الموت في بيروت



انتصار الدنانالعربي الجديد

لم تزلِ المدينة نائمة. لم تستيقظ بعد؛ لتستقبل يومًا مليئًا بالتّعب. كان الضّباب الأحمر يغطيها في ساعات الصّباح الأولى، وكانت كنجمة متورّدة على وجه فتاة خجولة عندما يداهمها سؤال شاب لطيف عن اسمها.
كانت الشّمس تنهض من خلف تلك البيوت الساكتة، وأنا أسير من أمامها في حافلة النقل أمتّع نظري بذاك الصباح الذي يمتطي موج البحر إلى العالم المجهول. كنت أراقبها بصمت، وكان شيءٌ ما في داخلي يحدثني عن وقوع أمر ما لا يطمئن.
كانت رائحة التراب في ذلك الصباح مختلفة، أظنها كانت تختلط بأنفاس أشجار الحور والصفصاف. كانت أسراب الحمام تتنقل فوق ذلك المكان، وتلك البيوت التي ما زالت ساكتة، كانت تطير، تختلط، تفترق، تهدل، تصرخ كأنها تريد أن توقظ تلك المدينة من سباتها.
ظلت الحافلة تسير بي، كنت حينها متوجهة إلى مدينة إفسوس، وهي من أعظم المدن الإغريقية القديمة في الأناضول، وتقع في منطقة ليديا، وهي منطقة تاريخية في غرب الأناضول، عند نهر كيستر، الذي يصب في بحر إيجة. الطريق كانت ملأى بالحب. مواسم القمح تغني، فالسنابل الصفر شامخة على الرّغم من حملها الثّقيل، وقطعان الغنم تسير في طريقها بحثًا عن الكلأ، ومن بعيد شاهدت كلبًا يركض نحو خروف شُرّد مع قطيع غيره، كان ينبح عليه نباحًا عاليًا لم أسمعه من قبل، وكأن خوفه عليه كان أقوى من كل شيء. فهم الخروف عليه، فترك السرب الغريب، وعاد إلى قطيعه مع الكلب الأمين.
سارت بنا الحافلة نحو مطعم صغير على طرف الطريق؛ لنتناول طعام الفطور. المكان على بساطته مقصد للسواح، غير أن جمال طبيعته أحلى من الشاي الذي شربته. تلك البطات كانت تعيش في تلك البقعة النائية بأمان، تحصل على طعامها من فتات الخبز الذي يلقيه إليها الزائرون، أصواتها كان يضج به المكان، لا من يؤرق عيشها الآمن، ولا من يزعجها.
في الطرف الآخر من المطعم، كانت صرخات تتصاعد من المكان. صبية يتجمعون، يلعبون، ويلاحقون سير البطات ليطعموها من الخبز الذي بين أيديهم. لم يكترثوا لملء بطونهم بالطعام الشهي.
في ذلك المكان الجميل لا تشعر بالملل أو بالكلل، فالعصفور يتنقل من مكان إلى آخر بأمان، ويناجي عصفورته التي تقطن في طرف آخر من المكان، أنغام تتشابك فيها أصوات البلابل مع طنين النحل، وهديل الحمام وصفير الأشجار. كثرت الأصوات في كل مكان، فقد استيقظ الصباح من سباته، وضجت الطرقات والساحات بالأصوات.
هذا المشهد الجميل أعادني إلى تلك المدينة المنكوبة، الموجوعة المتأوهة من كثرة الجروح، إلى بيروت. تلك المدينة التي يجاورها البحر وتحتضن العالم في قلبها. في ذلك اليوم، لم تعد بيروت كما كانت. كان الصوت مدويًّا في الآفاق، اغتصبها الجناة ورموها في البحر، المئات صرعهم الموت، والمئات تصارعهم الحياة. بيوتها ما زالت في سبات، لم تستيقظ حتى اللحظة. عام مضى، لكنها ما زالت نائمة في تلك القبور العائمة فوق مياه البحر. في بيروت، صارت أوراق النعي تملأ الجدران أكثر من شهادات الولادة والتخرج والزواج، صارت الدول المحيطة مطلب كل من ظل يتنفس فيها. إنه الموت في بيروت، موت البشر، والحجر، والفن، والحب.
إنّه الموت الّذي سرق ذلك الصّباح الجميل، وذاك الرّجل الّذي كان على الدّوام يستيقظ في الصّباح الباكر؛ ليزور البحر ويصطاد السّمك. لقد صار في سنّ التّقاعد، ولم يعد يستهويه في الحياة إلّا ذلك البحر الذي يقطع المسافات من أجل زيارته. إنه الحبّ في بيروت الّذي لا ينتهي كما كان يقول، فقد كانت خدمته العسكريّة في بيروت. اعتاد زيارتها كلّ يوم إلّا في أيّام العطل، ومع بلوغه سنّ التّقاعد لم يتقاعد من زيارة بيروت. في ذلك النّهار، سار في وهج الشّمس الصّيفيّة قاصدًا المكان الّذي يصطاد فيه أسماكه، إنّه مرفأ بيروت، الذي كانت خدمته العسكريّة فيه، كان يسير متكاسلًا، ربّما شيء ما كان يريد أن ينبّهه بأنّ شيئًا ما سيحصل. وصل إلى المكان، معه صنّارته وكتابه الّذي وضعه جانبًا؛ ليقرأ فيه بعد انتهائه من اصطياد السّمك. لم يرَ أشعّة الشّمس، فجأة صارت الأصوات تتخبط ببعضها البعض، ولم يعد يسمع شيئًا غاب عن الوجود. ليومين متتاليين راح أولاده يبحثون عنه. لم يجدوه، لكنهم وجدوا أوراق كتابه في البعيد يداعبها الهواء. عندها أيقنوا أنه لن يعود.
مات كل شيء في تلك المدينة التي اختلط ترابها بأحلام الناس الذين غادروها بحثًا عن الرّاحة في مكان آخر. ربما الأحلام لم تعد متاحة في بيروت، فكل من يحلم يُقتل، يقتله الحزن، والجوع، والمرض.
كل ما في تلك المدينة اليوم يدعوك إلى موتك، حتى أسراب الحمام التي كانت تطير فوق أسقف بيوتها خفت صوتها.
لقد ودّعت بيروت أهلها في موكب جنائزيٍّ عظيم، وما زالت تفعل. لقد فتك بها ذلك الوباء اللّعين كالسوس الّذي يفتك بالأسنان ويقضمها، يبدأ ألم الأسنان جراء ذلك الوباء خفيفًا، وما يلبث أن يشتد، ولا يستطيع المرء الشّفاء منه إلا بقلعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق