جولة أفق في السياسة اللبنانية والعربية

 


طلال سلمان

ليُسمح لي، أولاً، وبعد شكر “دار الندوة” على الدعوة إلى الحوار عبر “جولة أفق في السياسة اللبنانية والعربية”… أن أتصدى لتصحيح العنوان، فليس هناك أفق واحد في “السياسات” المشار إليها، والتي لا يجمعها جامع ولا يوحدها هدف ولا يربط بينها رابط، وإن استمر أهل النظام العربي يعتصمون بالصمت بينما التباعد يأكل روابط الوحدة ويوسع الهوة بين الدول العربية، مع تحاشي الصدام، أقله علنا، حتى الآن.

لقد طرأ تطور خطير، في الشهور القليلة الماضية، من شأنه أن يوسع الهوة ويباعد بين الأنظمة العربية بعدما اندفعت بعض دول النفط والغاز العربي نحو دولة العدو الإسرائيلي وتوطيد العلاقات معها في تجاوز فظ لطبيعة هذا العدو وجرائمه الوحشية وقهره اليومي المفتوح لشعب فلسطين وإذلاله الإرادة العربية ومواصلة توطيد أركان دولته وتوسيع مساحتها على حساب شعب فلسطين مع تجاوزات تطاول بالنار سوريا، ساحلاً وبادية ومدناً، وفرض حالة استنفار شبه دائمة في الجنوب تحسباً لإعتداءاته وغاراته ومناورات طيرانه وهو يعبر لبنان ليقصف في سوريا، وصولاً إلى أقصى شرقها في دير الزور وأقصى شمالها في ما بعد إدلب، قرب الحدود التركية.

بل أن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو لم يتورع عن التباهي بأن طيرانه الحربي يقوم بجولات استكشافية فوق بعض أنحاء السعودية وبعض دول الخليج العربي توكيداً لسلطانه وتسريعاً لاعتراف أقطار الخليج بدولة عدوانه… وقد نجحت المهمة فاندفعت نحوه دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة نجل الشيخ زايد الشيخ ذي الطموح الإمبراطوري الشيخ محمد بن زايد الذي أورث نفسه الدولة السابقة اليمن الجنوبي بعاصمتها عدن وبعض الشمال اليمني، مفيداً من الخلافات المتوالدة والمتجددة دائماً بين اليمنيين بتحريض من السعودية التي تواصل شراء من تيسر من القيادات اليمنية ورميها في خزان الاحتياط.

أما في الجهة الأخرى، أي الغرب الإفريقي، فقد نجح العدو الإسرائيلي في اختراق السودان، متكئاً على وجوده الرسمي في مصر (السفارة والملحقيات) وأفاد من انهيار الدولة الليبية ليتسلل إلى بعض وجوه الطبقة الجديدة التي تهيئ نفسها لتقاسم تركة معمر القذافي… كذلك مع مواصلة السعي لاستقطاب اليهود في المغرب وتوطيد الصلات معهم مع أمر استمرار وجودهم في أرضهم التي كانت أرضهم على مر الأزمان.

بالمقابل فإن الغارات الجوية المتواصلة على سوريا، من قلبها دمشق إلى بعض أطراف الساحل، إلى نواحي دير الزور في الشرق فضلاً عن منبج ومحيط حلب في الشمال تزيد من إظهار ضعف النظام الذي يتبدى متنازلاً أو عاجزاً عن حماية شعبه داخل أرضه، ويزيد من معدلات هجرة السوريين إلى أي مكان يقبلهم، في ما وراء تركيا، ومصر وما خلفها غرباً حيث بات المهجرون يشكلون جاليات ذات وزن في بعض أوروبا الغربية، بلجيكا والسويد والدانمارك إلخ.

ومؤكد أن الهدف المركزي لهذه الغارات التي يراد منها كشف عجز الجيش السوري عن وقفها، يشجع بعض الشباب العاطل عن العمل أو الذي يعمل بأجر لا يكفيه، على الهجرة إلى أي مكان يقبلهم، فكيف إذا ما قدمت بعض الدول الأوروبية (بلجيكا ودول الشمال) مغريات تجذب الباحثين عن مأوى ودخل يطعم أولادهم.. وقد يفتح لهم باب غد آخر إذا ما سهلت إقامته كلاجئ تحوله إلى “مواطن” عبر منح جنسية بلد اللجوء.

ولا بد من الإشارة، ولو بشكل عابر، إلى أن توالي اعتراف دول الخليج بدولة العدو الإسرائيلي يعكس نفسه على قاصدي دول الخليج أو الذين يتواجدون في بعض دوله، يمارسون أعمالاً شتى في مجالات مختلفة.. مع لفت النظر إلى أن المنتمين إلى الطائفة الشيعية، عموماً، بات حصولهم على تأشيرات وأذون إقامة في بعض الخليج موضع شك أو “قيد النظر”.

من جهة أخرى فإن ضغوط الأزمة الداخلية السورية على الدولة باقتصادها، وانفلات حدودها شمالاً في اتجاه تركيا وغرباً في اتجاه لبنان، ونسبة أقل في اتجاه الأردن، يوفر لمن يتناقص دخله من تلبية احتياجات عيشه سببا إضافيا لطلب فرصة عمل في أي أرض تقبله وبالأجر المتيسر الحصول عليه.

في السياسة: يتكشف عجز النظام في لبنان بدولته التي يتقاسم مغانمها “الكبار” من المسؤولين والنافذين وشركائهم من أصحاب المصالح والشركات الخاصة، بما في ذلك المصارف.

وقد اشتدت الحملة مؤخراً على حاكم المصرف المركزي حتى بات موضوع استهداف يومي، حتى ليمكن القول أن ثمة حملة جدية للتشهير برياض سلامة وبالمصرف -الضمانة لثبات قيمة العملة (في مواجهة الدولار والعملات الأجنبية عموما، من دون أن ننسى عملات دول النفط العربي وتأثيراتها في لبنان وعليه).

من جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن بعض دول الخليج زادت من تضييقها على اللبنانيين الذين يقصدونها للعمل في بعض المؤسسات والشركات فيها، خضوعاً لضغوط أو خشية من ضغوط غربية (وإسرائيلية) بذريعة محاربة “حزب الله” والنفوذ الإيراني في لبنان أو “التبعية لسوريا” أو أية ذريعة مشابهة.

كذلك لا بد من الإشارة إلى ما يشكله تعاظم اللجوء السوري إلى لبنان، وانتشار الرعايا السوريين في معظم أنحاء لبنان شمالاً وبقاعاً وجنوباً وجبلاً من دون أن ننسى بيروت. ليس أمراً عارضاً أن تكون أعداد النازحين السوريين إلى لبنان بات يقترب من المليون.. وإذا كانت نسبة كبرى من هؤلاء يعملون في الزراعة فإن أبناءهم يذهبون إلى المدارس (الرسمية أي المجانية، خاصة .. وهذا مما يزيد العبء.)

بالمقابل فقد خسر لبنان بعض رصيده في المملكة العربية السعودية وبعض أقطار الخليج.. ويلاحظ أن السعودية سحبت يدها وإن كانت قد أبقت سفارتها في بيروت، وأقدم الكثير من السعوديين على بيع أملاكهم في بعض المصايف اللبنانية، وحتى في بعض أحياء بيروت بذريعة أنهم قد وجدوا مصايف أفضل وأرخص ومجالات لتوظيف أموالهم أكثر سخاء مما كانوا يجنون في لبنان.

ويبدو أن رعايا بعض الدول الخليجية، لا سيما التي أقدمت على الإعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها والإنفتاح التجاري عليها قد أخذت تخفف من اهتمامها بلبنان واللبنانيين وتحاول اعتماد سياسة أكثر حذراً .

على الهامش: لا بد من الإعتراف أن دولة الكيان الإسرائيلي باتت موجودة وبرعاية خاصة في العديد من دول الخليج العربي (بل أن رئيس حكومة العدو زار السعودية والتقى ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان في مدينة نيوم على ساحل البحر الأحمر، وخلال وجود وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.. وكان من السهل أن يغدو اللقاء ثلاثياً).

يبقى أن نستكمل هذه العجالة بالإشارة الى أن الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في كل من العراق وسوريا (والأردن بطبيعة الحال) فضلاً عن فلسطين المحتلة مأزومة، وقد حان زمن البيع وتضييق مساحة الإندفاع الى الخارج، أو قبول، الوافدين من لبنان، سواء كرجال أعمال ووسطاء لشركات أجنبية، وهذا يقفل نافذة كان يتنفس منه البعض..

وملفت أن تكون مصر قد غدت مقصداً لبعض رجال الأعمال وبعض الشركات فضلاً عن المصارف والشركات التجارية؟.

نكتب هذه الكلمات بينما طوابير الراغبين في مغادرة لبنان، الى أي مكان يقبلهم في هذه الدنيا الواسعة، قد تزايدت كثيراً مع تمدد الأزمة السياسية – الإقتصادية – الإجتماعية التي يعيش لبنان في أسرها منذ عام على الأقل (الإنفجار في ميناء بيروت وما كشفه وتبعه من إنهيارات، ضرب العملة الوطنية، وتناقص فرص العمل)، والتي هزت يقين اللبنانيين واطمئنانهم الى القدرة غير المحدودة للنظام في بلادهم على امتصاص الأزمات واستيلاد الفرص واستدعاء الخارج ليخدم الداخل أو توظيف بعض أهل الداخل في المحيط العربي القريب.

لم تعد طوابير اللبنانيين تقف على أبواب سفارات السعودية وأقطار الخليج مطمئنين إلى حصولهم على تأشيرة تفتح لهم باب الرزق هناك، واختفت من الصحف الإعلانات بطلب مؤهلين للعمل في بعض الإختصاصات في الدول، هناك، أو في القطاع الخاص الذي كان يرحب أو يفضل الموظف اللبناني على غيره من العرب.

ولقد جاء التفجير في مرفأ بيروت، في الرابع من شهر آب من العام الماضي، ليظهر انكشاف العاصمة أمنياً، نتيجة الإهمال ومع رفع أجداث الشهداء ونجدة الجرحى وإخراجهم من تحت الركام تبدت صورة أخرى للعاصمة “أم الجميع”، فقد ظهر أنها هي أيضاً بحاجة إلى من ينجدها وليست جاهزة ومؤهلة لنجدة رعاياها.

 بعد ذلك ومع تفاقم تعقيدات الأزمة السياسية والعجز عن تشكيل حكومة جديدة، مع أن المكلف بتشكيلها لا يتوقف في بيروت إلا لتبديل الطائرة وهو يجول بين العواصم المختلفة، ومرسوم التكليف بين يديه يقلبه وهو يستذكر أسماء من سيأتي بهم وزراء في الحكومة الجديدة، في موعد يكاد يكون سراً حربيا لا يعرفه أحد.

لهذه الأسباب جميعاً، ليس أمامنا سوى أن نضع أيدينا على وجوهنا منتظرين أن يحين موعد الفرج، فتولد الحكومة لكي تعود الدولة إلى الحياة.

وفي انتظار ذلك اليوم ليس أمامنا سوى الصلاة والتوجه إلى العلي القدير بأن يفرج كربتنا ويمنحنا حكومتنا لنعرف الى أين سيأخذنا غدنا.

كلمة ألقيت خلال حوار أقيم بدعوة من “دارالندوة” بتاريخ 15 نيسان 2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق