شاهد على طريق موت مخيم تل الزعتر 1976

 


العربي الجديد- انتصار الدّنّان

12-08-2022
بينما كان يفر من مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين شرقي بيروت عام 1976، سار على جثث الشهداء. البلطة (الفأس) كانت تصيب أحد المارين وتترك آخر. لقد كان محظوظاً في عبور طريق الموت المحتم.
كان غسان دعيبس في السادسة عشرة من العمر عند وقوع مجزرة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين شرق العاصمة اللبنانية بيروت عام 1976، حين حاصرت قوات الأحزاب اليمينية وجنود الجيش السوري المخيم نحو شهرين. عايش الأحداث لحظة بلحظة، واختبر الموت مرات عبر استشهاد عدد كبير من أفراد عائلته ومن بينهم أخوه.
يروي بعض مشاهداته للأحداث المريرة التي عاشها بالقول لـ"العربي الجديد": "في بداية الأحداث كانت تحصل مناوشات بين القوات اليمينية والمسلحين الفلسطينيين. وكانت تترافق مع خروج المسلحين الفلسطينيين إلى حدود المخيم، والانتشار في أرجائه وخارجه لمحاولة حماية الأهالي، وصولاً إلى تلة المير أو إلى أسفل منطقة الدكوانة شرقي بيروت".
يتابع: "كانت هذه الأحداث أشبه بحرب عالمية ثالثة، وحصلت في يونيو/ حزيران 1976 حين حاول المسلحون الفلسطينيون بكل أطيافهم حماية المخيم، ثم أبدى حزب الكتائب اللبنانية غضبه من الوضع السائد، واستنجد بالجيش السوري الذي دعمه في الحرب على المخيم، وساند مهمة تهجير السكان، وقتل أكبر عدد منهم، وهو ما أظن أنه كان أمراً قيد التحضير بعد عملية بوسطة عين الرمانة التي سقط فيها ابن عمي، واستكمالاً لحرب العام 1975. وقد استشهد ستة من أولاد عمي في مجزرة تل الزعتر، وكذلك أخي وسبعة أفراد آخرون من أقاربي. لم يسلم منزل في مخيم تل الزعتر من سقوط شهداء، ولم يبقَ منزل لم يذرف أهله الدموع".
ويشير إلى أنه "بعد استنجاد حزب الكتائب بالجيش السوري بدأ قصف المخيم ليلاً نهاراً بكل أنواع الأسلحة لمدة شهرين، حيث كانت تسقط ثلاث قذائف على المخيم كل دقيقة. جميع الأشخاص الذين كانوا يستطيعون القتال شاركوا في معارك مخيم تل الزعتر، لكن أسلحة منفذي الحصار كانت أقوى، وتلقوا الدعم المطلوب لإحكام الطوق على المخيم، والذي وفره أيضاً مرتزقة أشداء".
يضيف: "أسقط الجيش السوري المخيم وليس الكتائب اللبنانية، إذ كان جنوده يقصفون المنازل بدبابات وقذائف هاون، وأخرى من عيار 155 مليمتراً. استخدموا كل أنواع الأسلحة في قصف المخيم حيث سقط آلاف الشهداء والمفقودين. وخلال الحصار، لم يتوفر الطعام والمياه. غزا القمل رؤوسنا لأننا لم نكن نجرؤ على الذهاب إلى حنفية مياه، فكل شخص كان يرغب في إحضار المياه كان يضع دمه على كفه، فذهابه قد يكلفه حياته، وربما لا يعود. في النهاية كانت البيوت ستنهار على رؤوس سكانها، فخرج المقاتلون عن طريق الجبل كي يؤمنوا سلامة المخيم وأهله، لكن ذلك لم يحصل".
ويذكر أنه تاه عن أهله حين خرجوا من المخيم، و"عندما وجدوني كانوا قد ذهبوا إلى شقة في مبنى يضم المكتب المركزي لحركة فتح. وبعدما سقط المخيم، استسلم الناس وخرجوا. انتعلت حذاء من البلاستيك بعدما ربطته كي لا يسقط من رجلي، ومشيت مع الناس وخرجت مع عائلتي. تظاهرت بأنني أعرج، وكان رجال حزب الكتائب يصطفون على جانبي الطريق، ويحملون في أيديهم بلطات (فؤوس) إما تهوي على رأس عابر أو يده، أو تشوّه وجهه. والذي ينجو يمر على جثث محترقة ملقاة على الأرض، وهذا ما حصل معي".
يتابع: "عندما مررت أمام رجال حزب الكتائب اللبنانية جعلوني أعبر، لكن أحدهم ناداني بعدما سرت خطوات قليلة، وطلب مني أن أنتزع من يدي ساعة ثمينة كان جلبها والدي لي من قطر حيث عمل في قطاع المقاولات، وأخذها مني قائلاً أنت لا تستأهل اقتناء هذه الساعة. توجهنا من تل الزعتر إلى الدكوانة، وافترقت عن أبي، ولم أعلم حينها إذا كانت أمي وأخوتي بين الأحياء. وبعد ذلك جرى تجميعنا في ساحة معهد الفندقية بالدكوانة، حيث وجدني أهلي الذين عرفت أنهم خرجوا من المخيم عبر شخص يقطن حالياً في منطقة وادي الزينة بإقليم الخروب (جبل لبنان). وهو كان يعرف حينها أشخاصاً من المنطقة فقاد أهلي إلى بيتهم".
يضيف: "بينما كنت في ساحة الفندقية، أتت امرأة إلي وأمسكتني بيدي، وأخذتني إلى أهلي بعدما قالت لي: أركض، ولا تنظر خلفك، فذهبت معها من دون أن أدري إلى أين، إذ كنت أشعر بخوف رهيب، وقد شاهدت حينها اعتقال رجل قاتل مع أولاده، ثم ربطوا قدميه، وهشموا عظامه لدى سحله في المكان. بعدها وصلت إلى مكان وجود أهلي، لكن صور القتلى كانت ما زالت في مخيلتي، وكذلك الرؤوس المقطوعة والبنات اللواتي جرى تعذيبهن، والأطفال الذين لم يتجاوز بعضهم عمر الشهر وألقوا بهم في حاويات النفايات بعد قتلهم، أو حتى وهم أحياء. بالنسبة لي، لم تأتِ على البشرية جريمة أفظع من مجزرة تل الزعتر".
ويخبر أنه بقي في بيت أولئك الناس حتى العصر تقريباً، "ثم جاءت شاحنات نقلتنا إلى المدينة الرياضية في بيروت (غرب بيروت)، حيث انتظرنا جدي وعائلته، ثم انتقلنا معهم إلى مخيم الرشيدية". يضيف: "ومن مخيم الرشيدية تهجرنا إلى صيدا (جنوب)، حيث مكثنا في مبنى المحكمة الشرعية، ثم انتقلنا للعيش في منطقة عبرا شرق مدينة صيدا. وفي عام 1980 انتقلنا إلى مخيم مار الياس في بيروت حيث قصف منزلنا مرتين، لكننا أعدنا بناءه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق