بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما أشبه اليوم بالبارحة، عندما كانت العصابات الصهيونية المختلفة، شتيرن والأرجون والهاجاناه وغيرهم، يعيثون فساداً في أرض فلسطينية التاريخية، ويمارسون الإرهاب بالدم والنار في كل أرجائها، ويغيرون بقوة السلاح على البلدات الفلسطينية ويجتاحون القرى، ويقتلون سكانها ويطردون أهلها، ويرتكبون فيها أفظع المجازر وأبشع المذابح، ويعملون بالتعاون مع سلطات الانتداب البريطاني على سرقة الأرض وتزوير هويتها وتغيير طبيعتها، ونهب خيراتها واستنزاف مقدراتها، وبناء المعسكرات، وتدريب المتطوعين، وتسليح المقاتلين، واستدراج المهاجرين، وتمكين المستوطنين، وتشريع قوانين الجنسية، وتسهيل إجراءات الهجرة، تمهيداً لحرب النكبة عام 1948، التي أطلقت عليها الحركة الصهيونية اسم "حرب الاستقلال"، وعلى إثرها أعلنت تأسيس كيانها واستقلال "دولتها".
قديماً ترأس العصابات الصهيونية دافيد بن غوريون ومناحيم بيغن وإسحق شامير، الذين أصبحوا فيما بعد رؤَساءً للحكومات الإسرائيلية، ونفذوا على الأرض بقوة السلاح جزءً من برامجهم الاستراتيجية وأحلامهم القديمة، ونجحوا إلى حدٍ بعيدٍ في إرساء قواعد الدولة العبرية وتمكينها، واستطاعوا بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا في المرحلة الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، في بناء دولةٍ قويةٍ حديثةٍ، وتأسيس جيشٍ مسلحٍ مدربٍ، يتمتع بقدراتٍ عالية وأسلحة حديثة متطورة، مكنته من فرض هيبته وإرهاب جيرانه والاعتداء عليهم، والاستيلاء على أجزاء واسعة من أرضهم.
اليوم يحلم الإسرائيليون بحربٍ جديدةٍ، يطلقون عليها بأنفسهم اسم "حرب الاستقلال الثانية"، يتطلعون من خلالها إلى تحقيق كل أحلامهم القديمة وأطماعهم الدينية والقومية التي خططوا لها ومَنَّوا أجيالهم بها، باستعادة ممالكهم القديمة وأمجادهم التليدة، والعودة إلى "أرض الآباء والأجداد"، وبناء الهيكل الثالث، واستعادة العصا والتابوت وألواح موسى، والصلاة في كنيس الخراب، وارتداء الثياب الخاصة بطقوسهم، وذبح السخلان وتقديم القربان، والاستلقاء أرضاً في سجودٍ ملحمي يعيدهم إلى زمان الأنبياء والملوك، للعيش في الأرض التي اختصهم "الرب" بها وسَمَّاها باسمهم، وجعلها خاصةً بهم خالصة لهم، نقية من غيرهم، لا يشاركهم فيها الأرض والمقدسات غير اليهودي المشهود له بيهوديته، وغير المطعون في هويته.
يعيش الإسرائيليون اليوم أمسهم، ويخوضون غمار الحرب الأولى التي انتصروا فيها، ويدقون طبول "حرب الاستقلال الثانية"، التي يظنون أنها الحرب الأخيرة والخاتم، التي فيها سيطهرون "أرضهم"، وسيخرجون كل العرب منها، وسيدمرون كل المقدسات الدينية غير اليهودية فيها، فلا يعود فيها مكانٌ للمسجد الأقصى ولا لحائط البراق، ولا وجود للقبة المشرفة ولا لمسجد عمر، ولا أثر للحرم الإبراهيمي والمقامات الإسلامية، ولا بقاء لكنيسة القيامة ولا لكنيسة المهد، ولا لآثار للمسيح ولا درب للآلام، ولا شيء مما يدل على العرب أو يربط الفلسطينيين بأرضهم، التي يجب أن يخرجوا منها عنوةً أو يطردوا منها بالقوة، فالدول حولهم كثيرة والأرض عندهم واسعةٌ فسيحةٌ.
يتزعم هذا التيار الصهيوني الجديد ويقود الحرب الموعودة أحزابٌ دينيةٌ وأخرى قومية، يتقدمهم إيتمار بن غفير وبتسليئيل سموتريتش ونتنياهو، لكنهم يخفون خلفهم كل المستوطنين وجميع المتطرفين، ويحرضون الباقين من المستوطنين "الصامتين"، وغيرهم من الذين يصنفون باليسار أو معسكر الاعتدال، ممن يؤمنون بالحلول التوافقية والمخارج الوسطية، التي تحقق أحلامهم وتسكت الفلسطينيين وتوقف مقاومتهم، ولعلهم جميعاً، قوىً وأحزاباً، وجمهوراً ومستوطنين، يتفقون في الأهداف، ويلتقون في المشروع، ويتحدون في المعركة، ويطلقون نيران بنادقهم على الفلسطيني عموماً أياً كان فكره أو انتماؤه، فهم سواءٌ يتشابهون فكراً وممارسةً، وإن اختلفوا شكلاً أو تباينوا أسلوباً.
إن ما نراه اليوم على الأرض هو جزءٌ فعليٌ من التحضير والإعداد "لحرب الاستقلال الإسرائيلية الثانية"، فالشرطة تتهيأ وتتدرب، وتزداد عدداً وتتطرف فكراً، وتجهز والجيش نفسها لخوض مواجهاتٍ داميةٍ مع الفلسطينيين في المسجد الأقصى وفي القدس وفي كل عموم فلسطين، ويقوم قادتهم بأوسع عملية تعبئة وتحريض، وتوجيهٍ وإرشادٍ، لتهيئة عناصر الجيش والشرطة لهذا اليوم الذي يرونه لا محالة قادم، ولعل أوضح بيانٍ على حملات التحريض وعمليات الاستفزاز، ما يقوم به "الشقيان الأذلان"، سموتريتش وبن غفير، فهما اللذان يستعجلان الحرب ويتهيئان لليوم التالي.
أما السلاح الثاني الأمضُ والأوجعُ، والأسرعُ والأفتك، والأقدر على تحقيق النصر في حرب الاستقلال الثانية، فهو الاستيطان الذي بات يستهدف فلسطين كلها ولا يستثني مكاناً منها، إذ أطلقت حكومة اليمين المتطرفة العنان لزعماء الاستيطان وفتية التلال وغلاة المستوطنين، لتنفيذ أوسع عملية سطو على أراضي الفلسطينيين وبيوتهم، ومصادرة حقوقهم وتخريب ممتلكاتهم، في ظل وعودٍ جادةٍ بتشريع البؤر الاستيطانية، وعدم تفكيك أيٍ منها، وتعهداتٍ حكوميةٍ عملية بتوسيع المستوطنات وتسمينها، ومصادرة المزيد من الأراضي لتخديمها وضمان أمنها وسلامة مستوطنيها.
أمام هذه المخططات الصهيونية الواضحة، والمساعي الإسرائيلية المحمومة، والأحلام اليهودية القديمة، التي نرى أنها ليست أكثر من أوهامٍ مريضةٍ وأحلام بائسة مهيضةٍ، لن يتحقق منا شيء مهما اشتد ساعد الكيان وخَشُنَ سلاحه، ومهما تطرف قادته واشتطت حكومته، فالفلسطينيون الذين أبدعوا في مقاومتهم، وأذهلوا العدو في عملياتهم، وأقلقوه بثباتهم وصمودهم، وصبرهم واحتمالهم، لن يتركوه يهنأ في أرضهم، ولن يسمحوا له بالعيش في وطنهم والاستقلال ببلادهم، وسيعملون يداً بيدٍ لاستعادة وطنهم وتحرير أرضهم، وتطهيرها من رجس عدوهم وغلاة مستوطنيهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق