الاقتصاد السياسي للوباء

 


وباء يصيب البشرية. لا دواء له. هناك لقاح. ابتدأت الشركات الصانعة للقاح بتوزيعه. الشركات الصانعة قليلة العدد. طرائق الصنع ونقل اللقاح وتخزينه معقدة. ليس للقاح سوق تبحث عنه الشركات من أجل التنافس. السوق هي البشرية جمعاء.

قلة عدد الشركات الصانعة للقاح كورونا تجعل السوق احتكارية. الاحتكار طبيعي. لا تنافس، لأن السوق مفتوحة ومتاحة دون تنافس. لا نعرف بنية الأسعار. نعرف شيئاً واحدا هو أن الأرباح ستكون عالية جداً، ولو كان ثمن المبيع للجرعة الواحدة بضعة دولارات. كل البشرية بحاجة الى اللقاح. الهلع الذي يصاب به العالم يدفع كل الناس الى أخذ اللقاح.

الشركات الصانعة مصانة أو محمية بأمرين مهمين. أولهما السرية. ثانيهما حقوق الملكية الفكرية؛ على الأقل لمدة 15 عاماً. تزعم الشركات أنها تنفق الكثير على البحث والتطوير، وبالتالي يحق لها طلب أسعار عالية. الناس والحكومات مضطرون للشراء. الصانعون قليلو العدد والبشرية بأكملها سوق ضرورية، عندما تتحكم شركة واحدة أو عدة شركات، سواء قامت بالتنسيق سراً أو علانية. فهي كارتل يتحكم بالسوق. بيع اللقاح لا يكون بالتنافس. الناس مضطرون بسبب الخوف المفرط على حياتهم للشراء. ليس أمام المستهلك خيار. ليس هناك سوق تنافسية. الصانع يملي الثمن. وهذا معنى الاحتكار الطبيعي.

يشبه تدفق اللقاحات الى بلاد قبل بلادنا تدفق الاستثمارات المالية في العقود الماضية. أرسلوا إلينا المال، بالأحرى فوائض مالية كانوا بحاجة الى “استثمارها”. تدفق إليهم مال بكميات أكبر مما بعثوا إلينا. كانوا يضغطون على بلدان العالم الثالث من أجل الاستدانة. لم تكن المساعدات إحساناً. الإحسان لا مقابل له. بل هي أموال مشروطة بأن تسترد مع الفائدة. الفائدة المركبة على مدار السنين تفوق أصل الدين. كان التدفق المالي بين الدول الدائنة (المتقدمة) والدول المستدينة (المتأخرة) هو دائماً لصالح الدائنين. بالطبع هناك محسّنات تأتي مع الديون، مثل القروض الميسرة، بمعنى أن تكون الفائدة أقل من المستوى العالمي، أو ما يسمى الفائدة التجارية. وهناك هبات صغيرة دون مقابل. ذلك من أجل تزييت الماكينة. آلية الدين الخاص والعام هي دائماً لصالح الدائنين. الفرق بين مديون ومديون آخر، سواء كان أحدهما من القطاع الخاص أو العام، هو حسن استعمال القرض؛ في سبيل أشياء منتجة أو مجرد الاستهلاك.

 التمييز بين الريع والفائدة والربح كله مفتعل وايديولوجي يستخدم في سبيل التعمية. كله جزء من القيمة الزائدة. وهي ما يفوق على مسلتزمات البقاء لدى المديونين. كل جزء من عمل العامل الذي يُقتطع منه عنوة ليُسمى ربحا أو فائدة أو ريعا شرعياً هو قيمة زائدة على ما يترتب للعامل من أجور. تتحول القيمة الزائدة الى ربح وفائدة وريع.

يشبه اللقاح المال في أنه قيمة عالمية. اللقاح تنتجه شركات الأدوية. المال تنتجه المصارف المركزية. لكن اللقاح يستخدم مرة واحدة في البيع والشراء. بينما المال يستخدم عدة مرات. الافتقار الى اللقاح يشبه الافتقار الى المال. هذا الافتقار يجلب الموت وذاك يقود الى الموت. كلاهما يحتاج الى الإحسان لإنقاذ بعض البشرية. مهمة القضاء على البشرية متروكة للفيروس. ندرة اللقاح تشبه ندرة المال في أنها وسيلة للقبض على البشرية وضبطها، وربما ضبط أعدادها المتزايدة. حتى الآن تحتكر الدولة بيع اللقاح. لا شك أن سوقاً سوداء، خارج الدولة، وربما داخلها، ستنتج عن سوء الإدارة. تخزينه مثل اكتناز المال بالعملة الصعبة سيؤدي بأصحابه الى امتلاك ثروات كبرى. ستتبارى الدول في إنتاجه كما تتبارى في إنتاج العملة الوطنية. سيكون هناك نوع واحد أو أكثر متميزاً كما تتميّز العملة الصعبة، الدولار أو اليورو، عن بقية العملات. لا يحتاج اللقاح الى دعايات واعلانات من أجل التسويق. هلع الناس عظيم. وسائل الإعلام لم تقصّر. الناس بانتظاره بفارغ الصبر. لا يحتاج بلد الى الإعلان عن عملته والدعاية لها في الداخل.

جرت العادة أن يوقع العاملون في أقسام “البحث والتطوير” على عقود تمنح حقوق الملكية الفكرية للشركات التي يعملون فيها. وهي ليست لهم. براءة الاختراع تسجّل باسم الشركة لا باسم أيٍّ منهم. صار الفكر سلعة في هذا النظام الرأسمالي. أي اختراع في شركة تكون السلعة (الفكرية) ملكية للشركة. تحتفظ الشركات، تبعا لذلك، بآلاف البراءات المعنية بالسلعة الفكرية. ربما تستعملها أو لا تستعملها. لكنها، على أية حال تُخزّن وتُكتنز كالمال. هي شركات تبغي الربح لا غير. تحتفظ بسر صناعة سلعها الفكرية، كما كان مهنيو القرون الوسطى والقديمة يحتفظون “بسر المهنة”.
ما كانت البشرية أحوج الى التضامن مما هي عليه الآن. بقاء البشرية يعتمد على اللقاح. لكن بقاء البشرية ليس أولوية على المال وتراكم الثروات. أحسن من قال أن التناقض الرئيسي اليوم هو بين بقاء البشرية وبقاء الرأسمالية. أفلح النظام الرأسمالي في جعل الرأسمالية تبدو وكأنها طبيعة بشرية. تماماً، مثل الجينات أو الأعضاء البشرية. لكن المستحيل هو أن تصير الرأسمالية طبيعة بشرية. من فقد عضواً من أعضائه ليس كمن فقد ماله أو خسره. تعوّد الناس على اعتبار الرأسمالية طبيعة أخرى. وتعودوا نسيان أن الرأسمالية دخيلة على التكوين العضوي للبشر. هي كائن خارجي دخيل فُرِضَ على البشرية بالقهر والعنف وانقسام المجتمع الى طبقات. الطبقات العليا تستأثر بالقيمة الزائدة، التي هي جزء من عمل العاملين وحق إنساني لهم. لكن الاقتصاد الرأسمالي لا يهتم بالقيم الإنسانية. يهتم بقيمة واحدة هي الربح وما ينتج عنه من ثروة.

أممية الوباء تجعل المعالجة بالضرورة أممية. أممية تتخطى الحدود والدول والأديان والإثنيات. أمام الخطر الداهم لا يمكن البقاء للإنسانية دون التعاون. التعاون لا بد أن يكون أمميا يتجاوز الحدود والقوميات والإثنيات والهويات؛ يتطلّب هوية واحدة هي هدف البقاء.

الكورونا وباء يفتك بالبشرية في جميع البلدان، مهما كانت تركيباتها الدينية والاجتماعية والقومية. الكورونا كائن بدائي، لكنه يدلنا على الطريق. أصم وأبكم، دون إحساس أو عقل. ليس له إلا مهمة واحدة، وهي أن ينمو. ينمو أمميا. بقاؤه مرهون بأمميته. كان على الإنسان أن يتعلم ذلك من الكوارث التي سبقت الكورونا والتي لا تزال موجودة وتهدد مصير الحضارة الإنسانية. الكوارث المحيقة، والتي بدأت قبل ظهور هذا الوباء، وسوف تستمر، تتعلق بالبيئة والسلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل. والفقر الذي يزهق الملايين يومياً، والحقد، والكراهية، والاستبداد، والنظام الرأسمالي عامة. جاء من يشير إلينا بإشارة مأساوية وكارثية بأن طريق البقاء أممية كما طريق الفناء أممية.

غالَبَ الإنسان إنسانيته، فاعتقد منذ القديم أن في أساس الخلق أخ يقتل أخاه. كل الايديولوجيات اللاحقة طبقية. هي في أساسها مبنية على مبادىء السيطرة والتحكم والسلطة والجيوش المتحاربة التي تقتل بعضها بعضاً. الى أن تم اكتشاف النووي الذي استخدم مرة واحدة فكانت النتائج مدمرة أكثر من أي وقت مضى. ما من دولة طورت السلاح النووي لديها من أجل الأغراض السلمية. ما من دولة تقتني النووي الا وتضمر الحرب. جاءتنا الجائحة الكورونية تهمس في أذاننا:  فليكن السلام بينكم، مهما كنتم، إذا أردتم البقاء. ما لا تستطيع الكورونا قوله، وهي في ما عليه من البكم والصم، هو أن استمرار الجنس البشري مرهون بالتعاون (يسميه البعض كما اعتدنا أن نسميه اشتراكية أو شيوعية)، وأن التعاون شرطه الأساسي والوحيد هو القضاء على النظام الاجتماعي-السياسي-الاقتصادي، الذي هو خلاصة ما تعلمه البشر من تاريخ الحرب والقتل. حتى الديموقراطية لم تعد طريقاً للسلم الاجتماعي والقومي والديني، بل صارت مكاناً وزماناً لإخراج أسفل وأحقر وأحط ما في الإنسان من غرائز القتل والاستغلال والاستعباد والقهر. ألا يختصر ذلك ظهور الفاشية مجددا وعن طريق الانتخابات؟ وهل الفاشية سوى سلاح دمار شامل؟
كما أن أسطورة الخلق، التي بنيت عليها كل الأنظمة الاجتماعية السياسات المتلاحقة، تعتمد مبدأ قتل الأخ لأخيه الإنسان واعتماد الحرب لإخضاع الآخرين. هناك أسطورة أخرى أكثر واقعية ومبنية على شواهد تاريخية؛ ومبنية على أن أصل الإنسان التعاون. أليس المجتمع مشاعياً في نظر الايديولوجيا الشيوعية؟ أسطورة الخلق الدينية أساس للفناء. أسطورة المشاعية الأولى أساس للبقاء. فأيهما نختار؟

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق