شيرين أبو عاقلة .. شهيدة «جريمة حربٍ» إسرائيلية! |


  

بقلم هيثم زعيتر

جريمةُ حربٍ وضد الإنسانية، ارتكبتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي، صباح أمس (الأربعاء)، باغتيال الصحافية المُتألّقة في «قناة الجزيرة» شيرين نصري أبو عاقلة، أثناء قيامها بواجبها الصحفي على أرض فلسطين.

اغتيالٌ مُتعمّدٌ برصاص قنّاصٍ من جيش الاحتلال، اختار هدفه بدقّةٍ وحرفيّةٍ، وتوجيهٍ سياسي وعسكري، بهدف مُحاولة طمس الحقيقة وحجبها عن الرأي العام العالمي، ضمن سياسة كمِّ الأفواه، والتغطية وحجب الصورة عن عدسات الكاميرات، لعدم توثيق جرائمه المُتمادية، التي لا تستثني لا بشراً ولا حجراً ولا شجراً، ولا سِنّاً أو جنساً، أو حتى مُقدّساتٍ إسلامية ومسيحية!

اغتيالٌ بدمٍ بارد، في جريمةٍ تهدف إلى مُحاولة بث الرُعب والخوف في قلوب الإعلاميين، لمنعهم من كشف المُمارسات التعسُّفية للمُحتلّين.
مُنذ أنْ تعرّفتُ إلى شيرين لدى زيارتي الأولى لفلسطين في آب/أغسطس 2009، واللقاءات المُتعدّدة، وآخرها خلال مُشاركتي في أعمال دورة المجلس المركزي الفلسطيني الـ31 في رام الله، خلال شهر شباط/فبراير 2022، أو الاتصالات المُستمرّة، وعلى مر السنوات، كُنتُ أكتشفُ مدى حُبّها لفلسطين، وقناعتها بالرسالة التي اختارتها من أجل الدفاع عن عدالة قضيتها، غير آبهةٍ بالمخاطر في مهنة البحث عن المتاعب، التي تتضاعف فيها المهام الجسام بتغطية اعتداءات ومُمارسات مُحتلٍ غاصب، وتصبح في فلسطين، كل تفاصيل الحياة اليومية، متاعب، جرّاء إجراءات الاحتلال القمعية والتعسّفية.

استطاعت شيرين أنْ تُجسّد النموذج الفلسطيني بكل أشكاله وتلاوينه، الذي لا يُفرّق بين فلسطيني وآخر، لا في جنسيته أو طائفته، أو انتمائه إلى منطقة من دون أخرى. هكذا، هي شيرين، التي تعود أُصول عائلتها إلى مهد السيد المسيح (ع) في بيت لحم، ووُلدت وأبصرت النور في العام 1971، في مدينة القدس، مسرى ومعراج الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، بعد 4 سنوات من إطباق الاحتلال عليها. هي من عائلة مسيحيّة، لم تُفرّق في يومٍ من الأيام بين كنيسةٍ ومسجد، وفي تغطيتها بين مدينة أو قرية فلسطينية، فكانت تنقل الحدث إلى العالم أجمع.
استُشهدت على أرض مُخيّم جنين، الشاهد على تغطيتها اعتداءات الاحتلال وهمجيته مُنذ سنواتٍ عدّة، فعرفها كُل أبناء المُخيّم، كما هي تعرفُ الغالبية الكبرى. هناك، ارتوت أرض جنين بدماء الصحافية الشهيدة، فزفّها الفدائيون بعُرس الشهادة، المُتنقّل بين المُدن الفلسطينية، وصولاً إلى القدس، عاصمة دولة فلسطين.

جاء الاستشهادُ مُفاجئاً لكثيرين، إلا هي، التي كانت تُدرك أنّها قد تكون شهيدةً في أي لحظة، لأنّها اختارت عن قناعة طريقاً يحفلُ بالأشواك والألغام، التي تجاوزت منها الكثير.

اغتيالٌ من جيش الاحتلال، حيث تربّص قنّاص، وانتظر لحظة نزولها من السيارة وجهوزيتها للتغطية المُباشرة، فأطلق رصاصه بهدوءٍ، استقرّت واحدة منها أسفل الأُذن، في مكانٍ مُحدّد يُتعمّدُ فيه القتل العمد، لأنّ شيرين كانت ترتدي قُبّعة الرأس الحديدية، ودرعاً واقياً للصدر، فكان الاختيار في مكانٍ قاتلٍ..

سريعاً، اعترف الاحتلال بأنّه حيّد «مُخرّبين»، وكان يقصد شيرين وزميلها علي السمودي، الذي أُصيب في ظهره - أي في مكانٍ من القسم العلوي للجسم - ما يُؤكد أنّ إطلاق النار كان بهدف القتل.. قبل أنْ يعود الاحتلال عن روايته!

سقطت شيرين، وهي تستعدُ للتغطية المُباشرة لمُداهمات الاحتلال، وفي مكانٍ لم تكُن فيه أيُّ مُناوشات أو اشتباكات، بل انتشارٍ لجنود الاحتلال وقنّاصته.

لا شك في أنّ صاحبة الابتسامة الدائمة، على الرغم من الألم والحزن داخلها، استطاعت أنْ تدخُل كُل منزل، ويعرفها الجميع، تعمل بصبرٍ وثباتٍ، من دون مللٍ أو كلل أو ضجر، أكان ذلك في ساعات الصباح أو وضح النهار أو في الليل المُدلهم، وظروف الطقس وطبيعة المنطقة، فتنقلُ الوقائع بكل حذافيرها، بصدقٍ ومهنيةٍ عالية، لأنَّ نقل الحدث كفيل بكشفِ حقيقة جرائم الاحتلال المُتمادية.

صاحبة الروح المرحة، الفتاة المُثقّفة، التي تُشكّل نموذجاً راقياً للإعلام الفلسطيني والحركة النسوية، استحقّت العديد من الجوائز والتكريمات، لكنّها بالأمس نالت أعلى المراتب، شهيدة على أرض جنين، لتُزفّ عروسةً من القدس على مقربة من إحياء ذكرى النكبة الـ74 والنكسة الـ55، لتُعيد تعبيد الطريق، تكريساً لرسم خارطة فلسطين بالدم القاني.

جريمةٌ، تُضاف إلى جرائم كيانٍ مُحتل، تستحقُ المُحاكمة للمُنفّذين والمُخطّطين والمُغطّين والمُتآمرين، في «محكمة الجنايات الدولية»، لتُوقظ ضمائر العالم على جرائم الاحتلال المُتمادية.

لعل جريمة اغتيال شيرين، التي تحمل الجنسية الأميركية إلى جانب جنسيتها الفلسطينية، سيُتيح ذلك لعائلتها أيضاً رفع دعوى لدى المحاكم الأميركية لمُحاكمة المسؤولين الإسرائيليين.

لن تكون شيرين أوّل صحافية تُستشهد برصاص الاحتلال الإسرائيلي، بل حتى تكون الأخيرة يجب مُحاكمة المسؤولين الإسرائيليين، لأنّ هذه الجريمة هي نتيجة تحريض إسرائيلي مُمنهج ضد الفلسطينيين، مُواطنين وإعلاميين، وانتهاك للقانون الدولي، وحتى لا يستمر المُحتل بالهروب من المساءلة ومُمارسة الإرهاب، بعيداً عن المُحاسبة، وأنّه فوق القانون، واستمرار العالم الكيل بمكيالين، والأمثلة عديدة، ومنها جريمة اغتيال الشهيد محمد الدرة وهو في حضن والده جمال في غزّة، بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر 2000، وكيف حاول الاحتلال تشويه وقلب الحقيقة؟!.
لتبقى دماء شيرين الشهيدة، شاهدةً على فظاعة جرائم المُحتلين، وتمسُّكاً بالرسالة التي آمنت بها وزُملاؤها، وأنّ الكلمة والصورة لهما دور رئيسي في معركة كشف زيف رواية مُحتلٍ غاصب.

كما كانت تُحب شيرين، شُيّعت بالدم الأحمر القاني، ملفوفة بالعلم الفلسطيني، وقد طاف بها المُشيّعون في الأماكن التي كانت لها فيها محطات نضالية، محمولة على الأكف كما حملت قضيتها، لتُزف من القدس، مع تكبيرات مآذن المساجد وقرع أجراس الكنائس، مُعلنة أنّ التحرير آتٍ وموعده قريب.

رحم الله العزيزة شيرين أبو عاقلة، وأسكنها فسيح جنّاته، وألهم أهلها وعائلتها ومُحبيها الصبر والسلوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق