بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
كشفت الأزمة الأوكرانية عن عنصريةٍ غربيةٍ مقيتةٍ، وعن ازدواجيةٍ سياسيةٍ غريبةٍ، أظهرت حقيقة نفوسهم، وفضحت شذوذ أخلاقهم وانحراف قيمهم، وأظهرت معاييرهم المنتقاة ومقاييسهم المعوجة.
فقد تعاطف الغرب الأوروبي كله، والولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا وكندا ونيوزلندا، وغيرهم من الدول التي تدور في فلكهم، وتتبنى سياستهم، وتتحالف معهم، مع أوكرانيا الدولة والشعب، والأرض والحدود، والشرعية والسيادة، وقدموا لهم مختلف أشكال الدعم السياسي والإعلامي، والإغاثي والمالي، والعسكري واللوجستي، والتقني والمعلوماتي، والمعنوي والنفسي.
وأصغوا السمع لمطالبهم، وسخروا المنابر لقيادتهم، وفرضوا مختلف العقوبات الاقتصادية على روسيا إكراماً لهم وتضامناً معهم، وما زالوا على مواقفهم ثابتين، وعلى دعمهم لأوكرانيا مصرين، ويرون أنهم ما زالوا مقصرين، وأنهم لم يقوموا بكل ما يستطيعون، ولم يؤدوا كامل الواجب المنوط بهم والمطلوب منهم.
وقف الغرب كله موحداً إلى جانب الأوكرانيين فما تخلوا عنهم، ولا قصروا معهم، ولا ترددوا في دعمهم، ولا تأخروا في مساعدتهم، ففتحوا الحدود معهم رغم الأخطار المحدقة، واحتمالات القصف الروسية المتوقعة، ورحبوا بمئات آلاف اللاجئين الفارين من الحرب، وأحسنوا استقبالهم، وبالغوا في إكرامهم، وهيأوا لهم أكرم ضيافة وأفضل نُزُلٍ، وزاروا دعماً لهم عاصمتهم المحاصرة وقيادتها، رغم كثافة النيران وشدة القصف.
لم يحاول الغربيون أن يخفوا التناقض في معاييرهم، والانحراف في أخلاقهم، خاصةً تجاه فلسطين وشعبها، بل مضوا في سياستهم بجرأةٍ ووقاحةٍ، وإصرارٍ وعنادٍ، ذلك أنهم يشعرون أن مصالحهم في خطر، وأن أمنهم مهدد، وأن روسيا تتوسع، ونفوذها يزداد، وقوتها تتعاظم، وأحلامها تكبر، وحنينها إلى القيصرية القديمة والاتحاد السوفيتي العظيم قد بدأ يتململ.
لا نستغرب المواقف الأمريكية والغربية من الأزمة الأوكرانية، فهي طبيعية في ظل عالمٍ يقوم على المصالح وينهض على المنافع، ولعل القواسم المشتركة التي تجمعهم مع الأوكرانيين إلى جانب المنافع والمصالح كثيرة، فهم جزءٌ من أوروبا وأكبر دولةٍ فيها، وغالبية السكان مسيحيون ليبراليون، يتطلعون إلى النموذج الغربي والمثال الأمريكي، ودولتهم قوية ومصنعة، وخيراتها الزراعية كبيرة، وقدراتها الإنتاجية هائلة، فضلاً عن أنها تحد روسيا وتستطيع مناوشتها وإشغالها، والحد من أطماعها والتصدي لمغامراتها.
الموقف الغربي من أوكرانيا يستدعي بقوةٍ المقارنة مع الموقف العربي من فلسطين، والمقصود هنا المواقف الرسمية وسياسات الأنظمة والحكومات، حيث تبرز فروقاتٌ كبيرةٌ، وتظهر عيوبٌ فاضحة، وتنكشف عوراتٌ مخزيةٌ، رغم أن القواسم المشتركة مع فلسطين كثيرة جداً، ولا تستطيع دولةٌ عربية أن تنكرها أو تتجاهلها، فهي تقع في محيطها وبالقرب منها، ولغتها عربية، ودينها الإسلام، وأهلها مسلمون ومسيحيون، وتاريخها معهم مشترك، ومقدساتهم فيها كثيرة، ومصالحهم معها كبيرة، وعدوها في الأصل عدوهم، يهددها جميعها ويستهدف أمنها، ويطمع في خيراتها، ويخطط للنيل منها والسيطرة عليها.
إلا أن المواقف العربية الرسمية من فلسطين وقضيتها، ومن شعبها وأهلها، تختلف كلياً عن المواقف الغربية وسياساتها تجاه أوكرانيا وشعبها، وربما الحديث يدور أكثر عن هذه الحقبة الزمنية وليس عما مضى، الذي كان نوعاً ما مختلفاً عما هو عليه الآن، إذ كانت الأنظمة العربية تؤيد ولو شكلياً، مجبرةً أو طواعيةً، القضية الفلسطينية، وتقف معها وتساند أهلها في نضالهم وتؤيدهم في مقاومتهم، ولا تقوى على القيام بما يضرهم أو يخالف مصالحهم، أو يضعف مواقفهم ويسيئ إلى قضيتهم، وإن كان اللاجئون الفلسطينيون في البلاد العربية عانوا كثيراً في مخيماتهم وما زالوا، والمواطنون المسافرون إليها والعابرون فيها كانوا ولا زالوا يقاسون الويلات بسبب جنسيتهم، أياً كانت وثيقة سفرهم أو جوازهم مرورهم وهويتهم التي يحملون.
أما اليوم، ففي الوقت الذي يساند فيه الغرب كله الشعب الأوكراني ويدعم مقاومته، ويقاطع من أجله، ويعاقب لصالحه، تقوم بعض الدول العربية وتسعى غيرها بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وتطبع العلاقات معه، وتتبادل وإياه التمثيل الدبلوماسي، وتشترك معه في علاقات واسعة متعددة الجوانب والمجالات، وتوقع وإياه اتفاقيات اقتصادية وعقوداً تجارية كبيرة، وتفتح أجواءها لطيرانه، وتعبد المسارات الملاحية البحرية لسفنه، وتفتح المجال واسعاً لمنتجاته وصناعاته، وتخطط لنقل النفط الفلسطيني الذي يسرقه من أصحابه الشرعيين عبر أراضيها لبيعه في أوروبا للغرب وغيرهم، ولا تتردد في استقبال مسؤوليه وإكرام ممثليه، وترفع علم كيانهم، وتصدح فرقها الوطنية بالنشيد الإسرائيلي.
غريبةٌ هي هذه المواقف العربية الإسلامية، ألا تتعلم من الغرب المسيحي، ألا تغار منه وتستفيد من تجربته، ألا تستحي من صمتها وتخجل من عجزها، ألا تشعر بأنه يجب عليها أن تعيد النظر في سياستها، وأن تراجع مواقفها، وأن تؤوب إلى رشدها وتعود إلى أصلها، وتصلح ما أفسدته سياساتها، وما خربته اجتهاداتها، وتدرك أن اليقين هو ما جاء به القرآن الكريم وما نص عليه في آياته المحكمة “ولتجدن أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”، فكيف يخالفون شرع الله ويوادونهم، وينقلبون على قيمهم ويصالحونهم، ويناقضون المنطق ويعترفون بهم ويساندونهم.
إنها معادلةٌ للأسف بائسة، فليست فلسطين كأوكرانيا وليس العرب كالغرب، وقد كنا نتمنى عكس ذلك أو مثلهم لا فرق، إذ لا نعيب على الغرب تكاثفهم وتعاضدهم، ولكننا نعيب على قومِ “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”، فللأسف قد أخذ الغرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس رسولهم، بينما أعرض أتباعه عن سنته، وخالفوا أمره، ولم يأخذوا بما أوصى به وحرص عليه، وما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لم يعودوا أمته وإن انتسبوا إلى ملته، فقد غيروا وبدلوا بعده، فتبرأ منهم قائلاً “سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي”.
بيروت في 20/6/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق