المجابهة الثقافية ودور المنتديات


 أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
من سميح القاسم إلى صديقه محمود درويش
«هل تذكر كيف استولينا على مضافة أبي العليا؟. وحوّلناها بلا استئذان إلى منتدى ثقافي لثلّة من الشبان المدجّجين بدواوين علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وأبي القاسم الشابي، وكتابات جبران؟ هل تذكر ذلك الشابّ الذي حاصرنا وأمطرنا بوابل من قصائده حتى ضقنا ذرعاً؟. فتهامسنا: اللهمّ اجعلْ هذه الليلة خيراً... فهذا الفتى قد تأبط شعراً! ما كان النوم متاحاً إلّا في ساعة متأخرة من الليل أو في أختها المبكّرة من النهار... وآنذاك شددتَ اللحاف إلى ما تحت أنفك مودّعاً: بخاطرك».
يشير مصطلح المنتدى في اللغة إلى أن المُنتدَى: ناد، مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه، جمعها مُنتديات، يجتمع فيه الناس للحوار والسمر والتداول، والمُنتدَى أيضاً: موقع على الشبكة العنكبوتية لتبادل الآراء. أما دار الندوة فهي المكان الذي يجتمع فيها القوم لتبادل وجهات النظر حول شؤونهم أو البحث في حل مشكلاتهم. وندوة الجماعة: اجتماعهم في نادٍ أو نحوه للبحث والمشاورة في أمر معين، وفق ذلك تتنوع الندوات: ندوة ثقافية، ندوة علمية، ندوة صحفية، الخ..
وفي مجال اللغة والمصطلح تتداخل عدة مفاهيم:
-المؤسسات أو المراكز الثقافية يغلب عليها الصفة الرسمية، الحكومات من يقيمها ويؤسس لها، وجدت لتواكب الحركة الثقافية وتعمل على تنظيمها وتنشيط فعاليتها.
-أما الصالونات الأدبية أو المجالس الأدبية يغلب عليها الصفة النخبوية والتخصصية وجدت كما أطلق عليها هوراس قائلاً: "إما للمتعة أو للتأدب"، المفهوم المحدد للصالون الثقافي هو المكان الذي يعقد فيه اللقاء ويستضاف فيه شخص بارز أو مهتم من قبل مجموعة من الناس إما للمتعة أو لصقل الذوق العام ، وتبادل المعارف والسجالات والحوارات، والمشهور بأنه يكون في مكان معين وثابت، وأن يحافظ على دورية انعقاده في توقيت مستقر، وأن يكون في رعاية شخصية تتمتع بالحضور في قضايا الصالون وموضوعه الرئيس، أو أن يكون متبنيًا بقوة أهداف الصالون وأجندته الفاعلة، له رواده الأساسيون الحريصون على انتظام الحضور والتفاعل.
-وموضوعنا المنتديات الثقافية أو الملتقيات الثقافية تتصف بالتنوع والتعامل مع جمهور أوسع مهتم بالثقافة، رواده متابعون لموضوعات يقدمها أو يعرضها أو يشرحها ضيف أو ضيوف مختصون بها، ارتباط الندوة باسم لامع يجعلها ندوة جادة تقدم طرحاً فكرياً وتهيء لمناقشات هامة، المنتديات ترتبط بنوع العلاقة الاجتماعية التي تربط روادها، المقاهي والنوادي علاقة صداقة، والمنازل طابع أسري تسود في هذه الأجواء روح المودة والتآلف وتجرد المبدع في إبداعه من القيود والرسميات، وفي المنظمة السياسية تسود الروح الرفاقية.
المنتديات ظاهرة اجتماعية ثقافية تلبي حاجة إشباع الميول للمهتمين بالشأن الثقافي يدفعهم لحضور لقاءات وندوات وحوارات بين الحين والآخر، إنها ظاهرة تشبع حاجات اجتماعية لروادها ، الحاجة لإقامة علاقات اجتماعية ودية، ساعدت المنتديات الأفراد المثقفين من شعراء وكتاب ونقاد على التعرف إلى أشخاص يقاربونهم في الميول والاهتمامات المشتركة، خاصة أن هذه المنتديات ساحة حوار محايدة لا تخضع لقرارات صارمة ولا لقواعد أو نظم ملزمة، إنها طوعية لا تجبر أحداً على الحضور، إنما تمثل المنتديات الثقافية حاجة اجتماعية ثقافية وليست ثقافية فقط، ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، تكسر الروتين اليومي الممل، تقدم النافع والمستجد من صنوف المعرفة والأدب، كل ذلك في طقس اجتماعي يسوده المودة والروح الرفاقية، محبب إلى النفوس التي تميل بطبيعتها لأجواء الصداقة والحوار، روادها لديهم الرغبة ليس فقط في تناول المعلومات وتذوق الممتع من الأدب وسماع المفيد من حكم النقد ، بل يرغبون باللقاء الاجتماعي، وكثيراً ما يحدث طرائف بين الرواد المتواجدين مما يزيدهم ترابطاً ووداً مثلما حدث في مقاهي فلسطين بلقاء الزجالين الفلسطينيين بالزجالين اللبنانيين قبل النكبة.
الحوار الممتع يمتع العقول والأرواح، لا الجدال المتعنت، يصف شيخ الشعراء إسماعيل صبري صالون “مي زيادة” بأنها مصدر رواء للروح:
روحي على بعض الحي هائمة.. كظامئ الطير تواقًا إلى الماء
ويتغزل الشاعر د. وحيد زايد بالصالون الثقافي الذي كان يعقده للأدباء في بلدته:
يا حسن هذا المنتدى .. كالروض بلله الندى
 هناك منتديات تجمع بين نوعين من التفاعل مع برامج المنتدى، منتديات ثقافية افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي في الفضاء الإلكتروني تسمح بضم أعضاء جدد بلا حدود، ومنتديات ثقافية حوارية مباشرة في القاعات والصالونات والمقاهي....
مواقع التواصل الاجتماعي، تثير انجذاباً متزايداً باستخدام الوسائل التقنية، بينما يشتكي القائمون على منتديات الحضور الشخصي من قلة عدد الحضور، تتيح مواقع التواصل الاجتماعي و التلاقي الافتراضي المشاركة بشكل أوسع و بحرية أكثر لأي شخص وهو في بيته يتمتع بالراحة التامة، يشير الإقبال المتزايد عليها إلى أهمية دورها ومدى تأثيرها في الحالة الثقافية، استخدام الإنترنت في مجال المنتديات لعب دوراً هاماً في التقارب الفكري وتعزيز الانفتاح الثقافي، وقد تؤدي علاقات الصداقة والتواصل الإلكتروني في المنتديات الافتراضية إلى علاقات شخصية إنسانية حقيقية.
ما دور المنتديات الثقافية، وماذا قدمت المنتديات الثقافية للمجتمع؟  وما دور المنتديات الثقافية في إثراء الحركة الأدبية والثقافية وتعزيز الثقافة العامة؟.
من مهمات المنتديات الحوارية أن تحدث حراكاً اجتماعياً بتداول الموضوعات الثقافية والانتقال بها من الصالونات النخبوية إلى الأحاديث العامة بين أفراد المجتمع عامة والمثقفين خاصة، وإلى مواقع التواصل الاجتماعي، كوسيلة لإقامة علاقات مع الاتجاهات الفكرية المختلفة والعلاقة بين مختلف فئات ومكونات المجتمع لتبادل الأفكار والفهم المشترك، والبحث في اتجاهات الثقافة السائدة في المجتمع ومكوناتها، ولتقوم بإلقاء الضوء على تجارب الشعوب وثقافتها.
لقد أثر الوضع الجديد لمواقع التواصل الاجتماعي على المنتديات الثقافية؟ وأسس لحراك ثقافي ساهم بدوره في انتشار المنتديات وعزز مكانتها وتقبلها شعبياً كوسائل حضارية للحوار وتبادل الرأي، وللتفاعل مع هموم الواقع الاجتماعي، ومهد الطريق ليصبح المنتدى محطة تفاعلية لنشر وتدوير الأفكار والرؤى، وترسيخ قيم الحوار واحترام الرأي الآخر، وتوفير بيئة اجتماعية للعقل النقدي، لتطفو هذه النقاط على السطح وتصبح سمات راسخة في الثقافة المجتمعية.
تقوم المنتديات الثقافية على مأسسة العمل الثقافي واستمرار ديمومته وفاعليته، وذلك من خلال وضع استراتيجية وخطط عمل محددة الرؤى والأهداف، ووضع نظام واضح للمراجعة والتقييم، وتشكيل بنية تنظيمية وإدارية واضحة تحدد مهام الأعضاء ومسؤولياتهم.
رغم أن وسائل الاعلام تقوم على تكنولوجيا متطورة أيضاً إلا أن المنتديات كانت مناسبة ومجدية أكثر، فالأولى تقوم على نمط خطابي ذي اتجاه واحد تكرس سلبية المتلقي ولا تلبي حاجة التعبير عن الرأي وتبادل الأفكار، خلقت المنتديات مساحة لتداول الأفكار والدفاع عنها وخوض معارك أدبية حوارية من أجلها.
كان النتاج الأدبي والثقافي في زمن الصحافة الورقية ينشر على الأغلب في الملاحق الثقافية، لكن المنتديات وفرت للأدباء من كتّاب وشعراء ونقاد إمكانية نشر نتاجهم الأدبي للمتلقين والى كل العالم بصورة لم تكن لتتحقق لهم من قبل، وأوصلت صوته إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء.
ما مستقبل المنتديات؟. وما هي التحديات الحقيقية التي تواجه المنتديات وتؤثر على دورها وتفقدها استمراريتها ؟. ذلك يجيب عليه انتشار المنتديات على مواقع التواصل الاجتماعي.
أحدث التطور التكنولوجي فضاء افتراضياً، ومساحة إلكترونية انتشرت على سطحها المنتديات الثقافية بشكل واسع، وتنوعت المنتديات فكرياً وعلمياً وأدبياً واجتماعياً، واختص بعضها في مجال محدد فجذب مختصين ومهتمين، ولعل هذا النوع هو أنجح المنتديات وأكثرها فائدة، ويمكن لهذه المنتديات أن تكون منتديات علنية أو منتديات خاصة يطل على منشوراته أعضاؤه فقط.
ومع انتشار المنتديات بشكل واسع، اتسعت فرص الحوار الحر المطلق دون أن يكون له ضابط من معايير قيمية وفكرية، وغياب الإطار القانوني والمهني الذي ينظم عمل المنتديات، فاتسم انتشار المنتديات بالفوضى وسهولة تشكيل صفحة ودعوة الأصدقاء للإعجاب والتفاعل أو تشكيل مجموعة ودعوة الأصدقاء للانضمام.
 غلب على المنتديات الاهتمام بالعدد دون النوعية وهو ليس عيباً إذا كان المقصود رفع المستوى الثقافي لدى جمهور أوسع لكن ذلك يؤدي إلى ضعف الحوار، وعلى القائمين على المنتديات ومشرفيها تنظيم الحوارات، وقد يجدي حذف بعضها الغير ملتزم بأدب الحوار، دون أن يؤثر ذلك على شفافية الصفحة أو حرية النشر.
وللارتقاء بمستوى المنتديات الثقافية الحالية، يجب أن يتمتع المشرفون بدرجة معينة من الكفاءة أو الخبرة للإشراف الثقافي، وعلى مشرفي المنتديات الثقافية أيضاً الاتسام بروح الموضوعية، وإشاعة روح الفكر الحر، وقبول النقد والنهوض بواقع منتدياتهم نحو الأفضل.
وعلى متابعيها رفع مستوى المنشورات والتعليقات وعدم الاكتفاء بتفاعل الاعجاب أو الرموز الجاهزة بنسخ ولصق، والتزام أدب الحوار، بذلك يساهم الجميع في نشر الثقافة المناسبة للمجتمع بعيداً عن سلبية إساءة استخدام الأسماء المستعارة باسم الحرية الفكرية التي يوفرها المنتدى، ويمكن للمشرفين ضبط المنشورات بإخضاع مشاركات العضو للمراجعة إلى أن تتم الموافقة على أن تُنشر المشاركة في المنتدى.
استطاعت بعض المنتديات استقطاب جمهور جاد ومتميز مهتم بالثقافة، واستقطاب أسماء أدبية مهمة، لهم منشوراتهم المتميزة التي يمكن تثبيت مشاركتهم لإبقائها في أعلى صفحة المنتدى لتأكيد تميزها لأنها تستحق الصدارة، والصدارة مكافأة للتميز ولتحقيق أكبر فائدة مرجوة منها، ولأهمية إشهارها منعاً لضياع الحقوق الفكرية كما يحدث في النشر العشوائي «انسخ والصق» دون إشارة إلى المصدر.
بالمقابل كثير من المنتديات الأدبية ما زالت تنشر الآراء والأفكار التي لا تضيف جديداً للحياة الثقافية في مجتمعنا، وتبرز هنا إشكالية المنتديات لمنح فرصة للمبتدئين ليعرضوا إنتاجهم تشجيعاً لهم، وفي الوقت نفسه الخوف من أن النشر قد يوهمهم أن موادهم المنشورة جيدة، وفي هذه الحالة يمكن الحوار على الخاص للتوجيه وتقديم رؤية نقدية مفيدة.
هل كانت الندوات مقتصرة فقط على الرجال؟ كيف يستقيم حضور المرأة في المنتديات في مجتمع ذكوري، وكثير من الرجال ينشغلون بجمال المرأة ولا يقدرون عقلها وحكمتها وثقافتها؟.
لعبت المرأة العربية المثقفة دوراً هاماً في الثقافة، وإلى حد ما في المنتديات، بالتحضير لها وعقدها وتنظيمها وإثرائها، ورغم ذلك لم ينصف التاريخ حضورها حين كان لها مشاركات إبداعية.
كان النابغة يجلس في القبة التي تضرب بسوق عكاظ، فيأتيه الشعراء يعرضون عليه أشعارهم ليحكم فيها، وممن أنشده الخنساء التي يشير تواجدها أن الجاهلية لم تتجاهل دور المرأة المثقفة في إثراء الأدب والثقافة بصفة عامة.
في العهد الأموي أسست سكينة بنت الحسين مجلساً أدبياً وهو أول مجلس أدبي في التاريخ العربي الإسلامي، وفي الأندلس أشتهر مجلس حفصة الركونية في غرناطة، والشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة.
لاقى صالون مي زيادة نجاحاً عظيماً واجتمع فيه رموز الفكر والأدب والثقافة، وجمع صالون روز اليوسف الكتّاب والمفكرين والأدباء وكان يحضر صالون الأميرة نازلي جميع المفكرين والمصلحين والزعماء وعلى رأسهم الزعيم سعد زغلول، كانت هذه الصالونات مجالس للمثقفين محدودة بعدد المثقفات ممن يجتمعن ويتعارفن ويمارسن حرية التعبير والحوار.
وفي سوريا، في مطلع القرن العشرين، أنشأت مريانا مراش صالوناً أدبياً قبل أن ينشأ صالون مي زيادة في مصر، وأنشأت ماري عجمي صاحبة مجلة العروس صالوناً أدبياً في دمشق عام 1922، أما كوليت خوري فرفضت تسميت لقاءاتها بأدباء وشعراء بالصالون الأدبي لعدم انتظام جلساته.
كانت فكرة إقامة صالون أدبي أو منتدى ثقافي ضرورية وحيوية للنساء المبدعات لكنها تصطدم بعوائق اجتماعية، وفي الساحة الثقافية الفلسطينية تأخرت المثقفات في إقامة صالونات رغم ما تحلت به الشاعرة فدوى طوقان من جرأة أدبية واجتماعية، ورغم أن سلمى الخضراء الجيوسي انخرطت في السجال الذي دار حول التجديد في الشعر العربي ضمن أسماء كبيرة منها أدونيس ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وجبرا إبراهيم جبرا.
في العام 1987 أسست الشاعرة الفلسطينية مريم خليل الصيفي صالونها الأدبي في عمان استطاعت أن تجذب إليه العديد من الأدباء من الأردن والعراق وفلسطين وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر والسعودية.
وفرت الشبكة الإلكترونية منتديات ثقافية افتراضية للمرأة، وأوجدت خيارات عديدة، تستطيع من خلالها التعبير عن فكرها ورؤيتها لمختلف القضايا والأفكار، ومكنتها من إبراز مواهبها وأعمالها الإبداعية، إلى جانب ما تقدمه هذه المنتديات من معرفة وثقافة، فعززت دور المرأة وحاجتها إلى محتوى فكري أدبي يتوافق مع تطلعات المرأة العصرية والمشاركة الثقافية.
كانت الثقافة دائماً في ميدان المعركة للتغيير الاجتماعي والتحرر الوطني، خاضها المثقفون أفراداً وجماعات، وكانت المنتديات الثقافية الفلسطينية كتائب مجندة تحت الطلب وفي جاهزية عالية للمعركة مدججة بأسلحة المعرفة والعلم والتفكير المنطقي والتفاؤل بالمستقبل والايمان بعدالة القضية الوطنية الفلسطينية والثقة بحتمية النصر، حقيقة هذه المعركة أنها صراع بين فكر صهيوني عنصري يستند إلى أساطير وخرافات توراتية، و بين ثقافة وطنية تستند إلى تراث تاريخي أصيل، إن الثقافة تسلح الفعل النضالي و المواقف الصلبة ليس بالبنادق بل بقيم السلوك المقاوم، النضال بالكلمة سلاح قوي في الميدان وفي مواجهة العدو، هذه الكلمات "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" بمعانيها العميقة ترفع المعنويات .
نواجه اليوم ظروفاً استثنائية صعبة، في ظل قطب أوحد تسود فيه هيمنة أمريكية شاملة، أحد جوانبها عولمة ثقافية ممنهجة تقوم وراءها منظومة من مؤسسات مالية ووسائل إعلام وهيئات متخصصة، كما ونواجه اليوم هجمة صهيونية شرسة وحملة تهويد واسعة ومتعاظمة، و نواجه حالات التطبيع العربي مع العدو بكل أشكاله الاقتصادية والسياسية والرياضية ومن بينها وربما أهمها التطبيع الثقافي، حيث يبدو أن بعض المثقفين العرب والفلسطينيين ينشرون فكر الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، والمنتديات ومعها كل وسائل المواجهة الثقافية في العالم العربي مدعوون لنشر الفكر المقاوم، لمحاصرة التطبيع والقضاء على آثاره حيث يتعاظم التهويد مستمداً استمراره وازدياد شراسته من التطبيع العربي والصمت الدولي المريب، محاولاً طمس كل معالم الحضارة العربية في فلسطين، وطمس الشخصية الثقافية للشعب الفلسطيني، بل و نسب كثير من عناصر الثقافة الفلسطينية إلى تراث إسرائيلي مزعوم، إن العدو لا يحاربنا فقط بالسلاح بل له وسائله في التغلغل في العقل العربي، واحتلال الفكر والعقل هي الهزيمة النهائية، الهزيمة الثقافية هي الهزيمة الحقيقية عندما تستسلم الإرادة وينسلخ الانسان عن ثقافته الوطنية ويندمج كلياً في نموذج ثقافي غربي، عندما تنهار منظومة ثقافية أو تتفكك يفقد المجتمع روحه، ينجح الغزو الثقافي في بث عناصر ثقافته الأجنبية، ويخضع المجتمع لسيطرته، ويقبل الحلول التي تعرضها سياساته الاستعمارية. 
وهنا نقف أمام المشهد الثقافي الفلسطيني ودور المثقفين والأدباء والمبدعين في المجابهة الثقافية حيث المثقف الملتزم يمتاز بفهم الواقع، واستخلاص العبر والدروس، وقدرته على نقلها وتعميمها على جمهور أوسع، دور نوعي ووازن تؤكده الحرب التي تشنها إسرائيل على الثقافة الفلسطينية وتدمير مؤسساتها مثل قصف مركز تامر المسحال في غزة، واغتيال للمثقفين الفلسطينيين (غسان كنفاني ،ووائل زعيتر ، ومحمود الهمشري ، وحنا مقبل ، و عز الدين القلق ، وكمال ناصر ، وماجد أبو شرار ، وناجي العلي ) وغيرهم....
الثقافة ميدان هام من ميادين الصراع مع المشروع الصهيوني، ودحض الفكر العنصري، والرد على تزوير التاريخ، وتشويه الحقائق، وإنكار وجود شعب، وفق مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، بمقابل تسويق إسرائيلي لليهود كشعب ذي ثقافة واحدة ومجتمع موحد حضاري إنساني متقدم يسوده القانون والديمقراطية وحقوق الانسان.
 للمثقف الفلسطيني دور في فضح عنصرية فكرهم وممارستهم، وهي بالأساس عنصرية موجهة نحو الفلسطينيين في الظرف الراهن من الصراع المشتعل، لكن هذا لا يخفي كلياً عنصريتهم اتجاه بعضهم البعض، فانتمائهم ليس فقط لثقافات بلدان مختلفة قدموا منها إلى فلسطين لا حضارة ولا تاريخ مشترك، بل وإلى أجناس بشرية مختلفة.
من مواجهة السردية الصهيونية يأتي دور المثقف الفلسطيني، كما يأتي من تداعيات النكبة وأثارها على الشعب الفلسطيني وعلى هويته، وباعتبار أن آثارها ما زالت قائمة بالرغم من مرور 75 عاماً على النكبة وقيام ما يسمى إسرائيل، فالمثقف الفلسطيني أمامه دور مهم عليه أن يضطلع به، في نشر ثقافة العودة والتمسك بالحقوق التي تتطلب زرع الأمل وروح المقاومة، الدعوة للتغيير وبناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية قادرة على صنع الفارق في الصراع مع العدو.
يتّسم المشهد الثقافيّ الفلسطيني، بالتعدّديّة، والتنوّع، تنوع ينصهر في بوتقة ثقافة وطنية تتكامل في غنى حضاري، السمات الفرعية تندمج في نسق منسجم، وكل جزء ثقافي يتناغم مع الأجزاء الأخرى.
دور المثقف أن يبرز هذا الترابط في النسيج الاجتماعي في الوطن والشتات وتوطيد الهوية الثقافية الفلسطينية والتفاعل الثقافي المشترك فلسطينياً و مع البلدان والهيئات العربية والدولية وخاصة في مقاومة التطبيع على المستوى الشعبي، واضطلاع المنتديات بدورها في هذا المجال، ليس بمعزل عن المشهد الثقافي العام لتنشط المنتديات وفق رؤية استراتيجية فلسطينية، لا يضيرها تنوّع  وتعدد المنتديات، للواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في أماكن متفرقة في الوطن والشتات، أثر على التنوع الثقافي الفلسطيني، فتحت الاحتلال لا بد من نشر ثقافة مقاومة حتى تغدو نهجاً ونمط حياة. وفي الشتات لا بد من نشر ثقافة حق العودة حتى تغدو ثقافة راسخة.
تتعدد المنتديات كانعكاس لأحزاب ومنظمات العمل الوطني ومؤسسات المجتمع المدني، وكنتاج لازدياد أعداد الأكاديميّين والمبدعين، ولثورة الاتصالات التي أتاحت فرص التواصل عبر مواقع وصفحات على الشابكة والوصول إلى المعلومات ونشرها.
يتنوع الإنتاج الثقافي الإبداعي ويتزايد في كل الأشكال: المسرح، والرقص، والسينما، الرسم والتصوير الفوتوغرافيّ، والتطريز، والعمارة، والفولكلور، والفنون البصريّة من سينما وتلفاز، ومجال الأدب، والشعر، والرواية، والأغنية، والموسيقى .... هذه كلها هي مواضيع مطروحة أمام المنتديات للتداول والنقاش.
الأسئلة التي تبرز في هذه الظروف: ما هي ملامح المشهد الثقافي الفلسطيني الحالي؟. وما هي التغيرات التي طرأت عليه مؤخراً ؟ وما هي التحديات التي تواجه الإنتاج الثقافي؟ وما هو دور المثقف والمؤسسات الثقافية الفلسطينية في هذه المرحلة؟ وما هي رؤية المشروع الثقافي الفلسطيني المحتملة خلال الوضع الراهن؟
وإذا اتفقنا أننا أمام سياق سياسي فلسطيني مأزوم بالانقسام، فلا بد من الإجابة على السؤال: هل الحالة الثقافية الفلسطينية مأزومة؟. الفلسطينيون متحدون ميدانياً منقسمون سياسياً، فهل هم متحدون في إطار ثقافي وطني؟. هل الثقافة تصنع مواقف وطنيّة جامعة؟.
تعددت المنتديات الثقافية بتنوع المنظمات السياسية في الساحة الفلسطينية، التي اهتمت للشأن الثقافي، لأن المنتديات الثقافية الفلسطينية منابر لتعزيز القيم الوطنية ونشر ثقافة الحوار، ومناقشة وطرح المواضيع المستجدة على الساحة الفلسطينية بغض النظر عن الجهة التي أسست هذا المنتدى أو ذاك، الكل يشترك بالهم الثقافي الفلسطيني الذي بدوره يرتبط بالهم الوطني، الثقافة نصوص ومواضيع وأحاديث في القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية، و المنظمات والأحزاب السياسية لا يبرر وجودها فقط العمل السياسي لذلك تعمل على إنشاء منتديات ثقافية، فالعلاقة متينة بين الثقافي والسياسي، مما يجعل مسؤولية صياغة مشروع وطنيّ ثقافيّ جامع يقع على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية متمثلة في دائرة الثقافة والإعلام، ومن مهامها الاهتمام بالقضايا الثقافية المتعلقة بفلسطين وشعبها وقضيتها، من أدب وغناء، ومسرح وآثار وتراث شعبي.
دائرة الثقافة والاعلام في منظمة التحرير الفلسطينية معنية بتقديم منهجيّة واستراتيجيّة ثقافية تساهم في دعم الإنتاج الإبداعيّ الوطنيّ، وتساهم في دعم المؤسسات الثقافية ومنها المنتديات الناشطة، وتعزيز الدافع الوطني لخدمة القضية العادلة للشعب الفلسطيني من خلال الثقافة ومنتدياتها، دعم لا يؤثر على اعتبار المنتدى الثقافي ساحة حوار محايدة، وأنه لا يمثل ساحة للتنافس الفصائلي، يتيح المجال لمختلف التوجهات لإبداء رؤيتها ووضعها على محك المناقشة، لإيمان العمل الثقافي بأن الحوار ينتج عنه بلورة الرؤى وإنضاجها، فطرح أي موضوع للحوار يجب ألا يؤدي إلى الاعتقاد أن المنتدى يؤيد الفكرة، وما طرحها للنقاش إلا لينشرها تمهيداً لمزيد من قبولها، إن طرح موضوع للمناقشة ما هو إلا لبلورة الآراء والمبررات واستخلاص النتائج بطريقة تحترم وجهات النظر.
يبدو أن تأسيس المنتديات انتقل من الأفراد إلى المنظمات، حيث حرصت المنظمات على تأسيس منتديات خاصة بمسميات مختلفة وهدف واحد، يتم فيها تداول الكثير من مواضيع الشأن العام والقضايا الحيوية التي تهم الوطن والشعب. ويرى المشرفون على هذه المنتديات أنها وسيلة للتثقيف وتعميق عدد من القضايا المطروحة، في حوار مفتوح بين روادها وضيوفها من المسؤولين وأصحاب الفكر والرأي لاستشفاف آرائهم.
تسعى المنظمات الفلسطينية لتحويل المنتدى الثقافي إلى نشاط مؤسسي منظم تديره هيئة بخطة عمل تطرح للنقاش برامج متنوعة مفيدة تطور النشاط الثقافي، المنتديات الثقافية الأهلية أتت من مبادرات فردية وساهمت في انتعاش المنتديات الثقافية واستفادت من تزايد أعداد المهتمين بالشأن الثقافي ومن الانفتاح على المجتمعات والثقافات الأخر. وبات الكثير من المنتديات الثقافية مثار جدل بين من يدافع عن تركها مجالاً مفتوحاً للرأي والرأي الآخر وبين من يرفضها، يرى البعض أن نشاط المنتديات يتراجع في حالة الإحباط واليأس، وفي حالة ركود العمل السياسي والنضالي، وفي حالة الفقر والبحث عن لقمة العيش حيث ينشغل الناس بهموم الحياة المعيشية، في كل الأحوال الثقافة علاج لكل هذه الأمراض، ورافعة للمعنويات، ملجأ يخفض الهموم، الثقافة تزود بحلول لمشكلات الحياة، وإلا فقدت الثقافة معناها.
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي تأسس منتديات ثقافية فلسطينية، في مرحلة من الإنتاج الثقافي المتميز بمقابل ضعف التفاعل الجماهيري مع النشاطات الثقافية، حالة من التناقض بين الركود الثقافي على المستوى الجماهيري وبين الحالات الإبداعية للنخبة، يرجعها البعض إلى تأثر الوضع الثقافي لاسيما في سوريا ولبنان بالأوضاع السياسية التي أدت في العام 1982 لخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني والخلافات والانشقاقات والتحالفات والاصطفاف الفصائلي، وتداعياتها على ردات الفعل الرافضة للانقسام، ولا شك أن عدد من المثقفين الفلسطينيين انجذب إلى هذا الطرف أو ذاك حيث برزت ثلاثة محاور تحالفية تحمل برامج ووجهات نظر سياسية متباينة، إنما الثقافة بما أنها ابداع وليس اصطفاف لم تتأثر بهذا التمحور، وكانت دائماً تعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني، فليس من المعقول أن تقارع الثقافة الفلسطينية نفسها وتتجاهل مقارعة المحتل، حتى لو كان أحد أعمدة الثقافة الفلسطينية صدامياً كناجي العلي لم تعجبه قصيدة محمود درويش بيروت خيمتنا الأخيرة,
في هذه الظروف الثقافية ومع نهاية العام 1987، اندلعت انتفاضة الحجارة مما أوجد أحداثاً ملهمة، وتجليات جديدة، وروح ثقافية مبدعة، ودوافع وحوافز للإنتاج الأدبي والشعري، نشط المنتدى، وشهد إقبالاً جيداً ولا سيما من الطلبة الجامعيين، وشهد مشاركات هامة من المبدعين، ومشاركات شبابية في محاولات جادة للكتابة الإبداعية من قصائد وخواطر تستخدم ألفاظ أوجدتها الانتفاضة، لفظ الانتفاضة ذاتها، المقاومة، والحجر، الأرض، وأطفال الحجارة، محمد الدرة، ايمان حجو، وغير ذلك...
اعتقد عدد من المثقفين أن إقامة مركز ثقافي في المخيم يخلق حراكاً ثقافياً نشطاً، لكن بعد إكمال بناء المركز وتأسيس المركز الثقافي العربي في مخيم اليرموك عام 2004. وحسب مقال الحراك الثقافي في مخيم اليرموك:
«نشأت حركة ثقافية نشطه شارك فيها العديد من الأدباء والكتّاب والمثقفين الذين تناولوا مواضيع أدبية وثقافية وتوعوية مختلفة، لكن نسبة الحضور فيها كانت ضعيفة جداً ،مما أثار وقتها مخاوف لدى المثقف الفلسطيني بأنه لم يستطع أن يغير شيئاً من حالة السكون والركود الثقافي المهيمنة على الساحة في ذاك الوقت، واعتبروا أن المثقف لم يستطع الوصول إلى المواطن والشاب والأسرة وهذه معضلة حقيقية نشأت في المخيم آنذاك، خاصة أن الناس في تلك الفترة كانت تميل للاستماع إلى الفرق التراثية التي تتسم بالطبل والزمر، في حين أنها تمل من حضور المحاضرات والنشاطات الثقافية».
نتذكر هنا زيارة محمود درويش لمدينة دمشق العام 1994في أعقاب اتفاقية أوسلو، حضر الأمسية الشعرية حشد جماهيري لم تتسع له مدينة الفيحاء الرياضية، هذا يدل أن الثقافة بما هي الوجه الإيجابي للوجدان الانساني تواجه عوامل الإحباط الاجتماعية والسياسية لا الفقر يحاصرها ولا الهزيمة تغلبها.
 شهدت مرحلة أواسط السبعينات وحتى أوائل التسعينات من القرن الماضي ظهور فرق للتراث الشعبي الفلسطيني في مجال الأغنية الفولكلورية والوطنية ومجال الدبكة والرقص الشعبي، كان ذلك إضافة هامة وجديدة للثقافة وللحراك الثقافي، وكانت آخر حفلة قدمتها فرقة بيسان للفنون الشعبية والتراثية الفلسطينية في شهر شباط العام 2011 على خشبة مسرح المركز الثقافي العربي في مخيم اليرموك بدمشق، لمناسبة الذكرى الثانية والأربعين لانطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
وغنت فرقة العاشقين للوطن والهوية وللعودة؛ وقد تأسست عام 1977 في دمشق؛ وبذور نشأة فرقة أغاني العاشقين كانت قد انطلقت من مخيم اليرموك، وبالتحديد حارة المغاربة على يد آل هباش حيث قرّرت العائلة أن تحكي قصة اللجوء والبعد عن الوطن من خلال الأغنية.
نخلص من ذلك أن النشاط الثقافي الفلسطيني في سوريا ودول الشتات عموماً يرتبط بثقافة العودة وتعريف الأجيال الفلسطينية بقراهم ومدنهم التي هجروا منها عام النكبة ونشر روح التمسك بالأرض ورفض ما يسمى حق التعويض أو الوطن البديل، ومقاومة كل أشكال الانتقاص من حق العودة. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق