“دولة” برسم التصفية!

 


طلال سلمان

تجاوزت أزمة الحكم في لبنان نطاق الفضيحة وأخذت تتقدم به في اتجاه الكارثة.
فالصراع بين المواقع (والمصالح) دمّر هيبة الحكم برئاساته جميعاً، فضلاً عن كونه قد أنهك اقتصاد البلاد المتهالك أصلاً متسبباً في تفاقم أزماتها الاجتماعية بما يكاد يخرجها عن السيطرة، إلا… بالوسائل الأمنية التي تسرِّع الانفجار ولا تمنعه.
لكأن “الدولة” برسم التصفية بعدما فقد الحكم عبر معاركه اليومية مصداقيته كما تهاوت مؤسساتها وإداراتها التي عطلها الصراع العبثي وأفرغها من أي مضمون، لا سيما أن عجز الخزينة يُعجزها عن أداء دورها الطبيعي في تأمين الخدمة العامة ولو بحدها الأدنى.
فالألقاب المفخمة والمراسم والحرس والقصور لا تقيم جمهورية.
كما أن اللوحات السوداء لا تقيم مجلساً للوزراء.
ولا اللوحات الزرقاء تقيم أو تحيي عظام مجلس النواب وهي رميم.
ولا الأعلام والشعارات الملونة والمهرجانات (بالنقليات والطعام والشراب) تحيي أحزاباً ميتة أو تفتح طريق السلطة أمام أحزاب استولدت على عجل لتمويه طبيعة الولاء الديني أو الطائفي أو الإقطاعي.
كذلك فإن الطوائف المؤتلفة بالاضطرار لا تقيم وطناً.
لكأن “الدولة” برسم التصفية، فخزينتها تعجز عن سداد فوائد الدين العام بينما أصوله تتوالد فتتزايد باستمرار، وبذرائع لا يمكن رفضها من حيث المبدأ (أن يبقى لدينا شيء من الكهرباء، مثلاً).
وتعاظم الدين العام هو الدليل الذي لا يدحض على إفلاس الحكم المقتتلة أطرافه، والمشغول كل طرف فيه بكيفية إدامة ظله الوارف وإلغاء شريكه أو شركائه حلفائه رفاق سلاحه في “الخط”الذي يكاد يندثر تحت أقدام الأخوة الأعداء المشتبكين بكل أنواع الأسلحة وعلى مختلف الجبهات!
إن الإفلاس السياسي يكاد يتجاوز الإفلاس المالي بمخاطره الجدية.
فلا مجلس الوزراء سلطة حكم، ولا المجلس النيابي سلطة محاسبة، ولا القضاء مرجع مستقل حكمه هو الحد الفاصل بين الشك واليقين، بين الإدانة أو التبرئة ودائماً بالدليل القاطع وبمعزل عن عواطف المرجعيات وانحيازاتها الرخيصة.
كل الحكم، ومن ثم الدولة والبلاد، يسبح في بحر من الغلط بلا ضفاف.
وباستطاعة كل طرف في السلطة المشروخة أن يتهم الطرف الآخر، وأن يثبت وبالأرقام أحياناً!! أن هذا “الشريك المفوض” هو الذي تسبّب في الإفلاس الشامل لمختلف المرافق والإدارات والمجالس (الهاتف بداية، الكهرباء، الضمان الاجتماعي إلخ)..
الوزير يمكن أن يتهم مجلس الإدارة (ليصيب من عيّنه!) فيرد مجلس الإدارة باتهام الوزير (ليصيب من وزّره..)..
وزير المالية يمكنه أن يتهم وزير الطاقة، مثلاً، ووزير الطاقة يمكنه أن يرمي التهمة كقنبلة موقوتة في قلب مجلس الوزراء، فينشق المجلس على نفسه، وتنتهي التهمة عند رئيسه ورئيسه رئيسان، وكل منهما متهم (بالكسر) ومتهم (بالفتح)، فيلقى الأمر كله على القضاء، والقضاء مغلول اليدين بالسلطة المنقسمة على ذاتها… ثم إن القاضي لا يصدر أحكاماً سياسية. والسياسة مفسدة عموماً فكيف متى دخلت القضاء؟!
كأن “الدولة”برسم التصفية، ولا حساب، ولا من يحاسب..
مجلس الوزراء تحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة، وكل جلسة تنتهي بأزمة إضافية: فالسلطة تتهم السلطة، ورجال “الدولة” ينعون الدولة!
وها المعركة قد بلغت ذروة احتدامها: رئيس الجمهورية يتهم رئيس الحكومة بالتخريب على “عهده” ، فيرد رئيس الحكومة باتهام رئيس الجمهورية بمصادرة العهد المقبل.
ينتبه رئيس الجمهورية (…) إلى أن حكوماته التي تضم “شركاءه” في السلطة لم تمكنه من تحقيق حلمه بالإصلاح.
وينتبه رئيس الحكومة (المكلف…) إلى أن وجوده في السراي رئيساً لن يوفر له المناخ المطلوب لإنجاز خططه.
وفجأة تصير المسألة في مكان آخر: ما العلاقة بين انقطاع التيار الكهربائي الذي أنفق عليه اللبنانيون ما يكفي لتصدير الطاقة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبين اتفاق الطائف؟
(…)
الديموقراطية اللبنانية تنجب طائفيين.. والطائفية سلاح فعال من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس، من المختار إلى رئيس الرؤساء، فالطوائف أصوات، ثم إن لها حق “الفيتو”..
صار الحكم فضيحة!
سقط الحكم في نظر الناس، حتى بالمعنى الاجتماعي للكلمة: ماذا يعني ان تكون نائبا من مجلس استولدته “البواسط” و”المحادل” قيصريا، مع الحرص على الشكل الديموقراطي ثم إنه لا يجتمع، فإذا ما اجتمع لم يقرر إلا ما هو مقرر في “غيابه”، ولم يشرع إلا ما يشرعنه الغلط، فيلغي المحاسبة ويبرئ المتجاوزين والمقصرين والمتسببين في هدر المال العام!
ماذا يعني ان تكون وزيرا في حكومة لا تجتمع، فإن اجتمعت هربت من القرار حتى لا تنفجر من داخلها، فإن قررت لم ينفذ من قراراتها إلا ما كان يهدف الى تنفيع صديق او قريب او طمس فضيحة يمكن لها ان “انتشرت” ان تصيب بالاذى من لا يمس؟!
لم يتبق في لبنان من المؤسسات من يؤدي عمله الا اجهزة الأمن والمصارف التي تتزايد الارصدة المودعة فيها ولا تجد لها استثمارا مجزياً اكثر من توظيفها في سندات الخزينة التي تزيد من حجم الدين العام، حتى وهي ترجئ مواعيد السداد مرة ومرات.
لكن هذه المؤسسات على خطورة دورها لا تقيم وحدها دولة، ولا تنفع في تزكية حكم وإثبات اهليته وتوطيد الثقة به، حتى وهي تسهم في ارجاء موعد الانفجار، الذي يتبدى، طالما استمر أداء السلطة على ما هو عليه من ترد، وكأنه محتوم، ولا مفر منه. (…)
***
لان الحكم منقسم على ذاته مما يعطل الدولة، فإن الثقة بالبلاد تتناقص يوما بعد يوم: كيف يثق الآخرون بدولة لا يثق اهلها فيها؟
وكيف سيصدق المواطن وعود الاصلاح والتغيير اذا كان يلمس يوميا كذب ما يقدم له من تبريرات لتفاقم الازمة الاقتصادية بمضاعفاتها الاجتماعية “المبشرة” بغد اسود؟!
الكل يتهم الكل ولا من يحاسب.
الكل يتهم الكل ويبقى الكل في السلطة!
الكل يتهم الكل والدين العام الى تعاظم مع كل مطلع شمس.
يقرأ المواطن او يسمع ارقام الدين العام، وهي ليست موحدة بل إن كل طرف في السلطة يعتمد لها رقما مختلفا عن ارقام شركائه، فيدوخ… لكنه متى سمع الشروحات الرسمية اطمأنت نفسه: سنستدين اكثر لسداد المستحق من الدين!
من المسؤول عن هذا كله؟!
العهد الحالي، العهد السابق، العهد الآتي، ام الكل معاً؟!
الجواب: الكل ابرياء، بدليل ان كلا من اهل الحكم يعمل للتخلص من “شريكه” بوصفه “المسؤول”… والنتيجة المنطقية ان يبقى الجميع، ولو من باب تجنب الظلم بتحميل المسؤولية لطرف واحد.
فإذا كان الكل مسؤولين فهذا يعني ان الكل أبرياء!
ولا يبقى من متهم إلا المواطن العنيد، وحده لا غيره، وهو من يجب ان يدفع فواتير السابقين واللاحقين، ولو صار في اقصى الارض!

نشرهذا لامقال في جريدة “السفير”بتاريخ 14 حزيران 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق