أين المؤامرة.. دلونا عليها؟



 

أبحث عن المؤامرة ولا أجدها. بالمؤامرة نتنصل من المسؤولية. ما يحدث في لبنان ليس نتاج مؤامرة أو مؤامرات. ما يحدث هو سياسات معلنة، مزمنة، وفاتكة.

الساحات اللبنانية مفتوحة أبوابها على الدول كافة. كل فريق يرحب بمرجعيته الخارجية. ليس سراً أبداً ما يقدم عليه الفرقاء في لبنان. رجاء، إمحوا لفظة السيادة. السيادة في لبنان، فضيحة. كلهم هنا، أو عبروا من هنا. الآخرون “الغرباء” يقيمون في لبنان ويتقنون الاقناع بالإملاء والإغراء. وإلا.. فالعقوبات. ليس سراً أبداً ما تقوم به السفيرة الاميركية. البلد مفتوحة ذراعاه لاستقبالها والاسترشاد بنصائحها وسماع كلمتها. إنها هنا وهناك وفي كل مكان. حتى في القرى النائية وصولاً إلى وزارة “الدفاع الوطني”. هذا كله معلن. معروض على الشاشات والذين تزورهم ينفشون بريشهم ويصرحون بما يرضي البيت الأبيض.. وهذا ليس جديداً بالمرة. لبنان والسفارات توأمان، لم ينفصلا ولن.

من الأفضل أن لا ننسى أبداً زملاء وزميلات السفيرة الاميركية. أيضاً يقومون بالواجب. فرنسا تجول وتصول والحاصل قليل. سفراء دول الخليج حردانون. كانت لهم اليد الطولى. انحسروا كلياً. هم أمراء يأمرون. أوامرهم لا تُرد ولا تناقش. صدف أنهم طلبوا المستحيل السياسي: طرد “حزب الله” وسلاحه من لبنان. لو أراد معظم اللبنانيين تنفيذ هذا المستحيل واقعياً، فانه لن يحصل. أمر خليجي لا يحتمل وغير عقلاني ولا أرضية له. زعلوا. حردوا. قاطعوا لبنان، وهم المعتادون على أن يسمعوا: “سمعاً وطاعة”. والغريب، أن عرب الخليج، أداروا ظهرهم للبنان، وبعض اللبنانيين، وليسوا قلة، يلهجون بمطلب الامارات والمشيخات الخليجية. إنهم يعرفون أن هذا مستحيل، ولكنهم يراهنون على أن يظلوا صوت الذين لا سمع لهم في لبنان”.

لبنان ساحة، لا دولة ولا وطن. لغيرنا أوطان في لبنان، فيما نحن بلا وطن. لبنان أمين لتراثه. إنه ابن تاريخه. إنه مساحة نزاع. هو كذلك مذ كان. نزاع داخلي موصول بحاضنات خارجية. من أرخَّوا للبنان، منذ ما قبل ابتداع الكيان، لم ينجوا من إنحيازاتهم الطائفية. فلكل طائفة مؤرخوها من سبطها. المؤرخون اللبنانيون. في معظمهم كتبوا تاريخنا بحبر طائفي، باستثناء قلة. راجعوا ما كتبه أحمد بيضون ووجيه كوثراني. لكل طائفة مؤرخها وتاريخها. وكل طائفة موصولة الرحم بالخارج. هذا هو لبنان، ماضياً وحاضراً وهذا ما يقتل مستقبله.

من الأفضل أن لا ننسى. هل هذا طبيعي أم اصطناعي؟ هل هذه خيارات أم الزامات؟ فلنتذكر: لبنان لم يولد بإرادة أبنائه. ما ارتكبه الفرنسيون، كان يُحتّم انفجاره. لبنان، يومها لم يكن لكل من دخل فيه أو ضُمَّ اليه عنوة. هناك لبنانيون أقحاح، جذورهم متصلة بأرومة الفينيقيين والصليبيين، وهناك لبنانيون جدد، اعتادوا أن يكونوا عرباً أو مسلمين أو.. ولذلك، كان لبنان المتعدد في بلد لم يتحد أبداً. شعبه داشر في ولاءاته. لبنان لا يكفي شعوبه التي تمد اياديها الكثيرة إلى الخارج من واشنطن إلى فرنسا، إلى سوريا، إلى السعودية، إلى مصر (سابقاً) إلى إيران راهناً.. وهذا طبيعي جداً لشعوب بهويات متعددة. الهوية اللبنانية مريضة، ولكنها لا تُشبع شبق الطوائف والزعامات التي تتبوأ الفصول السياسية المتناقضة.

ما أريد أن أؤكد عليه، أن ليس في لبنان مؤامرة. بل سياسات معلنة، واضحة، ومُعبّر عنها، إنتماءً وخدمة وأغراضاً.

ولنفترض أن هناك إصراراً من قبل المتنازعين، المتحدين حتماً في مؤسسات النظام، ولكل منهم حصته المصانة، على إلصاق تهمة “العمالة” للأجنبي الدولي والإقليمي، فهل لدى المَّدعين وثائق تؤكد وجود مؤامرة، أو مؤامرات خارجية على لبنان. ونستطرد عائدين إلى صلب المشكلة التي لا حل لها راهناً أبداً. نسأل: هل فعلاً هناك مؤامرة على لبنان وعلى المقاومة.. وهل صحيح أن المقاومة هي لخدمة أهداف إيرانية توسعية في المنطقة وبالتالي السيطرة على لبنان وإدارته من بعيد بواسطة “حزب الله”، أي هل هناك مؤامرة إيرانية سرية أو مُلوَّح بها؟

إذا كان هناك مؤامرات فأين الأدلة؟ أين الوثائق؟ أين التسجيلات؟ أين التسريبات؟ أين الشهود؟ (لا شهود الزور طبعاً!). ما حصل وما حدث في لبنان ليس نتيجة مؤامرات، بل هو ترجمة لسياسات معلنة، واضحة، بينة، مكشوفة، مفهومة، مقروءة، طبيعية، وهي من طبيعة الاجتماع اللبناني، ولا أحد يخجل بارتباطاته. لا الفريق الاميركي الغربي الخليجي، ولا الفريق الذي يتطابق مع سياسات إيران الداخلية والخارجية.. كل شيء معلن وتصدح به وسائل التواصل والشاشات والصحف. لبنان، من زمان “حيطو واطي” والتفشيخ الأممي عادة وليس هناك من يقول إننا من جماعة “ما شفش حد يخش البلد دا”.

القوى السياسية لا تخجل أبداً بارتباطاتها. وهي تُعبّر عن نفسها كذلك، وتقوم بسياساتها على رؤوس الاشهاد. فلا مؤامرة ولا من يحزنون. المؤامرة الوحيدة السرية في تاريخنا كانت: سايكس بيكو. حتى وعد بلفور لم يكن مؤامرة. كان سياسة معلنة.

القوى السياسية المتنازعة في لبنان تُعبّر عن نفسها سياسياً وطائفياً على رؤوس الأشهاد. لا أسرار عندنا. نحن سوق نبيع ونشتري بصوت مرتفع وبنقد معروف. لبنان ليس سراً. كل ما فيه علني. على عكس الدول العربية التي تمارس سياسة الكتمان، بقمع وشراسة وتحايل. في الدول العربية وبعض الإقليم أنظمة تفرض سياستها بالقوة، وتمارس الخفية. أما في لبنان، فالسياسة ترجمة لكيانات اجتماعية – سياسية، وتعلن بمواقفها المتحزبة والمرتبطة من دون مواربة. وهي أمينة جداً لأصولها التاريخية والطائفية. السياسة في لبنان تشبه التجارة. الأكثرية في لبنان من حفدة الفينيقيين الذين تاجروا وانتشروا.

إذاً ماذا؟ إن الانقسامات اللبنانية تم تنظيمها عبر منهج التسوية. ثم التوافق الرجراج على تركيبة النظام، والسلطة فيه، وعلى كيفية ممارسة السياسة والحصص المبرمة لكل طرف، من دون حرج ديموقراطي أبداً. الديموقراطية ليست غشاء بكارة، بل هي طوع الشهوات الطائفية الجيّاشة دائماً، والتي تستطيع العبور من الفراش اللبناني الضيق، إلى رحاب الفراش الإقليمي والدولي.. لبنان بلد عابر للحدود. وهو بلا حدود. حدوده مرسومة على الخرائط، أما على الأرض، فالعبور سهل جداً.

في قراءة سريعة لتاريخ الأزمات في لبنان. لا نجد نزاعاً أدى إلى ارتكاب العنف، لأسباب داخلية. من المؤكد جداً، أن نزاعات لبنان الدموية، لم تكن مرة لأسباب داخلية أبداً. الداخل منضبط بالتسوية والتوازن والمحاصصة ومعالجة القضايا بالتي هي أحسن. مصائب لبنان وسفك الدماء، بدأ مع انقسام اللبنانيين حول مشروع أيزنهاور وطموحات جمال عبد الناصر. دفع اللبنانيون الثمن. انتهت الفتنة بقرار أميركي – مصري. هنا توقف القتال.

في المرة الثانية، إنقسم لبنان حول الموضوع الفلسطيني المعقد والدموي. فريق ناهض الحضور الفلسطيني المسلح، دفاعاً عن السيادة، وفريق دعم المقاومة، حتى قيل إنها “جيش المسلمين”، لأن الجيش اللبناني هو للمسيحيين. بعد حادثة بوسطة عين الرمانة، دخل لبنان النفق الدموي. وفي خلال خمسة عشر عاماً داست الجيوش الأجنبية والعربية والإسرائيلية لبنان، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. وكانت محصلة القتال، 160 ألف قتيل. مئات آلاف المخطوفين، مئات آلاف المهجرين. كارثة كبرى، لم تجد نهايتها الا بعد السماح الأميركي للجيش السوري، بدخول لبنان وتصفية المتمردين. وهكذا ارتسم للبنان مسار جديد، ضمن موازين داخلية جديدة.

هل كان ذلك نتاج مؤامرة؟ كان كل شيء واضحاً وضوح الشمس، وتم علانية. استدعاءات اللبنانيين السياسيين والعسكريين لم تتوقف عن طلب النجدة فمن ينجدها، حتى بلغت بالفريق المسيحي، أن يطلب مساعدة إسرائيل على خصومه اللبنانيين والفلسطينيين. كل ذلك كان مكشوفاً ومعلناً وواضحاً. لا مؤامرة ولا من يأتمرون.

أخيراً، نصل إلى ما نحن عليه الآن: هل هناك مؤامرة على سلاح المقاومة؟ أؤكد بالحبر الصافي، أن ما يحصل ليس نتيجة مؤامرة أميركية – صهيونية أبداً. إنها سياسات معلنة ومؤكدة ومكشوفة. إنها نتاج مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية معاً.. الداخل منقسم من زمان، حول كل القضايا الإقليمية. لا جديد في ذلك. هناك من يريد التنصل من فلسطين كلياً، منذ الخمسينيات، وهناك من وقف إلى جانب الفلسطيني، ومنحه ما لا يعطى، بحيث أصبح ابو عمار حاكماً في أكثر من نصف لبنان.

زبدة القول: لماذا “حزب الله” شريك فاعل في السياسية الايرانية، إن في لبنان أو في المنطقة؟ الجواب البديهي لأنه شيعي تراثاً وإيماناً. تماماً كالسني اللبناني الذي كان عروبياً ثم اسلامياً خليجياً، كالمسيحي تراثاً وتطلعاً وتقليداً. حيث أن وجهه متجه إلى الغرب وظهره إلى العرب.. انتماءات الطوائف تتجاوز لبنان. لبنان ممسوك بالقضايا الساخنة والصعبة والمستحيلة. فلسطين قربه، سوريا جنبه، الخليج خزنته، إيران ثورته. كل شيء واضح ومبتوت وهو طبيعي جداً. تحالف “حزب الله” لا يمكن إلا أن يكون مع إيران، وتحالف السنة لا يمكن أن يكون ضد السعودية. هذا مستحيل. شريحة من المسيحيين، وهي واسعة جداً، تجد نفسها متعاطفة مع “العرب” وليس مع إيران. فلسطين لا تعنينهم كثيراً. مواقف أكثريتهم رخوة ولا تكتم رغبتها بالتطبيع.

إذاً، لا مؤامرات، بل سياسات. لبنان لم يوفق، بسبب تركيبته الطائفية. في أن تكون له مواقف موحدة، مما يجري حوله من أخطار، لذا. خير ما نختم به: “جنت على نفسها براقش”. ولا مؤامرة ولا من يتآمر. إنها سياسات معلنة وطبيعية. هذا هو لبنانكم الداشر بين العواصم، من أميركا إلى طهران.

أي جحيم هذا “الوطن”؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق