باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».
بعد مئة وخمسة أعوام ما يزال وعد بلفور حاضراً في مأساة الشعب الفلسطيني، ماثلاً في جرائم الصهيونية، واصماً العار في جبين الإنسانية، محملاً بريطانيا مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية في قبيح ما فعلت وغدرت وخدعت، وتأبى إلى الآن أن تتحمل نتائج ما جنت، وأن تعترف بمسؤولية، فتلغي الوعد وتعتذر، لأن وعدها لم يكن مجرد رسالة حنان بلفورية تكن مشاعر العطف على أناس اضطهدوا كما ادعت، ذكاؤها العاطفي يعرف تماماً مقدار الظلم التاريخي الذي لحق بشعب فلسطين وما يزال، ولا عين عطف خلف نظارات حكومة جلالته.
في الصيغة النهائية وبأقل من مئة وعشرين نجمل ما جاء في النص عداً وحصراً بأدوات التعريف والتنكير، وما يحتويه من أدوات غير الكلمات، كلمات قليلة ذات أثر لا أحد يعرف معناها ويدركها مثل شغب فلسطين، عبّرت عن التزام أو تعهد قوة استعمارية عظمى للصهيونية بتحقيق أهدافها، كتتويج لمفاوضات واجتماعات ونقاشات مطولة، وصف جورج لويد في مذكّراته هذه اللقاءات بأن الإعلان تبع العديد من المناقشات، بما في ذلك اللقاءات الأوليّة عامي 1915 و1916 بين لويد جورج الذي عُيِّن وزيراً للخارجيّة في مايو/أيَّار 1915، ووايزمان الذي عُيِّن مستشاراً علميّاً للوزارة في سبتمبر/أيلول 1915، في لقاء عُقد في 19 يونيو، طلب بلفور من اللورد روتشيلد ووايزمان تقديم صيغة للإعلان، أعدَّت لجنة المفاوضات الصهيونية مسوَّدة تحتوي على 143 كلمة، لكن وزارة الخارجيّة البريطانية أُعدت مسودة مختلفة، تتحدث عن «ملاذ لضحايا الاضطهاد من اليهود». وقد لقيت هذه المسودة مُعارضة قويّة من الحركة الصهيونية، فأُهملت، وبعد مناقشات موسعة، أُعدَّت خلالها مسودة أخرى وقدمت إلى مجلس الوزراء للنظر فيها بشكل رسميّ، هذه النقاشات حول المسودة دارت في جهتين:
· على مستوىً عالٍ بين السياسيين البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونيِة، استمرت لسنوات وحضرها إلى جانب روتشيلد وحاييم وايزمان والسيد بلفور، السير مارك سايكس أحد صاحبي مشروع تقسيم بلاد الشام.
ناقش سياسيون بريطانيون زعماء الحركة الصهيونيّة مستجدات الحرب العالمية الأولى في لقاء وقع في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، بعد أربع أيام من إعلان بريطانيا الحرب على الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي تحكم فلسطين وتدير متصرفية القدس.
ومن مواضيع النقاش: أين تريد الحركة الصهيونية إنشاء دولتهم؟. مستشار الخزانة ديفيد لويد جورج وعضو الاتحاد الصهيونيّ لبريطانيا العظمى وإيرلندا، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء، في عهده تم الإعلان عن وعد بلفور، اقترح العمل على منطقة أوغندا لإقامة الكيان اليهودي على أرضها، بعد ذلك غير رأيه، واقتنع بأهمية فلسطين للتاج البريطاني، ونوقشت مسألة مستقبل فلسطين، وكان سايكس قد كتب في رسالة خاصة إلى زعماء الحركة الصهيونية: «الصهاينة الآن هم مفتاح الوضع». قادة الحركة الصهيونيّة وداعميهم البريطانيين أكدوا ضرورة ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية، كما أكدوا على ضرورة إصدار إعلان عن الحكومة البريطانية يتضمن الرسالة أو الوعد أو التعهد أو الالتزام أو مشروع الإعلان البريطاني صيغة توصل إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين دون الصراحة والوضوح إلى ما ستؤول له الأمور.
· مناقشات جرت في مجلس الوزراء البريطاني، وفي مجلس العموم البريطاني، بعد المناقشات لبرلمانيين ومسؤولين سياسيين أقروا مصطلحاً غامضاً عمداً، عبارة من المقصود أن تحمل أكثر من تأويل، بهدف الخداع الاستعماري: «وطن قومي» (national home) دون الإشارة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، الدولة بما تعنيه من أرض وشعب وسيادة، هذه العناصر الثلاثة تم صناعتها بريطانياً بالخطوات التالية:
- سمحت بريطانيا الاستعمارية للوكالة اليهودية بالاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي فلسطين.
- اعتبرت الأرض المستولى عليها، تخص شعب استناداً إلى خرافات توراتية، فنظمت بالتعاون مع الوكالة اليهودية هجرات جعلت من المهاجرين مجتمعاً متكتلاً لهم مصالحهم الخاصة.
- اعترفت بريطانيا الاستعمارية بهيئة هي وكالة يهودية معنية بجميع شؤون اليهود ومصالحهم.
- مكّنت المنظمات الصهيونية من استكمال ما قامت به سلطات الانتداب في كل ما يتعلق بقضايا إنشاء الوطن القومي اليهودي.
في 21 تمّوز/ يوليو عام 1921، في لندن، التقى حاييم وايزمان بتشرشل ولويد جورج وبلفور وخلال هذا اللقاء قام لويد جورج وبلفور بطمأنة وايزمان «بأنهما كان يعنيان دولةً يهوديّة في نهاية المطاف»، قال لويد جورج عام 1937 أنه كان المقصود أن تصبح فلسطين كومنولث يهوديّ عندما «يصبح اليهود أغلبيّة حاسمة بين السكّان»، واتفق مسؤولون بريطانيّون مع تفسير الصهاينة بأن الدولة ستقوم عندما تتحقق الأغلبيّة اليهوديّة، ولقد خضعت قضية الوطن مقابل الدولة للتدقيق. قال تشرشل عن معنى الوطن القوميّ: إذا ما أصبح اليهود على مدار السنين أكثريَّةً في البلد، فإنهم سيأخذونه بشكل طبيعيّ.
في المقارنة بين الدولة والوطن، يشير الوطن إلى مكان جغرافي يرتبط به المقيمون عاطفياً يتمتعون بالمساواة بالحقوق وعليهم واجبات دون أن يكون لأحد مكوناته الطائفية أو العرقية أو القومية أو الاثنية كيان سياسي مستقل، بينما الدولة لا تعني فقط إقليم جغرافي يسكنه مجموعة أفراد، ما يميز الدولة هو النظام السياسي الذي يخضع له كل السكان على حدود جغرافيا معترف بها.
سمح المصطلح الغامض «وطن قومي»، للحكومة البريطانيّة ممارسة الخداع الاستعماري لامتصاص نقمة شعوب المنطقة عموماً وشعب فلسطين خاصة، بأن عبارة «في فلسطين» تشير إلى أن الوطني القومي اليهودي المُشار إليه لم يُقصد أن يُغطي كلَّ فلسطين وهو ما مهد لصدور قرار تقسيم فلسطين، كما مكّنت هذه العبارة الحكومة البريطانية من المراوغة بين طرفي الصراع العربي والصهيوني بأن تفسر للصهاينة أن وطن قومي للشعب اليهودي بهذه الصيغة يساوي مصطلح الدولة، وتدعى لدى القيادة الفلسطينية في ذلك أن وطن لا يعني دولة تخص اليهود دون غيرهم، لكن قراءة نص الوعد بدقة، يظهر نية الخداع الاستعماري في صياغته التي تجاهلت الفلسطينيين أصحاب البلد الأصليين، وأنكر وجودهم، وانحدر بالتعريف عنهم إلى مستوى «الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، وسعت الحكومة البريطانية ونجحت في أن يتضمن صك الانتداب صيغة مشابهة لصيغة وعد بلفور في تحديد هوية الفلسطينيين المقيمين على أرضهم، فجاء صك الانتداب متضمناً صيغة بلفور نفسها دون تغيير: «فئات الأهالي الأخرى»، لكنه أبداً لم يشر إلى الفلسطينيين كشعب له حقوقه السياسية وفي مقدمتها حق تقرير المصير، بينما اعتبر طوائف دينية يهودية تعيش وتنتمي لبلدان مختلفة على مدار الكرة الأرضية بأنهم شعب، وادعى أن صلة تاريخية تربط الشعب اليهودي بفلسطين، كسبب يبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في فلسطين، وبذلك تكون بريطانيا قد اعترفت ومن ثم فرضت حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، فضلاً عن كونه ليس من سكان البلد أصلاً، فكان لابد من توفير شروط استقدامه وتوطينه في فلسطين من خلال ممارسة أقصى درجات الضغط وصولاً إلى الإكراه، لا بل العنف بأشكاله على سكان البلاد الأصليين.
قبل الصيغة والإعلان عن الوعد تم التداول بمصطلحات عديدة كـ«الوطن القوميّ اليهوديّ» و«دولة يهوديّة» و«جمهوريّة يهوديّة» و«كومنولث يهوديّ»، وقيل إن جدلاً في مجلس العموم البريطاني دار حول الوعد الحكومي البريطاني فيما إذا كان الوعد يتعارض مع الوعود السابقة التي قطعها البريطانيُّون لشريف مكة خلال مراسلات الحسين – مكماهون، لكن وزير المستعمرات في ذلك الحين تشرشل سخر من هؤلاء الذين يعتقدون أن بريطانيا ستسمح بقيام دولة عربية مستقلة، وطمأن من ادعوا أن هذا الإعلان سيضر بوضع السكان المحليِّين لفلسطين، وسيشجع معاداة السامية الموجهة ضد اليهود في جميع أنحاء العالم، وتجاهلت الحكومة البريطانيّة الرأي القائل أنه من المفترض أخذ آراء السكان المحليين بعين الاعتبار، والذين كانوا يشكلون الأغلبية العُظمى من السكان المحليِّين لفلسطين آنذاك، كما تجاهلت في التنفيذ ما نص علية الوعد بما يخص حماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين.
وقد تحدَّث السيد ونستون تشرتشل عن 'دولة يهوديّة'، وتحدَّث آخر في البرلمان البريطاني عن 'إعادة فلسطين لليهود'.
وبرأيي أن مُصطلح «وطن قوميّ» بدلاً عن مصطلح «الدولة» صيغ غامضاً بحيث أن معناه غير واضح وملتبس قياساً بمفهوم الدولة ، ليس بسبب وجود أصوات معارضة للبرنامج الصهيونيّ داخل أوساط الحكومة البريطانيّة، ولم تكن الصياغة نتاج حل وسط بين أولئك الوزراء أنصار إنشاء دولة يهوديّة وأولئك المعارضين لها، فالقناعة كانت راسخة عند البرلمانيين والوزراء والمسؤولين البريطانيين بأن إعلان بلفور سيقود إلى دولةً يهوديّة مع مرور الوقت، حتى أن زعماء الصهيونية أنفسهم صرحوا أنهم لا يريدون صيغة إقامة جمهوريّة يهوديّة أو أي شكل آخر لدولة في فلسطين، ويفضلون صيغة بمعنى عبارة «وطن قوميّ للعرق اليهوديّ في فلسطين، ذلك لا يعني اختلافاً بينهم، حول دولة كاملة، وإن كان هناك اختلاف بين صهاينة ويهود غير متصهينين.
لقد مرت صياغة الوعد بمراحل متتالية وخلال سنوات طويلة من الحوارات والنقاشات، في البداية دخل مارك سايكس بصفته الشخصيّة في مناقشات مع القيادة الصهيونيّة، في كانون الثاني/ يناير من عام 1917بدأت المفاوضات الرسمية البريطانية-الصهيونية حين كُلِّفَ مارك سايكس من قبل حكومة الحرب بمسؤولية شؤون الشرق الأوسط، ثم دارت نقاشات الحلفاء حول الانتداب على فلسطين وإنشاء وطن قومي لليهود، وخاصة بين فرنسا وبريطانيا، من حزيران/يونيو إلى تموز/ يوليو1917أدَّت مناقشات الحكومة البريطانيّة إلى قرار تحضير إعلان الوعد، فالموافقة على إصدار الوعد أواخر 1917 ، وفي 2/11/ 1917تم إعلان الوعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق