نحو تحول في النظام الإقليمي العربي


 جميل مطر

أعترف أنني واحد من عرب كثيرين اهتموا بمتابعة أحدث حروب الأوروبيين، أقصد الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية، حتى  شغلهم هذا الاهتمام عن متابعة تفاصيل الثورة الناشبة في هياكل وتفاعلات نظامنا الإقليمي العربي.

لنا بعض العذر فما كشفت عنه هذه الحرب وما انكشف بعد طول معاناة وما تسببت فيه أذهلنا إلى حد جعل التفكير في مستقبل البشرية وبخاصة في الجزء الذي نسكنه يبدو كاللعب بالنار.

  • • •

انكشف أمامنا ضعف القطب الروسي ومعه تعمق الشك في استحقاقه الاحتفاظ في المستقبل بالمميزات المرافقة لمكانة القطب الدولي. انكشفت أيضا الصعوبات التي تكتنف عملية صعود الصين حتى راح بعضنا يتساءل عن جواز سحب صفة الأسطورة التي رافقت هذا الصعود. صرنا شهودا على دلائل تعزز القناعة بأن انحدار أمريكا يقف، مع عوامل أخرى، وراء دفع أو استدراج كل من أوكرانيا والاتحاد الروسي ليتقاتلا في حرب هي الأولى في القارة الأوروبية بعد حوالي سبعة عقود من السلم. ثم تتأكد الدلائل وتزداد عددا عندما نرى ألمانيا تنفض عن نفسها عباءة السلم وتعود تتبنى منهجا في التسلح كان الظن أن أحدا في ألمانيا لن يجرؤ على تبنيه مرة أخرى. تبنته حكومة المستشار شولتس فتداعت على الفور مخاوف مبررة في عواصم مختلف الدول المجاورة.

أوروبا، في ظل الحرب الدائرة فيها، تتغير. الحلف الغربي يهدده فيروس التفكك. مرة أخرى يعود الحديث عن الفوارق الثقافية بين مجموعة دول جنوب أوروبا ومجموعة دول الشمال وفوارق أخري بين مجموعة دول غرب أوروبا ومجموعة دول الشرق. بولندا غير المطمئنة إلى نوايا ألمانيا في المستقبل ومرتعبة من روسيا التوسعية من ناحية أخرى، راحت تجس نبض جاراتها الصغيرات عسي أن تفلح في تشكيل حلف خارج عن سيطرة الدول الكبرى. اهتزت في كل أوروبا كما في العالم النامي صورة الديموقراطية الأمريكية، هذه القوة الناعمة بامتياز. اهتزت الصورة كنتيجة، في رأي البعض، لاجتماع عناصر انحدار هيكلية وسلوكية ليست قليلة. في رأي بعض آخر ضعفت الديموقراطية الأمريكية في حد ذاتها فاهتزت صورتها وصارت سببا من أسباب الانحدار وليس نتيجة له.

  • • •

انشغلنا بالصراع بين الكبار والتحول المتوقع في توازنات القوة في النظام الدولي متجاهلين أو غافلين عن تطورات خطيرة تقع أو تتعمق في أحوال النظام الإقليمي العربي. أختار في السطور التالية بعض أهم هذه التطورات وبخاصة تلك التي يمكن لو استمرت أو تعمقت أن تؤدي إلى انفراط النظام أو على الأقل تآكله جزءا بعد جزء وهيكلا بعد هيكل ومبدأً بعد مبدأ. هناك أيضا من هذه التطورات تلك التي يمكن لو استمرت أو تعمقت أن تؤدي إلى أن يتحول النظام في بعض أجزائه وأشكاله فتتغير بعض خصائصه ولكن يبقى محافظا على هويته الأصلية، أي عروبته.  أو يتحول في كلياته فيزول تماما أو تذوب هويته وبعض هياكله في نظام إقليمي آخر مختلف جذريا عن النظام الإقليمي العربي.

أولا: بالمحافظة على حلف الأطلسي مكونا أساسيا من مكونات القوة الصلبة الأمريكية نجحت أمريكا في استخدامه عند الحاجة لخدمة الدور المنوط بها في قيادة النظام الدولي. هذا الوضع في النظام الدولي لا يجد ما يقابله في النظام الإقليمي العربي. إذ أنه حتى يومنا هذا لم تفلح الدولة القائد في النظام العربي في إقامة حلف تقوده لأغراض الدفاع عن النظام.

ثانيا: كل ما استطاعت أن تفعله هذه الدولة عند الحاجة هو أنها كانت تقيم حلفا في قضية بعينها على أن ينفض الحلف بانقضاء الحاجة. كان هذا ما فعلته مصر في مواجهاتها مع إسرائيل، العدو الأساسي للنظام منذ نشأته وحتى توقيع اتفاقيات التطبيع. فعلته أيضا المملكة السعودية عندما قررت بصفتها الدولة القائد في النظام الفرعي للخليج العربي تشكيل حلف لشن حرب ضد الحوثيين المدعومين من إيران.

ثالثا: يجري حاليا ولفترة من الزمن تجميد الكثير من أنشطة العمل العربي المشترك في انتظار أن تعود مصر لتنهض بمسئوليتها حسب الدور المخول نظريا للدولة القائد في النظام الإقليمي العربي. طال أمد تجميد الأنشطة وفي ظني أنه طال هذه المرة في انتظار أن تظهر قيادة جديدة للنظام قادرة على النهوض بمسئوليتها حسب الدور المفترض أن يؤديه القائد الجديد للنظام. غير خاف، حسب رأي متخصصين في بعض مراكز البحث الغربية، أن المملكة السعودية تستعد لتحمل هذه المسئولية في حال لم تتقدم مصر وتعود لتنهض بالمسئولية. دليل هؤلاء على صدق تنبؤهم السعي الحثيث الذي تقوم به المملكة لإقامة ترسانتين في وقت واحد، واحدة لعديد أنواع ومنتجات ومشروعات القوة الناعمة، وهذه جاري استيراد واستعارة الكثير منها من مصر ودول أخرى، أما الترسانة الثانية فمخصصة لعديد أنواع ومنتجات ومشروعات القوة الصلبة وفي صدارتها السلاح. هنا وبخصوص الترسانة الثانية لا أحد يستبعد احتمال الاستعداد المتنامي لحيازة القنابل النووية وبخاصة بعد أن صارت هذه الحيازة احتمالا ممكنا في ألمانيا وأستراليا، ومؤجلا في اليابان.

رابعا: لم ينشأ في النظام الإقليمي العربي مؤسسات أو أجهزة لتسوية النزاعات التي تنشب بين الأعضاء. حاولت أمانة الجامعة العربية مرارا أداء هذا الدور وفشلت باستثناء مرات معدودة وبوسائل غير مؤسسية. فشلت أيضا في البناء فوق إنجازات بسيطة حققتها في مجالات أخرى. جانب كبير من هذا الفشل تعود المسئولية عنه إلى الانسحاب المتدرج عبر العقود الأخيرة لموقع هوية النظام وأقصد تحديدا عروبة النظام في الخطاب السياسي. تراجع موقع الهوية متأثرا بخطاب العولمة وسياساتها. ومع ذلك ورغم تراجع العولمة في السنوات الأخيرة استمر موقع الهوية العروبية يتراجع في أجواء شعور بالعجز مخيم على المنطقة في معظم نواحيها.

خامسا: بالفعل تعددت مواقع الفشل التي تسببت في نشر الشعور بالعجز. ففي السودان وليبيا وفي اليمن وسوريا وفي لبنان وفلسطين وفي العراق أزمات حادة تستدعي تدخلا قويا من نظام إقليمي يتحمل إلى درجة غير بسيطة جانبا من مسئولية ما حدث. صارت حاجة هذه الدول ماسة لدور تضطلع به دولتان مرشحتان لدور إنقاذ النظام وإلا انفرط لغير عودة. لا بد من لقاءات مصارحة مع مختلف القادة العرب تقود الدعوة لعقدها ومتابعة أعمالها مصر والمملكة السعودية. ويا حبذا لو تستعد الدولتان لهذه الاجتماعات بفريق من المتخصصين والدبلوماسيين الخبراء في شئون هذه الدول قبل أن يبدأ الغرب سباقا جديدا على أفريقيا والمنطقة العربية، فتذهب الدول المنهكة فريسة سهلة في هجمة استعمارية جديدة. لدى الدولتين معا من الخبرة وأدوات الضغط والتشجيع ما يسمح لهما بإنقاذ ما يمكن إنقاذه على صعيد النظام الإقليمي المهدد الآن بالانفراط أكثر من أي وقت مضى. أتصور أيضا أن إقامة مجلس أعلى لأمن واستقرار هذه العلاقة الاستراتيجية وحمايتها من دواعي أو تجاوزات المنافسة المشروعة بينهما اقتراح عاجل وجدير بالاهتمام.

أعتقد أن إسرائيل وأمريكا سوف ينتهزان فرصة الضعف الراهن في النظام العربي لتصعيد حملة غرس النفوذ الإسرائيلي في عديد الدول العربية   إلى حد تتقطع عنده أواصر العلاقات العربية العربية. بعد قليل ينفرط النظام الإقليمي العربي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق