبت على القرار القيادي الفلسطيني في 15/5 من العام ذاته بالتحلل من اتفاق أوسلو.

هذه «العودة» تشكل في السياسة انقلاباً على قرارات المجلسين الوطني والمركزي، التي أقرت مغادرة المرحلة الانتقالية لاتفاق أوسلو، ووقف العمل بها، بما يعني مغادرة أوسلو بمحاوره المختلفة، أما في الممارسة العملية، فقد أثبتت الوقائع التي أعلنت عن نفسها بعد ساعات عن فض اجتماع العقبة أن الوزراء النافذين في حكومة الإجرام الإسرائيلي، أعلنوا تمردهم على ما تم الاتفاق عليه، ورفضهم له لصالح التزامهم ببرنامج عمل حكومة نتنياهو الذي نص بوضوح على الاستيطان وضم الضفة الفلسطينية كلها (إلى جانب الجولان) باعتبارها أرض دولة إسرائيل، فيما أعلن الوزير بن غفير، عزمه على هدم المنازل، ومواصلة التنكيل بالأسرى والمقدسيين، أما جيش الاحتلال فلم يتلقَ من وزير الدفاع غالانت تعليمات تعيد النظر بـ«قواعد الاشتباك» مع المواطنين الفلسطينيين، ووقف القتل على الشبهة. ولعل مجزرة جنين في 7/3/2023، وما صاحبها من تطور ملحوظ في استعمال جيش الاحتلال لآلة القتل، كالمروحيات المزودة بالصواريخ، والمسيّرات للمراقبة والتوجيه، تشير إلى أن قواعد الاشتباك أو أوامر القتال والقتل ضد الفلسطينيين في الضفة الفلسطينية، باتت أقرب إلى أوامر الإبادة الجماعية، وهذا الأمر وإن يدل على شيء فإنه يدل على لجوء جيش الاحتلال إلى مزيد، والعمل على ترهيب الفلسطينيين، خاصة المقاومين منهم، وزرع الرعب في صفوفهم على أمل أن يؤثر ذلك في معنوياتهم وإلقاء سلاحهم.

• كما تدعي السلطة، في السياق نفسه، أن اجتماع العقبة قرر وقف «الإجراءات الأحادية» لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهذا كلام مضلل، يقوم على التزوير والغش، فهو يحاول أن يفسر جرائم الاحتلال من مصادرة أراضي واعتقالات جماعية، وقتل بالجملة، وهدم منازل وغير ذلك من الممارسات اليومية للاحتلال والمستوطنين، باعتبارها مجرد «إجراءات أحادية» وكأنها مجرد إجراءات إدارية، يمكن تعديلها أو التوقف عنها، وليست في واقع الحال، التعبير اليومي عن مشروع الاحتلال، كما بلوره برنامج حكومة نتنياهو، بالتحالف مع اليمين المتشدد والفاشي.

بالمقابل، يصف هذا التعبير (الإجراءات الأحادية) نضالات الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال وجرائمه، وبالتالي يساوي بين المجرم والضحية، وبين الاحتلال غير المشروع، والمقاومة المشروعة في كل المعايير الإنسانية، ومع ذلك يمكن لأي مراقب أن يسأل كيف تمّ الالتزام بوقف هذه «الإجراءات الأحادية»؟

بتعبير شديد الوضوح، فإن الجانب الإسرائيلي تجاهل هذا الأمر، وواصل سياساته العدوانية وكأن شيئاً لم يكن، وما شهدته الضفة الفلسطينية من مجازر في حوارة، وفي جنين، وفي جبع، وفي نابلس (والحبل على الجرار)، وما شهدته كذلك من إقرار للاستيطان الجديد، ومواصلة ما تم إقراره من شقق استيطانية ومشاريع بنية تحتية، يؤكد هو الآخر أن لا شيء تم الالتزام به من قبل الجانب الإسرائيلي.

وحدها السلطة الفلسطينية التزمت بما التزمت به من «وقف الإجراءات»، فهي بقيت على التزامها بالتنسيق وبالعمل مع الإدارة المدنية للاحتلال، وبـ«بروتوكول باريس الاقتصادي»، ولم تخالف أياً من هذه الإجراءات في حرص منها على التمسك بأوسلو، باعتبارها شرطاً من شروط «حماية حل الدولتين»، كما صرح بذلك وزير الإدارة المدنية في السلطة الفلسطينية، بعيد عودته من واشنطن في آخر زياره له إليها.

• وإذا كان البندان السابقان قد أبقيا الحال على حاله، فإن للأمر الذي شكل خطورة على الحالة الوطنية هو اتفاق الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، بمباركة أميركية، بالعودة إلى كل أشكال التنسيق الأمني، وبحيث تتوقف قوات الاحتلال عن الدخول إلى المنطقة (أ)، وأن تترك لأجهزة السلطة الفلسطينية أن تفرض الأمن في هذه المنطقة وبشكل خاص في نابلس وجنين وباقي المناطق الملتهبة بالمقاومة الشعبية والمسلحة، وأن يترك لسلطات الاحتلال مهمة ضبط الأمن في المنطقتين (ب) و(ج)، بما في ذلك القتل والاعتقال وهدم المنازل «غير المرخص لها»، في وقت لا تكف فيه سلطة الاحتلال عن «تشريع» البؤر الاستيطانية «غير المرخص لها» في مقاربة مفضوحة، تكشف ليس فقط الحدود المذلة للتفاهم، بل كذلك حالة العجز المروعة التي انحدرت إليها السلطة الفلسطينية، ومدى افتقارها إلى الإرادة السياسية لتدافع عن أبسط حقوق شعبها في الضفة الفلسطينية، أما القدس ولاعتبارها «عاصمة إسرائيل»، فقد بقيت خارج البحث والنقاش.

وفي خطوة أخرى شديدة الخطورة اتفقت الاطراف الثلاثة على تجهيز قوة فلسطينية تابعة للسلطة، تعدادها عشرة آلاف عنصر وضابط، يتم تدريبها في معسكرات التدريب الخاصة بأجهزة السلطة في عمان، لتشكيل قوة «ضاربة» تتولى الأمن في جنين ونابلس تحديداً. تقدم لها الولايات المتحدة العتاد المطلوب. وبما يؤهل السلطة لتتحول إلى قوة قمعية دموية، تتورط في فتنة عاصفة في حرب غير مقدسة ضد المقاومة الشعبية وعموم الحركة الوطنية، وفرض الأجواء الترهيبية ترحيباً على أوضاع الضفة، يمكن السلطة من الادعاء بأنها اوفت بالتزاماتها نحو اتفاق أوسلو ونحو التنسيق الأمني ولأجل حماية «حل الدولتين».

وتقرر أن يكون 17/3/2023 موعداً تلتقي فيه الأطراف الثلاثة، في شرم الشيخ لوضع البصمات على الخطط الأمنية، ولإعداد جنازة المقاومة الشعبية المسلحة في الضفة الفلسطينية على يد السلطة وأدواتها الامنية.

من الطبيعي أن تنكر السلطة الفلسطينية أن تكون قد انخرطت في هذا المشروع الدموي. لكن السلطة لا تنفي أن اللجنة الأمنية الثلاثية سوف تلتقي في شرم الشيخ في 17/3/2023 لوضع آليات تطوير التنسيق الأمني. وأن الجنرال الأميركي مايك فنزل، رئيس الغرفة السوداء في السفارة الأميركية في القدس المحتلة هو من سيشرف على هذا الاجتماع، ويضع بصماته على لمساته الأخيرة.

ومن يعرف مايك فنزل، وريث الجنرال دايتون، يعرف جيداً ماذا ينتظر اجتماع شرم الشيخ. وما سيسفر عنه هذا الاجتماع، وماذا سيرسم للقضية الفلسطينية.

 

     

 

من شأن هذا أن يضعنا أمام عدد من الأسئلة:

1) هل ما زالت السلطة الفلسطينية ملتزمة بتفاهمات اجتماع العقبة رغم تنكر الجانب الإسرائيلي لها؟

الدلائل كلها تشير إلى أن السلطة ما زالت على وفائها لتفاهمات العقبة.

2) مع اتساع حجم المعارضة الوطنية، ومع انكشاف حقيقية الموقف الإسرائيلي، فهل ما زالت السلطة على استعدادها للذهاب إلى الاجتماع الثلاثي في شرم الشيخ ؟

مواقف السلطة ونداءاتها إلى الولايات المتحدة، تؤكد أنها ما زالت على وفائها لتفاهمات العقبة ومن ضمنها الذهاب إلى لقاء شرم الشيخ.

3) هل ستنجر السلطة إلى ما تخطط له إسرائيل وأميركا للزج بها في فتنة دموية ضد شعبها ومقاومته؟

الدلائل تشير إلى أننا أمام سلطة عاجزة، تفتقر إلى الإرادة السياسية والتماسك السياسي ما يمكنها من رفض الخطط الاميركية الإسرائيلية، أو التفلت منها، أو الالتفاف عليها.

فنحن أمام سلطة بات هدفها الحفاظ على مكانتها على رأس النظام السياسي، الذي يوفر لها، بالتحالف مع جماعات الكومبرادور، والفاسد من رجال المال والأعمال، مصالح فئوية، يتطلب الحفاظ عليها، وإدامة البنية الحالية للسلطة، بارتباطها باتفاق أوسلو، والتزاماته واستحقاقاته. ولا تملك القرار ولا المصلحة الطبقية لمغادرة أوسلو بل إن مصلحتها الطبقية تملي عليها تقديم التنازلات المطلوبة للإبقاء على أوسلو، بما في ذلك مطالبة الأمريكيين الضغط على إسرائيل لتضع حداً لسياسة احتقار الإتفاق، وتجاوزه، وفي الوقت نفسه، مطالبة السلطة الالتزام به.

وفي ظل تطور الحالة الإسرائيلية، والتصعيد الدموي بلا حدود، تدرك السلطة أن قواعدها بدت تصاب بالضعف وأن قاعدتها الشعبية بدأت تتقلص، الأمر الذي يتطلب اللجوء إلى عملية جراحية من أجل إنقاذ المريض، والمريض هنا هو السلطة، ومصالحها الفئوية.

من هنا يبقى السؤال برسم السلطة:

هل ستتورط بما يخطط لها من فتنة، وهل ستكون في عداد من يعدّون الجنازة ؟! ...

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق