قريتي


العربي الجديد- انتصار الدنان

إلى أين؟
إلى البصّة.
أيُعقل، يا بولس؟
نعم، يُعقل.
اليهود، سيمنعونك.
احتلّوا قريتي، نعم. هدموا بيتي، وبنوا مكانه بيتًا آخر، ليسكنه يهوديٌ أتى من أفريقيا، ربّما. أعرف ذلك، لكنهم لن يستطيعوا احتلال الكنيسة، ولن يمنعوني من دخولها.
وكيف ستذهب إلى البصّة؟
ممنوع عليك تجاوز الحدود اللبنانية الفلسطينية.
بسيطة، أركب سيارتي المرسيدس، وأسير على مهلٍ، أصل إلى بلدة رميش، أركن سيارتي في مكان آمن، ومن هناك، أنزل إلى البصة سيرًا على الأقدام، مثلما تركتها وأنا في الثانية عشرة من عمري. ما زلت أحفظ تفاصيل الطريق، وأحفظ شوارع البصة، حتى حجارتها ما زلت أبصرها، تلك الحجارة التي كنا نتعثر بها عندما كنا نذهب إلى المدرسة. أما الكنيسة، فما زالت تسكنني، وأتذكر حينما كنا نذهب إليها، لنؤدي الصلاة في أيام الآحاد وعيد الميلاد. كانت أمي توصينا دائمًا بالصلاة، وتدعو الرب بأن يحفظنا من كل سوء.
الأمور تغيرت الآن، يا بولس، البصة محتلة.
ألم أقل لك بأن أمي كانت تدعو الله بأن يحفظنا من كل سوء، وأنا ذاهب؛ لأؤدي الصلاة في الكنيسة، إنه الميلاد، ولا أجمل من أن أصلي في الكنيسة.
الطّقس عاصف، وقد تغلبك الرّياح والأمطار، وأنت تذهب راجلًا.
لا عليك مني، لأنّه عاصف، فأنا ذاهب، وفي هذا الطّقس تكون الحراسات غير مشدّدة، ثمّ، ألم يولد المسيح في مثل هذا الطّقس؟
تركته، وعدت إلى بيتي، بعدما أدركت بأن الجدل معه عقيم. لقد جاوز بولس الخمسة وثمانين عامًا، وعقله ازداد تحجره، فربما الشوق ناداه، ليفكر بهذا الأمر.
وأنا في البيت، سمعت محرّك سيارته المرسيدس القديمة قد دار. خرجت مسرعة، لكنني لم أدرك السيارة ولا بولس، صرخت عليه مرارًا وتكرارًا، لكنه لم يسمع.
لم يسمعني بولس، لأنه لم يكن يريد ذلك. سارت سيارته بطيئة في ذلك اليوم الماطر، كانت مياه الأمطار تغسل أثاث منزله، كما تغسل الطرقات من الوحول. دخلت إلى بيتي وأغلقت بابي خلفي، وجلست لأستمتع بشرب كوب شاي دافئ أمام موقدة الحطب.
لم يعد بولس في ذلك اليوم، انتظرت أن أسمع عنه خبرًا مساء، لكني لم أسمع، تأخر الوقت فاضطررت إلى أن أخلد إلى النوم.
في الصباح الباكر، سمعت صوت جلبة في الخارج، وصوت نساء وبكاء، لم أفهم لما كان هذا الصوت، ولما تجمعت النساء خارجًا تحت المطر، لكنني أدركت بأن بولس لم يعد، شهقت "بولس". بدلت ملابسي وخرجت بسرعة لأستطلع الأمر.
الوجوه كان الوجوم يعلوها، سألتهم: ما الأمر؟
مات بولس.
كيف؟
أتته طلقة رصاص غادرة من قناص يهودي، استقرت في قلبه.
وأين كان؟
يحكون بأنه كان يريد أن يصلي في كنيسة البصة، وراح إليها مستقلًا سيارته القديمة، وصل إلى بلدة رميش ونزل من السيارة مسرعًا بعد أن ركنها عند أشخاص كانوا يعرفون والده، وسار نحو البصة، تجاوز الشريط، إذ إنه زحف من تحته، ودخل إلى البصة.
دخل؟
نعم دخل، وسار نحو الكنيسة، ولم يعر انتباهًا أو اهتمامًا بمن حوله. سار نحو الكنيسة بسرعة البرق، وعند بابها، استوقفته مجندة يهودية، وسألته من أين هو.
أنا فلسطيني، من البصة، وأنت من أين؟
لم تجبه، صرخت في وجهه: "من أين أتيت؟".
من أين أتيت أنت؟ أنا ولدت في هذا البلد، وعدت إليه بعدما تماديتم واحتللتم بيوتنا وأرضنا.
ممنوع أن تدخل.
سأدخل، وسأصلي في الكنيسة.
سار بولس بضع خطوات نحو الكنيسة القديمة، ما زالت على حالها، لم تتغير معالمها، وسمع صوتًا يصرخ عليه، يطلب منه الخروج من الكنيسة، والامتثال للقانون. أدار بولس وجهه نحو الصوت، وقال: "عن أي قانون تتحدث؟ إنكم دولة إرهاب واحتلال. سرقتم كل شيء، حتى حياتنا سرقتموها منا"، لكن بولس لم يكمل كلامه، حتى أتته رصاصة غدر من قناص يهودي استقرت في قلبه.
وأين جثته؟
أظن بأنه سيدفن هناك في البصة، قرب الكنيسة، هذا ما عرفته من أبنائه.
ألم تقم له مراسم دفن هنا؟
أظن بأنه ستقام الصلاة على روحه لراحة نفسه.
سرت والدمعة تفرّ من عيني، لقد مات بولس، عاش غريبًا، ومات وحيدًا، لكنه سيدفن في تراب البصة كما كان يتمنى ويطلب من الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق