مرحبا أيها المنفى، حياتنا هنا لا معنى لها



 

غداً، هل سيكون يوماً آخر، أم اليوم الأخير؟ هل كتبت وصيتك؟ لم يعد لديك وقت. ثق بحزنك وجوعك. وراءك ظلم وأمامك ظلام. انتهى وقت الانتظار. لقد تغيرت كثيراً. تغيرنا أكثر. هل تعرف وجهك الآن؟ انه لا يشبهك ابداً. كان لعينيك أفق ما. لقد فقأوا عينيك. امامك الهاوية وهي بانتظارك.

إياك ان تتهمني باليأس. صار موتك خلاصك. صليت له وما استجاب، قرعت بابه فَشُلَت يدك. لم يبق في اللغة أي رجاء. تركوك مضّرجاً بأحزانك وقلقك ولقمة عيشك. هل انتقيت موتك؟ نزداد اختناقاً. لست وحدك. الهوة تتسع. العتمة تبدأ صباحاً. ليلك شبه موت واحلامك قهر وكوابيس. لا. لستَ مذنباً ابداً، لست من ارتكب الخطايا. ولكنك واحد بين آلاف عديدة، نسي أنه موجود حقاً، وانه انسان بحقوق، وأنه بلا سند. خطأك الفادح، إنك انتميت و”خلص”. عد إلى ايامك. كنت طائفياً من صعاليك الاتباع. عندها، ألم تشعر أنك لم تعد موجوداً ابداً، وأنك فقط ملحق، ولغتك معلوكة في أفواه، تتشدَّق كذباً واحلاماً منافقة. مشيت كالضرير خلف ايقاع قدميه. لم تجرؤ على أن تسأل سراً: “من أين له كل هذا”. الظن الغالب أنك عفوت عنه. برّرت سقوطك الاخلاقي، بأن “الكل هنا، يشبه الكل”. كل شيء يهون “كرمال” الإله الصغير، المطوَّب من شياطين المرجعيات.

ألم تكن كذلك؟ وأنتم، ألستم مثله. حذو الجباه بالنعال. تذكر قليلاً، تساءل فقط، لماذا قبلت أن تكون مكنسة؟ كيف قبلت أن تمحي؟ ألِقاء منفعة وحصة او أدنى من ذلك بكثير: ” تأكل خبزك بعد تقبيل يد إلهك الحقير”. أسأل نفسك واعتذر منها. لقد ارتكبت فعلاً مشيناً: قتلت نفسك.

من أين نبدأ؟

نسأل كأغبياء. هل هذه بيروت؟ ابحثوا عنها في ذاكرتكم. بيروت ليست خيمتنا، بل مخيمنا. عتمة وعيون مطفأة، ارصفة تحت احذية يتيمة وداشرة ولا تذهب إلى أينٍ ما. بيروت تتلاشى. سيحزن التاريخ كثيراً. لا براءة ذمة لنا. نحن ارتكبنا القتل، لأننا سمحنا لهم وسامحناهم. نعرفهم قتلة، ونصابين ودهاقنة وش.. وع… ومع ذلك، اعتنينا بأن نعفو عن المرتكبين، ونشدد اللعنات على الخصوم، المتمترسين في قلاعهم الطائفية. صوّنوا طوائفكم التي دفعتكم إلى الفاقة والعوز واللقمة. انهم مرتكبون وأنتم كذلك. الفارق، انهم اتخموا جداً، وأنكم بلا خبز ولا دواء ولا غد. النعيم حصتهم والجحيم حصتكم.

هل هذه بيروت؟ ابداً. خلص. حتى العواصم تخر ساجدة تحت اقدام عبدة المال، وقراصنة السرقات، وطفار الاخلاق… عاصمةً كانت، تنبض قلوبها بلا هوادة. هي اليوم على منصة النهاية. ترجو خلاصاً. من يجنبها غداً موتها؟

هل هذا هو لبنان؟ بئس قصائد الشعراء عمالقة الابداع، كذبوا علينا. جعلوا من لبنان فردوس آلهة. العالم في قبضته. هي رحم الكلمة والشعر والفن والموسيقى والكتاب. هي … هي… انما الرصيف الثاني من المدينة كان يعج بمفردات قحبة: “العيش المشترك”. كذابون. دجالون. لصوص. كانوا ضد كل مشترك بينهم، باستثناء، الاشتراك بالمغانم … لبنان لؤلؤة المتوسط، سويسرا الشرق، ملتقى الحضارات، مصهر الجماعات، مشتهى “الأعراب”، من المحيط إلى الخليج… لبنان هذا كان كذبة. لأن الحكم يكون على الافعال لا على الاقوال.

جميل لبنان في قصائد الزجل والدجل.

الجوع فينا وبيننا وينام معنا في الفراش. نستثني اهل التخمة. لكن جوعنا ليس صاخباً. فقط. ينز الماً ويستدرج شفقة. يسهر اللبناني ليلا على لقمة او كسرة. يلجم حواسه الخمس. كان ينتظر كل شيء، لم يعد ينتظر شيئاً.

الإعلام اعمى لا يرانا. لا يرى إلا حكاماً محكومين ومتحكمين. يختلفون على كل شيء، ثم يتفقون على كل شيء آخر. فينيقيون ابالسة. تجار لقمة عيش ودم واديان. يدعونك إلى الانتخابات. هل تعرفون معنى الانتخاب. انها عملية سرقة مؤبدة بأصوات من يعفرون جباههم بنعال زعمائهم. والزعامات، ترسانة وقلعة ومفترسة. كل زعيم إله. الدين معه. الطائفة مطيته. المرجعيات “الروحية” (عذراً على استعمال الروحية) تتسابق في فن الاجتهاد والتلفيق، وعندها اختصاص يدعى “شد العصب”. يضاف إلى ذلك، تجار الهيكل. صيارفة ومصارف ورأس مال. كل قبيلة من قبائل الآلهة اللبنانية – تنام في مخادع شتى. احزروا أين؟ قيل فيهم ذات دعوة: “يا اولاد الافاعي”.

لقد عبرنا القرن العشرين بمشقة القتل والسفك والتهجير واليأس المتناسل. كانت هويتك ضدك على حاجز فتاك. مررنا باحتفالات دموية عرفنا فيها الاغتيالات الجماعية. لم يكن هناك ميتة غريبة إلا وارتشفت من اجسادنا. لم يكن هناك ميتات أخرى. ميتات رصينة. كنا، مراراً وتكراراً، نموت كل يوم، او نحيا أيامنا بلا حياة.

فظيع انت أيها اللبناني. من قال إنك ابو الابجدية.

لا هذه كذبة بلقاء. انت أبو الهمجية. تقتل. تغسل يديك. وتشرب نخب طائفتك. “كاسك يا وطن”.

قليل من الواقعية. لبنان ومعه “اللبنانيون” مشغولون بسفاسف السياسة. يتلقون الاخبار من الشاشات ويصدقونها. والشاشات ناطقة بمرجعيات السياسات الطائفية. وهنا، كلٌ يغني على ليلاه الدامسة. فوراً تمتلئ وسائل التواصل بالترهات وتقيؤ الاتهامات. مستوى انحطاطي ينتسب إلى ما قبل الهمجية. اللبنانيون. بمن فيهم الجائعون، مشتتون جداً. لديهم متعة الانقياد. هم في لبنان مهاجرون لا مقيمين. تجدهم في طهران، او تجد طهران عندهم. وهؤلاء يغوصون في الحلبة اللبنانية حتى الثمالة، ولا يقنعون إلا أنفسهم، فيما الحلبة الاقليمية تفرح بهم وتعتبرهم عصب القتال في مواجهة اسرائيل. فيما آخرون، من اللبنانيين الاقحاح، على قاب قوسين او قدمين من التطبيع. آخرون نقلوا خيامهم من مصر إلى فلسطين إلى سوريا ثم استقروا في الخليج “العربي”. يحق لهم ذلك. دينهم وطائفتهم تؤمن لهم الحيثيات. والغريب جداً، انهم يتشاءمون علناً، ويجتمعون في مجلس النواب والوزارات والحكومة والادارات… الشيخ زنكي يمت اليهم بصفة القتل.

الإعلام يُشغلنا ويشتغل فينا. كل شاشة خندق خلفه معسكر. وهناك من يصدق ومن يبصم، وهناك من يصدق ويبصم على النقيض. هذه قبائل لا علاقة ولا نسب لها مع الشعب والشعوب.

في واقع فج وقاتل، ينصرف الاعلام عن تظهير المأساة. الشاشات عندنا اجنبية جداً. ولبنان موزع على الشاشات، هذه تقول نعم، وتلك تقول لا. حرام. حشود من المستمعين مستعدة للمنازلة الكلامية، التي تهدم كل ثقة بين ابناء الحي والقرية والمدينة والبلد.

يمرون على المآسي، كما يمر الكاهن بمبخرته، ثم يتبدد البخور.

اننا متروكون لأقدارنا. المعلمون وحدهم يطالبون. من معهم، الموظفون كذلك. اساتذة الجامعة اللبنانية. الغلاء الفلكي. ندرة الاموال. الليرة التي وزن الريشة أو اقل. الودائع المنهوبة. الزراعة المقتولة. المستشفى الذي يحاسب أكثر مما يطبب. الغلاء الفلكي. البطالة المتنامية. البؤس المنتشر. الوقود الكمالية. الكتب واسعارها. الثياب المرقعة آخر موضة. وغيرها من النكبات. وأفدحها، الجوع والفقر والمرض… لا أحد يسأل عن الغد. الغد فقط في ماضينا. والله اننا نستحق هذه العقوبة لأننا ساهمنا فيها.

ثم، وفيما لبنان يسير على جبهته، يختلق اشاوس الكذب والنفاق مشكلات قضائية وادارية وحكومية ونيابية، لا علاقة لها بلقمة العيش، بالعوز، بالطبابة، بالجوع، بوقف الانهيار، وبودائع الناس.

إخس.

هذه الأحداث الأليمة، هذه الانهيارات المتتالية، هذه الخيانات المتبادلة، هي ارضية مثالية، لحركة ثورية، تطيح بالطغمة وزبانيتها.

لكن من حظنا في لبنان، أن نملأ الماء بالسلال فقط.. لا أمل البتة. السلطة قوية ومستقوية ومدعومة تدعيماً دولياً واقليمياً. لا أحد يستطيع أن ينال من شعرة رأس حاكم مصرف لبنان، او أي زعيم مفرط الغنى والسرقة، او زعماء ايضاً.

أحصي اخفاقاتي. مذ كنت يافعاً. راهنت بغباء. كنت ابحث عن معنى لوجودي، ووجودنا. خلص سأجرب الحياة بلا معنى. سأسوق قدميَّ إلى ماضٍ مضى ورهان أفلس. علينا أن نعيش على طريقنا في مكان آخر… مرحباً أيها المنفى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق