فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
رغم مواقف الادانة الدولية الواسعة لتصريحات وزير المالية الاسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي قال: "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، وهو ليس إلا اختراعا يعود عمره إلى أقل من 100 سنة.."، الا ان حالة النفاق والتكاذب السياسي تبدو واضحة في ابهى صورها في ردود افعال المسؤولين الاوروبيين تجاه ما ذكره سموتريتش..
هل نتجنى على من انتقد تصريحات المسؤول الاسرائيلي بنفيه للشعب الفلسطيني، وهل علينا رفض مثل هذه المواقف من دول ما زالت تعتبر بأن ما يقوم به الاحتلال الاسرائيلي هو دفاع عن النفس؟ المقصود هنا هو ان مواقف الدعم للشعب الفلسطيني تبقى مطلوبة في كل زمان ومكان بل يجب تطويرها وترجمتها واقعا على الارض، لكن حين تكون المواقف مجرد عصافير على الشجرة، او متناقضة مع افعال واتفاقات وشراكات سياسية دينية وعسكرية واقتصادية تمد اسرائيل بكل اشكال البقاء، حق لنا ان نشكك في صدقية مواقف الادانة هذه..
جميع الدول الغربية على دراية تامة بكل حرف نطقه سموتريتش وبخلفيات حروفه، لذلك نبحث عن السبب الحقيقي لتلك الانتقادات: هل لنفي سموتريتش وعدم اعترافه بالشعب الفلسطيني، هل دعوته العلنية لاحراق بلدة حوارة، هل العبث بحدود الدول واعتباره ان حدود اسرائيل تتجاوز المملكة الاردنية، هل اعتباره ان عمر الشعب الفلسطيني لا يتجاوز 100 سنة. هل ان الدول الغربية ترفض وتدين ما سبق، اي هل تتعاطى مع الفلسطينيين على انهم شعب له ارض وتاريخ معلوم وحدود واضحة وموثقة لدى دول الانتداب والاستعمار الغربي؟ اسئلة كثيرة تبدو اجابات الدول الغربية عليها اما غامضة او دبلوماسية غير واضحة او انها تقترب من الخرافات والاساطير والمزاعم التي صاغتها الحركة الصهيونية وبرنامجها الذي تتحرك على مساره منذ اكثر من 150 عاما، ومحوره نظريات بائدة اشهرها خرافة "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، ونظرية "ان المنطقة تضم اربعة دول وخمسة شعوب ويجب التخلص من الشعب الزائد..".
اما التساؤلات الكثيرة التي طرحها سموتريتش بشأن أول ملك فلسطيني وحول لغة وعملة وثقافة الفلسطينيين، فهي تساؤلات، وان كانت تدل على جهل بالتاريخ، غير ان المشكلة هي ان الدول الغربية التي انتقدت هذه المواقف هي نفسها من سايرت اسرائيل التي بنت استراتيجيتها التفاوضية منذ مفاوضات مدريد وحتى اليوم على نفي الشعب الفلسطيني، حين رفضوا الاعتراف بوفد يمثل الشعب الفلسطيني.. وربما بات العرب والفلسطينيين بحاجة الى استحضار التاريخ مرة اخرى، حتى لا تتحول خرافات الحركة الصهيونية الى حقيقة وحيدة، وحتى لا تصبح الرواية الصهيونية هي الموجودة على الطاولة.. وهنا قد نجد من المفيد العودة الى بعض ممن اجتهد وبحث وفكر وتوصل الى خلاصات تقدم اجابات شافية لأسئلة سموتريتش ومن اهمها موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" لمؤلفها عبد الوهاب المسيري وهي تقع في ثمان مجلدات نشرت 1999، اضافة الى كتاب "ملوك فلسطين" للكاتب الفلسطيني تامر زغاري الصادر عام 2021 والذي يوثق تاريخ 64 ملكا حكموا فلسطين بدءا من عام 5000 قبل الميلاد، وفيه ما يشفي غليل سموتريتش وغيره من "ان فلسطين كان فيها شعب مستمر منذ آلاف السنوات قبل الميلاد، وله نظام سياسي، وأحقية العرب واضحة فيها بالدلائل الأثرية وليس الدينية فقط.. وكان ملوك فلسطين إما مستقلين في مملكة خاصة بهم، أو تابعين للممالك الأخرى المجاورة، وحتى وهي تابعة لهذه الممالك كان لها نظام سياسي مستقل. كما أن فلسطين لم تخرج يوما من التاريخ ولا الأحداث السياسية، إما بسبب موقعها الجغرافي، أو الحاجة للسيطرة عليها من شعوب اخرى..".
اما قول سموتريتش "إن هناك من خترع أمة وهمية ويطالب بحقوق وهمية في أرض إسرائيل لمجرد محاربة الحركة الصهيونية"، فهذا ادعاء ومزاعم يسهل دحضها باحالتها الى مصدرين فقط: المصدر الاول مؤرخ يهودي فرنسي نشر كتابا بعنوان "اختراع الشعب اليهودي" عام 2008، وفيه يفكك المفكر اليهودي الفرنسي والاستاذ في جامعة تل ابيب شلومو زاند وبالتحليل العلمي التاريخي الاساطير التي صاغتها الحركة الصهيونية لتأكيد حق مزعوم لليهود في فلسطين.
ويقول زاند في احدى مقابلاته عن الكتاب"حاولت أن أشرح في كتابي كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخا مزيفا لليهود مبنيا على فكرة الشعب اليهودي. وبينت أن هذه فكرة خاطئة وخرافة، تم استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومن أجل شن الحروب على الدول العربية". ويعتقد زاند ان "ليس هناك شيء اسمه الشعب اليهودي بالمعنى المتفق عليه. فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي (الاجتماعي)، مصطلح يطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة لا وجود له اطلاقا، وهذا لا ينفي ثمة أقوام يهودية مختلفة، وذات ثقافات مختلفة. وكان القاسم المشترك بينها، ممارستها للشعائر والطقوس الدينية نفسها. اما قول الحركة الصهيونية ان فلسطين هي أرض اليهود، وأنهم اقتلعوا منها من قبل الإمبراطور الروماني تيتوس في سنة 67 ميلادية. فهذه مجرد حكاية لا يوجد دليل تاريخي أو علمي مقنع، يسندها حتى الآن..".
اما المصدر الثاني فهو كتاب المفكر الفرنسي روجيه غارودي "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" الصادر عام 1995، والذي ناقش بدوره بعض العناوين التي ما زال يعتبر فتحها وطرحها للنقاش العام من المحرمات، ومعاداة السامية هي اقل تهمة قد توجه لكل من يشكك في مزاعم واساطير الحركة الصهيونية مثل غارودي الذي تعرض لقضايا تعتبر احدى اهم ركائز المشروع الصهيوني مثل: فلسطين ارض الميعاد، وشعب الله المختار، ونظرية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض وغيرها من خرافات ليست موجودة الا في عقول كاتبيها ومروجيها، ولأسباب لها علاقة بالمصالح السياسية والاقتصادية ما بين الاستعمار الغربي والحركة الصهيونية..
لا نريد ان نقنع الشعب الفلسطيني بأحقيته بفلسطين، كما لا نحتاج لنقاش تؤكده الحقائق التاريخية بأن نحو 90 بالمائة من يهود العالم لا صلة تاريخية تربطهم بفلسطين، وفي مقدمتهم يهود اوروبا الشرقية والغربية وامريكا، وما ذكره سموتريتش على الشعب الفلسطيني يكاد ينطبق بحرفيته على اليهود الذين ينتمون الى اقوام وشعوب مختلفة، بعضها لا يعرف موقع فلسطين على الخارطة وبعضهم الآخر انما جيء بهم كمهاجرين لأسباب اقتصادية في المقام الاول، بدليل ان خطرا صغيرا يتهدد الكيان فنجد هجرة اليهود الى خارج فلسطين بمئات الآلاف، بينما الشعب الفلسطيني ورغم العدوان الذي يشن عليه، والحصار الاقتصادي المفروض والحرب الشاملة التي تشن عليه منذ عقود، والمغريات الهائلة التي تقدم له، ما زال صامدا في أرضه رافضا مغادرتها او تركها.
وبعيدا عن التاريخ وفي عودة الى مسلسل النفاق والتكاذب السياسي من قبل الدول الغربية نبرز نموذجين على سياسة المعايير المزدوجة في التعاطي مع قضية طرفها فلسطيني واخرى طرفها اسرائيلي: ففي العام 2022 فتحت الشرطة الألمانية تحقيقا ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس اثناء زيارته المانيا ولقاء المستسار الالماني، على خلفية جملة صحيحة قالها وتتعلق بالجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. فقد قال الرئيس ابو مازن: "منذ عام 1947 ارتكبت إسرائيل 50 مجزرة.. 50 مذبحة.. 50 هولوكوست".
وعلى خلفية هذه الجملة، دول احتجت واخرى ادانت واستنكرت وثالثة اعتبرت انها معادية للسامية. بينما نفس الفعل وأخطر من شخصية رسمية اسرائيلية تحدثت بكلام واضح في عنصريته وتحريضه على الكراهية، لكن القضاء الفرنسي او الاوروبي لم يبادر لمجرد فتح تحقيق او حتى سؤال سموتريتش بشأن تصريحاته التي نفى فيها وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني.. واكتفت وزارة الخارجية الفرنسية "بدعوة الأشخاص في مناصب رفيعة في الحكومة الإسرائيلية إلى التحلي بالوقار المطلوب واحترام كرامة الآخرين والامتناع عن أي أعمال أو تصريحات تساهم في تصعيد الوضع".
بعد حملات الادانة الدولية والعربية لم يتراجع سموترتش والحكومة الاسرائيلية لم تتبرأ من مواقفه، لأنها باختصار شديد تتبنى نفس المواقف، بينما الرئيس محمود عباس قام باصدار بيان خاص يوضح فيه أنه "لم يكن المقصود في إجابته إنكار خصوصية الهولوكوست، التي ارتكبت في القرن الماضي، فهو مدان بأشد العبارات".
نختم لنقول: ان من يكتب التاريخ هم المنتصرون، وقادة الارهاب والعدوان في اسرائيل يتصرفون مع الفلسطيني كونه ضعيفا ومنهزما، لذلك فان ما تحدث به سموتريتش وما سيتحدث به غيره لاحقا هو انعكاس حقيقي لطبيعة المشروع الصهيوني حيث نجد ترجمته الحرفية في ما يسمى "قانون الدولة القومية لليهود في اسرائيل" الذي سنه الكنيست عام 2018 وهو لا يرى ولن يرى فوق ارض فلسطين الا اليهودي.. فأرض فلسطين لا مكان فيها لأغيار، وعلى القيادة الرسمية للسلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية ان يدركوا جيدا، وهم يدركون طبعا، ان ما قاله سموتريتش ليس زلة لسان او تطرفا عابرا بل هو تعبير عن اسرائيل الحقيقية التي هي التجسيد الفعلي للمشروع الصهيوني الامبريالي في ادق تفاصيله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق