عصفورية الجمهورية اللبنانية



 نصري الصايغ

هل نهار الاربعاء أسوأ من يوم الخميس؟ مجنون أنت؟ غداً يوم أسود وأسوأ. لقد خسرنا كل شيء. دمّروا الطبقة الوسطى. سحقوا الفقراء. شرّدوا العائلات. أبادوا الأمل.. ومع ذلك، مطلوب من اللبناني أن يخسر بعد. دائماً لديه ما يخسره. طموحنا أن نموت مرة واحدة. أن نشاهد موتنا المتكرر. أن نبحث عن دموعنا فلا نجدها. تيبَّست في المآقي المسحوقة. لقد مات كل شيء فينا. حظنا، قبل الرحيل الأخير، أن نتعذب ونشقى ونيأس ونرحل ونتلاشى. إننا مطالبون بموت إضافي، موت يومي. كم مرة مُت حتى الآن؟ كان الموت يأتي في موعده. كل المواعيد راهنا للموت. يا أيها الستة الكبار الحاكمون، اننا نموت. هل شاهدتم موتاً يسير على قدميه ويقرع ابوابنا ويدخلها ويأخذنا معه. نتفاءل احياناً: يُشَّبه لنا بأننا احياء يرزقون. عبثاً. لقد تساوى عندنا الموت والحياة. أيهما أفضل؟ طبعاً الحياة أفضل. أيها الستة الكبار، بتنا نفضل الموت على الانعدام، الانعدام في كل شيء. لا وطن يأوينا ولا خيمة نلجأ اليها. لبنان، غابة من الانقاض واليأس الصامت والعويل الأبكم والقهر المستدام. لا نعرف متى نموت بسلام. بعد نهاية الايام. نحن في وحشة غابات الضياع والعبث. لذا، لا تحلموا كثيراً أيها اللبنانيون، بل لا تحلموا ابداً. سفهوا كل احلامكم. كنتم تنتظرون تحويلات الابناء والاصدقاء، لتدفعوا ثمن بقائكم في الفاقة فقط. بعد حرب السعودية وإيران في لبنان، توقعوا احلاماً موحشة وفاتكة ومنهكة.

لقد شفينا من الأمل. الأمل موجع، لأننا نخسره. آمالنا صارت أقزاماً. لا تسألوا عن الاسباب. انكم تعرفونها جيداً، ولا داعي لتكرارها. منذ عامين وهي تندلق علينا من وسائل الاعلام المنحازة في حروبها “الأخوية”. من ينكر انه يعرف، كذاب كبير. انها تُملى علينا من الصباح الكالح إلى المساء المجدب. وسائل الاعلام أمينة على ما تجتره من كلام، يصب النار على النفط. قيل لنا، عندما كنا صغاراً، “حد العقرب لا تقرب”. الطوائفيات الطوباوية والانتهازية عقارب تلدغ وتعذب وتميت. ما ارتكب بحقنا ليس من صنع الخاسرين، أي نحن العزل من كل آفة. لقد ربحت “الطغمة” دائماً. لم تخسر مرة. لم تُصب مرة. لم تصِب مرة. افك وكذب ونهب محروس ومؤمَّن عليه، من الأجداد إلى الأبناء. بلد سلالات، ليتها تنقرض. لديها رصيد من القرصنة، ولديها ذمة واسعة للارتكاب، مرة تلو مرة، ونحن الطريدة الهاربة، خوفاً من أن نقع بطلقة طائفية او مذهبية. كل القضايا عندنا مذهبية. كل السياسات مذهبية. علاقات لبنان بمحيطه تنسج على نولٍ طائفي. السني مع السني. الشيعي مع الشيعي. المسيحي مع المسيحي. والدرزي سيجد دائماً من يتكئ عليه. لاحظوا الاصطفاف الراهن، بين السعودية وإيران. انها قاعدة لا شواذ عليها. مساكين، اولئك الذين نزعوا عنهم طائفتهم بحثا عن وطن. لا مكان لغير الطائفيين. لبنان “وطن” موبوء انسانياً. انه رخيص جداً اخلاقياً. لا تتوقع أن يصونك القانون. انهم يطلقون عليك باسم “القانون”، وقد سفكه القضاء، كرمى لأحذية القادة.

فلنترجم ما جاء اعلاه. نحن وصلنا إلى الجحيم الأول. انهم مدججون بالمال والدين (المال اولاً والدين لتدعيم المال). يستعملون آيات ملتبسة وفتاوى سامة وسينودوسات متخلخلة ويستندون إلى مرجعيات، من صنعهم… يرقص الستة الكبار على الحلبة، يطمئنون قليلاً لوفاقهم الركيك. نرتاح كذباً، لتأليف حكومة، بعد عقم فج ووقح، ولا مبالاة مكرسة. يحافظون على عدد مقاعدهم في الحكومة، ولا يلتكشون بمن حملهم “انتخابياً” إلى البرلمان. بلغت المفاجآت الكارثية درجة عالية من الحضور: كل اسبوع مصيبة تقصم الروح، فيما يرقص الستة الكبار في الحلبة، كأن شيئاً لم يكن. انهم بارعون في التخندق ثم… بالتسويات. وفي هذه الشهور المأزومة، كما هي اليوم، كما كانت منذ اسبوع، كما حصل منذ شهر، كما فجعنا منذ عام، نلجأ إلى الله، ولكنه لا يسمعنا ابداً.

انهم لا يسقطون ابداً. انهم هم هم، منذ عقود، والشعب ينوء اليوم وغداً وكما ناء من قبل، بعدما منحهم صكوك الغفران، تباً لنا من اوغاد. كان يجب أن نكون عقوقين جداً. لقد نلنا ما نستحق من نكران.

مناسبة هذه المناحة اعلاه، هو ما وقع منذ انفجار المرفأ إلى اليوم.

كل واقعة قسمت البلد إلى فسطاطين. فسطاط مع القاضي بيطار، حتى الثمالة، وفسطاط مع “قلعه”، حتى الاستحالة: فاستحالت اجتماعات الحكومة.. وبعد تعطل الحكومة، لجأ كل من الفسطاطين، إلى الشارع. والشوارع عندنا متديِّنة بشدة وصرامة وحقد. متمذهبة بوضوح صارم. لا أحد يخالف الآية السياسية التي ينطق بها، هذا او ذاك. وكان ما كان. أهالي الضحايا والشهداء، باتوا وحيدين. ينتظرون، ولا يعرفون أن انتظاراتهم مديدة وبعيدة. مرَّ عام وثلث العام، ولم يقرأوا سطراً واحداً بعد. والذين طُلِبوا للشهادة، متحصنون جداً. الفسطاط الأول يريد “قبع” القاضي بيطار، والفسطاط الثاني يريد قبع المحقق العسكري، الذي يحقق بمجزرة الطيونة. تساوى الفريقان في “دعوى القبع” المتبادل. غبطته تحمَّل اعباء الحل، فكاد يقع في الحرم. أهل الضحايا رفضوا المقايضة. دم مقابل دم… هل هناك أبشع من الجريمتين: انفجار المرفأ ومجزرة الطيونة؟ البلاء السياسي الطائفي، يكتب لنا النهايات: لا تعوِّلوا على أمر او “امل” او “قضاء” او “حزب” أو “حكم”. ولا تستعينوا بـ”شقيق” دولي او اقليمي ابداً.

ترى، ألم ينتبهوا إلى المزالق التي زحطنا فيها وعليها إلى القاع الذي ينذر بالانعدام التام؟ بلى. كانوا يعرفون جيداً. يعرفون اننا سنجوع. أن رغيف الخبز سيصبح شهوة يابسة على شفاه الفقراء. كانوا يعرفون مآسينا الآتية: مرضاً ودواء واستشفاء وطاقة وضوءاً وكتاباً وتنقلاً. كانوا يعرفون انهم افقرونا، وبأضعاف فقرنا اغتنوا، ويمارسون السياسة كما اعتادوا، حفراً وتنزيلاً، ودفعا باللبنانيين إلى ما تحت الهاوية… هنا الطريق واضحة جداً: خطوتان ونصل إلى الجحيم.

لقد تمت الابادة للحياة. تُرك للبنانيين العيش الذليل. اللبناني راهنا، اذلته الطغمة. أخذت منه عرق الجبين. فلس الارملة. جنى العمر. الأمل الخافت. الارادة الواهنة. العقل المتعقل. الوطن المستحيل، البقاء على الحافة… أخذوا منه كل “ماويته”. إمتصوه وبصقوه. الشعب عندهم بصقة أو أدنى: تفَّه.. هكذا انتِ ايتها القطعان المطيعة.

الحكومة هذه، نكتة سمجة. قيل، حكومة اختصاص. كذابون. هذه حكومتهم. حكومة الستة المتحكمين. مختلفون ومتفقون. يكيلون التهم بالأطنان، ويلتفون حول طاولة. يصوبون على “حزب الله”، بالمليان، وهو يصِّوب عليهم بالتهم والارتهان والتآمر. ومع ذلك. هم ارباب هذه الحكومة: حكومة “ماريونيت”.

وعليه، وكنا ما زلنا في ما بعد “الطيونة”، تقع الواقعة “القرداحية”، ويركع لبنان على قدميه، صارخاً بأعلى صوته وبقوة حناجر قادته: أنقذونا. السعودية ودول الخليج اعلنت على لبنان، الحرب السياسية والاقتصادية والمالية. النجدة يا واشنطن. الاستعانة بفرنسا، بالأمم المتحدة، بالجامعة العربية (يا حرام!) بكل من له علاقة بالخليج الذي ربط لبنان، باليمن وإيران والحوثيين… لا تزعلوا يا اهل لبنان، أن اللبنانيين منتشرون على كل الجبهات، وفي معظم المعارك (بما فيها السودان)… لبنان دولة أصغر من الصغرى، ولكنه مشتبك في ساحاته، وفي الساحات الاقليمية والدولية. لبنان اليوم، يحمل اعباءه الداخلية المدوية وقصوره السياسي وندرة الغذاء فيه، يبحث عن دولار لا يجده… يتوسل ويتسوَّل، ولا أحد يمد يده إلى جيبه الممتلئ. لبنان هذا. مشارك بحرب اليمن وخليج عدن وقطاع غزة… ومن قبل في سوريا، ومن بعيد في العراق. لبنان في هذا المعطى، دولة عظمى، في دويلة صغرى. تناقض يحتاج إلى تفسير فقه الاحلاف، العابرة للحدود.

ولبنان هذا، من جهة ثانية. يمد يده شرقاً وغرباً وخليجاً… ولا يعير “اسرائيل” اهتماماً. هو كان صديقها وحليفها وربيبها في سنوات الحرب التي اغتالت كل شيء. واستثنت الزعامات والطوائف والمذاهب. الدينية والسياسية. هذا الفريق، يناصب الفريق الاول العداء، ولا جدوى من قول ما يعرفه القارئ. لأنه يعاني كغيره من اللبنانيين… ألم يكن لبنان عشية مقتلة 1975-1990 مشلَّعاً، بين أن يكون فلسطينياً وعربياً، او يكون حليفاً لإسرائيل؟ هل نسيتم؟ اسرائيل داستنا بدباباتها واقدامها.

ما العمل؟ السعودية، قررت خوض معركتها في لبنان. الحرب هذه امتداد لقصفها مناطق الحوثيين. هي مأزومة هناك، فلتضاعف الأزمة في لبنان. العقوبات تصيب الجميع، كارثة فوق كوارث. ضربنا الرقم القياسي عالميا، في تلقي الضربات. الضربة الخليجية قاضية على اللبنانيين. يستثنى “حزب الله” من هذه الضربات له رصيد عقائدي وديني وسياسي، ومالي لا ينضب.

بلد العجايب هذا البلد. مساحته الفعلية، أكبر بكثير من 10452 كلم2. انه تقريباً أممي. وهو معجزة غير مسبوقة. منقسم ومتواجد في كل الجبهات المشتبكة، وشعبه يبحث بعناء وحزن وألم، عن لقمته ودوائه وعيشه وغده. سماؤه اقفلت كلها. الجحيم مفتوح على مصراعيه. وهو يرى أمامه فسطانين متطاحنين، ويجترحان فتاوى الاقامة معاً في حكومة واحدة، ومجلس نيابي واحد. انه ضرب من الجنون السياسي. “عصفورية الجمهورية اللبنانية”.

ماذا بعد؟

نسأل عن غد لكن، إياك أن تسأل. المبادئ والعقائد بعيدة المنال وصعبة أو مستحيلة. الواقعية تفرض قراءة الممكن.

لبنان لم يتغير ولكنه غيّرنا. لذا فلتكن احلامنا صغيرة او أصغر. الذين حكمونا أعدمونا. ثم، لا ننسى أن “النفط مستعبد الشعوب”. “مِلّلا” خاتمة. من يَدُلنا على موتٍ أفضل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق