عن معاني الفرح في عيون اللاجئ


شذى عبد العال

02-10-2022
لطريق المطار في بيروت مفارقُ عدة، لا توصل فقط إلى المطار مباشرة. هناك مسربٌ على يمين الذاهب جنوب العاصمة نحو مخيم شاتيلا، ومفرق آخر على اتجاه اليسار نحو مخيم برج البراجنة. من يقصد “مفرق المحامص” سيعرف انها بوابة العبور إلى مخيم البرج. هناك تدخل المخيم وتبدأ النظر الى الشارع الضيق، وإن رفعت رأسك لامستكَ أسلاك الكهرباء المتشابكة والمتدلية بكثرة وعشوائية في أزقة ضيقة تحجب وجه السماء، وتخفي حتى نور الشمس. ثمة عيون شاخصة عند كل مفترق، كائنات بشرية تتربص الوطن في جلسة انتظار طويلة على أعتاب بيوتهم. لكن كثافة البؤس لا يمكنها أن تحجب صوت الفرح المجلل من بعيد، يتدفق من حناجر الشباب في زفة العريس. ينحشر العرس في زاروب ضيق، معلناً ان الأفراح في ديارنا ومخيماتنا أيضاً عامرة.
إنه ازدحام الحب حين يمتلئ في قلوب راعفة، ويطوف في زفة تجوب "جورة التراشحة"، أبناء قرية ترشيحا الجليلية، تتحول في ليل بلا كهرباء إلى ساحات تشعّ بالدبكة وحلقات الرقص، كأنها في وسط مهرجانات بيت الدين الصيفية. حتى الأسطح المتقاربة والمتعانقة لها وسط الأفراح حصّة، فتفاصيل العرس ما زالت فلسطينية صافية، لا تغيب عنهم تقاليد الوطن، غابت القرية ولكن ناسها يحتفظون بطقوس الفرح فيها. لجأت معهم إلى المخيم الزفة وسهرة الحنة وصمدة العروس، غابت ساحات القرية وتفرق الرجال، لكن بقيت الدبكة وترنيمة المجوز يصدح “بالهنا يا ام الهنا يا هنية”، تلعلع في مخيم بلا فضاء. حناجر زغاريد الجدات التي تبشّر بتأسيس أسرة جديدة، كأنها تحمل سلاح الحب لتعلن ان هذا الشعب لا ولن ينسى، ويتمسك بالحب رغم الحزن، ويقاوم بالفرح.
هذا الفرح، سياقاً وإطاراً ومظاهر وتفاصيل، لا يجمع الفلسطيني فحسب، إنما للمجتمع اللبناني حصة فيه، فبين المجتمع الفلسطيني والمجتمع اللبناني نسبٌ ومصاهرات، وباتت القرابات تجمع أولاداً يعكسون هذا التلاقي اللبناني – الفلسطيني.
عرس بالعطر والحنّة
أذكر في مخيم نهر البارد شمال لبنان، بعد حرب صيف 2007 التي حصلت آنذاك مع تنظيم “فتح الاسلام”، وبعد عودة جزء قليل من أهل المخيم. يومها أقيم اول عرس، كان حفل زفاف بين الدمار، كانت الزفة تجول وسط الرماد ولون حيطان البيوت أشبه بلون بدلة العريس السوداء. يومها كان تنظيم هذا العرس لا يعني فقط الزواج إنما إعلان التمسك بالحياة والبقاء، كعنوان للعشق والصمود، للحفاظ على الحكاية التي لم تغادر المكان، وظلت تحتفظ بهوية ناصعة لم تلوثها الحرب، وجمالية وطن أقوى من بشاعة وقبح الموت! يومها كان لسان حال اللاجئين يلهج بتحدي المأساة من خلال إعلان الفرح، والمبالغة فيه كأنما يريدونه عرساً يخترق ما في قلوبهم من نكبات متكررة.
“قولوا لامو تفرح وتتهنا.. ترش الوسايد بالعطر والحنة” هنا قبل العرس بعدة أيام تبدأ مراسم الفرح بسهرة ليليّة للعريس على سطح بيته مع أصدقائه وأقربائه طبعاً بما يشمل نصف أهل المخيم تقريباً. واذا كانت الأسطح لا تتسع، فحارات المخيم تمتلئ بالشباب والأغاني التي حفظها عن ظهر قلب؛ “سبّل عيونه ومدّ إيده يحنوله.. غزال زغير كيف اهله يسمحوله”. وعلى الرغم من أن الحداثة غيّرت في الحفلات الفلسطينية، إلا أن ليلة حنة العروس للبنات بقيت ضمن مراسم العرس الفلسطيني في المخيم. تلبس ثوبها الفلسطيني هي وصديقاتها، ويرقصن على نغمات “الجفرا وشجرة السريس” ودبكة شعبية، هنا أنت في وسط قراهم، فهو ليس كأي عرس.. هو تعبير عن هوية الانسان واللاجئ اذا صحّ القول، حيث “تتمسك الاجيال بحق يأبى النسيان”، فكيف اذا كان “المعازيم” والضيوف أصدقاء العروس من خارج المخيم أو جنسيات مختلفة.
تخبر سنى حمود، عروس ابنة عائلة فلسطينية لجأت عام 1948 من وادي الحنداج قضاء صفد، “لما عملت سهرة حنة فلسطينية كنت عم بحيي تراثي، وهذا أقل واجب بقدر أعمله إني أتمسك بتراثي وهويتي لحتى ما يقدر العدو ينزعه منا”.
تتزين السهرة بالتطريز والنقشة الفلسطينية الحمراء مع اللون الابيض، حتى باقة الورد تكون من أوراق شجر الزيتون الأخضر الذي يرمز إلى معنى الصمود. بعدها تضع العروس يدها وتبدأ بوضع الحنة على اليدين على أغنية، “مدي دياتك يا مريم مدي دياتك”. تضيف سنى: “كنت فخورة اني عم بنشر تراثنا لصديقاتي اللبنانيات، وأيضا أهل العريس فهم لبنانيون، وقامت بتوزيع أكياس الحنة عليهم”. ولا تنتهي السهرة إلّا بالتّجلية، أي أن تحمل العروس الشموع وتدور بها رقصًا بين صديقاتها، لتعلن أنها ستنتقل لبيت زوجها “يا نور يا نور يا نور عينية”.
بيت ضيق لكنه يتسع لألف صديق!
لا يذهب العريس لعروسته الّا بحمام وزفة للعريس فهنا حمام العريس مليئ بضحكات الأصحاب يأتي الحلاق إلى البيت تبدأ النساء بوضع طبق مصنوع من القش على رؤوسهنّ يوضع فيه بدلة العريس والحذاء، والرقص حوله “احلق يا حلاق بالموس الذهبية احلق يا حلاق ليجو الاهلية”. وتأتي الزفة وهي مؤلفة من شباب تجمعهم آلات موسيقية ” الطبلة ، والقربة والطبل” وعلى ألحان يا ظريف الطول وقف تاقلك رايح عالغربة بلادك أحسنلك، وجفرا ويا هالربع والدلعونة، بعد الحمام تجوب الزفة زواريب المخيم وحاراته للوصول الى بيت العريس فالمارة هنا لا ينظرون فقط، إنما يرقصون للعريس حتى لو كانوا لا يعرفونه، تُسرع النساء على الشرفات المطلة على الأحياء لترشّ العدس والأرز وتصدح أصواتهن بالزغاريد.
مساحة المخيم لا تتجاوز 1 كلم مربع، لكنه يتسع للوليمة وكأنك لم تشاهده من قبل. الحارات تتزين، والطاولات تمتلئ بالمنسف الفلسطيني واللحوم يجتمع الأحبة على طاولة واحدة لليأكل، والفرح محطة لكل عابر، صغيراً أو كبيراً، للمشاركة بالفرح والأكل.
تنتظر العروس عريسها، وصوت جدتها يعلو في الأزقة المغلقة ليرد مع الصدى “أووييييها، أنا بدي أغني والي زمان ما غنيت… أووييييها بدي أغني كرامة لأصحاب البيت… أوييييها وحياة من خلا الزيتون يعصر زيت… أووييييها متل هالنسب ما لقيت”.
هكذا، كل الأصوات التي تسمعها عادة في المخيم وتخشاها تتحول إلى لحن عرس قروي.
بروفة لعرس العودة
من لطائف الأعراس الفلسطينية، أن البعض كان يكتب على بطاقات الدعوة للفرح “فرحتنا يوم عودتنا”، وكأنما الأعراس بمثابة بروفة للعرس الكبير، وأحياناً تقال عند المباركة “عقبال الفرحة الكبيرة”، وتسأل ما هي الفرحة الكبيرة! فيأتيك الجواب على الفور”الفرحة بالوطن”، الفرح مثل كل شيء، مهما كان فهو ناقص، هم يعيشون في الغربة بنصف آخر ، جزء لا يكتمل الّا بالأصل، بالهوية التي حملت اسم وروح ونفس البلاد، تراث خالد ، خلود ذاكرة الفلسطيني، ورسوخ مقاومته وأسلوبه في العيش الذي يعبر عن تمسكه بحق العودة، احياء التراث يثبت هوية اللاجئ وأن كل سنوات الجمر لا يمكنها أن تمحو شخصيته الوطنية. وكل ما في هذا المخيم من بؤس وغضب وأيضاً له كامل الحق بممارسة الفرح، تستطيع أن تجعل من المكان “غيتو” مخيف، أو دائرة معزولة بالنسبة للبعض، وإن كان بمقدور أحد أن يصادر العيش الكريم لمن فيه، لكن حتماً لن يستطيع أن يحاصر حقهم بالفرح، أو يلغي من قلوبهم حكايات مشبعة بالقصص وبألوان الحياة والأرض التي ما تزال في دياهم عامرة… إلى حين الفرحة الكبيرة بالعودة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق