طلال سلمان
نكتب عنكم بالحبر، فتية فلسطين وفتياتها، وتكتبون تاريخنا الجديد
بدمائكم.
نكتب عن فلسطين بصيغة الماضي، مسلّمين بأن إسرائيل، العدو، هي الحاضر،
بينما أنتم تكتبون مستقبلنا بأهداب العيون التي يحاول إطفاءها رصاص الوافدين من
خارج الأرض وتاريخ من عمرها.
نتعب منكم من قضيتكم المقدسة التي كلما نجح العدو، برعاية دولية شبه
مطلقة انضم إليها حكام العرب بالتحايل واعتماداً على الزمن وفعله في إنهاك الذاكرة
المثقلة بالنكسات والهزائم، أعدتم فرضها على يومياتنا باندفاع أجيالكم الجديدة
التي تولّد فتياناً وفتيات متجاوزين الطفولة التي هي ترف لا تملكون أن تعيشوه.
نحاسبكم بقسوة الجاهل بظروفكم وأنتم تحاولون اختراق المستحيل،
وتحاسبوننا بلطف عن تقصير أنظمتنا والحكومات التي تحاول اغتيال ذاكرتنا الجماعية
ليسقط منها تاريخنا ومسؤوليتنا عن حماية المقدسة الأرض.
تطاردنا صور تصديكم بالحجارة في أيديكم للدبابات وبنادق وحوش
المستوطنين المصفحين بالحديد والنار… ونخجل من صور الاحتفالات الباذخة في العواصم
ذات الأبراج بأعياد الاستقلال وإجلاء المستعمر بينما إرادتنا مرتهنة واقتصادنا
تابع وسياساتنا تقررها العواصم الكبرى بعنوان واشنطن التي تكاد تل أبيب أن تكون
ضاحية لها.
تنصحنا عواصم الغرب بأن نهجر حماستنا فنعترف بالواقع الذي لا سبيل إلى
تغييره، مقرراً أن التاريخ لا يرجع إلى الخلف… بينما العدو الإسرائيلي يقاتل حقائق
الجغرافيا والتاريخ الإنساني بالأسطورة، ويفرض بالسلاح وقائع جديدة على الأرض
لتصير له بينما هي من لحمنا، ترابها من عظام أجدادنا والآباء وأنفاسنا هي الهواء،
بها تكون حياتنا ومن دونها نتحول إلى هباء ينثره الريح في فضاء الله الواسع.
* * *
* * *
بيتاً بيتاً، مزرعة مزرعة، قرية قرية، مدينة مدينة، تنزل فلسطين،
بدمها إلى ميدان المواجهة مع المحتل الذي صار “الزمن العربي” بين أسلحته الفتاكة.
ليس لفلسطين إلا أهلها، شيبا وشبانا، نساء ورجالاً، صبايا وفتيانا،
ليس لفلسطين إلا أرضها، حجارتها المباركة في مواجهة الرصاص والقذائف.
ليس العرب على السمع. كلهم غارق في همومه الثقيلة. كلهم يعيش يومه في
قلب الخوف على غده. لأول مرة، على الأرجح، لا يملك العربي صورة تقديرية، أو حتى
متخيلة عن مستقبله. إنه غارق في أوحال حاضره، في الخيبة التي باتت ملازمة له كظله.
غادر العرب عروبتهم فإذا هم في التيه، لا يميزون بين الصديق والعدو،
يهربون من مسؤوليتهم عن حاضرهم فيضيع منهم مستقبلهم.
انشغلت كل دولة من دولهم بهمومها فغرق الجميع في وحول العجز عن صياغة
الحاضر، فضلاً عن تأمين المستقبل.
مصر مشغولة بالتركة الثقيلة للأنظمة التي أخرجتها من هويتها ومن دورها
الطبيعي، وأغرقتها في دوامة العجز الاقتصادي والتردي العلمي والهوان اجتماعيا،
وافتقاد القيمة سياسياً.. ثم إن الإرهاب بالشعار الديني ينهك دولتها أمنياً، ويكاد
يخرجها من مسارها نحو غدها الأفضل، خصوصاً وان المواجهة الحاسمة مع العصابات
المتلفعة بأقنعة الدعاة إلى جاهلية معاصرة بعناوين إسلامية خادعة حتى القتل تسد
الطريق إلى المستقبل الأفضل. ثم إن مطاردة العصابات المسلحة بالمدافع والعبوات
الناسفة المحشوة بشعارات إسلامية مفبركة على عجل تحتاج إلى إذن إسرائيلي… فإن هي
طلبته فقدت كرامتها وعزة شعبها وجدارتها بأن تصنع المستقبل الأفضل.
لقد استولدت المنظمات المسلحة بالشعار الديني إسلاماً مزوراً ليس له
علاقة بالإسلام الحق، حتى لو ملأت الأفق ووسائل التواصل الاجتماعي بشعاراتها
وأعلامها السوداء المدموغة بختم الخلافة المزوّرة. والشعار الإسلامي جوال يتنقل به
دعاته بين بسطاء الناس لمخادعتهم. يذهبون إليهم في المساجد ليبثوا التواكل ودعوات
الانقسام بين المؤمنين، إسلامهم من خارج الإسلام، وقتالهم من أجل بعث الخلافة
هرطقة مكشوفة…
كيف كيف إسلام بلا فلسطين؟!
تماما كما أن لا مسيحية بلا فلسطين.
وهؤلاء الدعاة الذين يبثون الفتنة بين المسلمين انما يغتالون فلسطين
في كل كلمة ينطقون بها. وكيف لهم أن يتذكروا فلسطين وهم مغلقو العقول والقلوب
والعيون؟
لقد أخذهم عمى القلب والعين إلى شن حملات إبادة وتهجير على الأقليات
القومية والدينية التي ساهمت في تأسيس هذه البلاد، والتي حماها الإسلام يوم ساد في
دنيانا العربية لأنهم أهل الأرض مثل المسلمين وقبلهم.
ما الفرق بين “داعش” وإسرائيل في بداية مشروعها الاستيطاني الذي قام
على تخيير أهل فلسطين بين الموت قتلاً مع مصادرة البيوت والبيارات حتى آخر شجرة
برتقال أو زيتون، وبين الخروج من أرضهم للنجاة بأنفسهم من مذابح عصابات الشتيرن
والهاغاناه… مع فارق لافت: ان القتلة الإسرائيليين لم يغطوا وجوههم، وإن تشابه
السفاحون جميعاً بالتباهي بجرائمهم نتيجة استقوائهم على “الأهالي” الطيبين والعزّل
والخائفين على أطفالهم وبيوتهم التي كانت بيوتهم على مر الأزمان.
ثم إن تنظيم “داعش” يتصرف كأنه حليف للعدو الإسرائيلي. وهو كذلك
موضوعياً. إنهم جميعاً أعداء هذه الأرض وأهلها. ثم إنهم جميعاً يدّعون أنهم يحققون
كلمة الله، ويعيدون تصحيح التاريخ، والتمكين للدين في الأرض المقدسة التي خرج
أهلها من الدين وعليه، أو أنهم لم يكونوا يوماً من المؤمنين فحق عليهم العقاب.
..
.. وأما سوريا التي كانت فلسطين دائماً في قلبها وفي وجدانها من قبل
النكبة، ثم في مواجهة الحروب التي شنها العدو الإسرائيلي، فغارقة الآن في دماء
أهلها نتيجة الحرب فيها وعليها. لقد فقدت قدراتها العسكرية ووحدة شعبها… بل إن هذا
الشعب الذي بذل دماءه في نصرة أي قطر وكل قطر عربي لا يجد مكاناً لأطفاله في البلد
الذي تأكله النيران، وهكذا يدفع ثمن بيته وأرضه أجراً لرحلة غير معروفة المقصد في
زورق بلا قبطان إلى أي مكان على اليابسة.
ليس بين العرب من هو قادر على نجدتكم… حتى بالكلام،
فدولهم أضعف من أن تواجه عدوّها حتى وهي تتبدى في ذروة القوة عبر
تصديها لمطالب شعبها في الخبز مقابل بذل عرق الجبين في العمل.
إن دول القلب مشغولة عنكم بهمومها الثقيلة والتي يتبدى أنها ستستغرق
سنوات طويلة قد تذهب بوحدتها، بل بهويتها القومية ذاتها.
ودول الأطراف غربت وتغربت وهربت من عروبتها التي باتت عبئاً ثقيلاً
عليها.
إن أشقاءكم العرب مشغولون بقتال بعضهم بعضا، وليس لديهم فائض من الوقت
يبذلونه من أجل الانتباه لما تفعله دولة العدو بكم، بل وبما تبقّى من فلسطين، مما
يهددهم هم في دولهم المتهالكة.
ومن غرائب أقدارنا أن الدول التي قاتلت من أجل فلسطين قد أضاعت طريقها
إلى غدها، وأثقلتها همومها فباتت عاجزة عن النجدة… إذا ما أرادت. أما المملكة
ومعها إمارات الخليج المذهبة فقد خرجت من العروبة وعليها.
إنها تشتري أحدث الطائرات وأضخم المدمرات وأقوى الغواصات وأعظم
المدافع فتكا، ولكن ليس من أجل فلسطين وتحريرها بل من أجل احتلال اليمن وصولاً إلى
باب المندب.
إنهم يعرضون على مدار الساعة طائراتهم الحربية الجباة، التي لا نعرف
على وجه الدقة من يقودها، وهي تنقضّ على بيوت الفقراء في اليمن فتدمرها على
رؤوسهم… ويلتقي مسؤولوها مع قياديين إسرائيليين ما زالت دماء الشهداء الفلسطينيين
على أياديهم بلا خجل.
إن لدى السعودية وأقطار الخليج الآن، من الأسلحة والمعدات الحربية ما
يفوق ترسانة إسرائيل العسكرية (ما عدا القنبلة الذرية التي تروى الأساطير عن
إنتاجها في مفاعل ديمونا).
لكنه الحول السياسي هو الذي يأخذ المملكة المذهبة ومن معها من أقطار
الخليج إلى ميدان آخر ليقاتلوا فيدمروا البلد الشقيق الذي ساهم أهله في بناء
“دولهم”. بدل أن تتوجه بعدّتها الحربية نحو العدو القومي (والديني).
إنه زمن التيه العربي. لا وقت فيه للاهتمام بفلسطين. ولا قدرة فيه على
أحلام التحرير بمواجهة العدو الإسرائيلي نصرة للشعب الفلسطيني الذي ساهم شبابه
جيلا بعد جيل في بناء دولهم المذهّبة.
لقد كان الشباب المصري المؤهل، ومعه الشباب الفلسطيني المؤهل، هم
الرواد في بناء دول شبه الجزيرة العربية، السعودية ومعها إمارات الخليج بدءاً
بالكويت مروراً بالإمارات وصولاً إلى قطر والبحرين.
لكن ذلك كان في الماضي الذي يجتهد ملوك الذهب الأسود في نسيانه… وهم
يختصرون الآن فلسطين في “السلطة” عبر بعض رجالها. يستقبلونهم، بين حين وآخر،
ويقدمون لهم بعض “الشرهات” بديلاً من أداء واجبهم القومي في دعم قدراتهم لمواجهة
عدوهم الإسرائيلي، وهو عدوهم أيضاً ولو أنكروا هذه الحقيقة.
على أن فلسطين كانت وستبقى أقوى من عدوها الإسرائيلي، وأقوى من الشقيق
الهارب منها لعجزه أو المتخلي عنها حتى لا يخسر “أصدقاءه الكبار” في واشنطن ولندن
وباريس وبون… وصولاً إلى موسكو!
إن فلسطين بأهلها ولأهلها. وكلما غاب جيل شب جيل آخر ليكمل الجهاد من أجل
تحرير الأرض المقدسة واستعادتها.
لن تُهزم فلسطين ما دام كل جيل جديد من أجيالها يندفع بزخم أقوى
لحماية حقه في أرضه بثباته فيها، مدركاً أن ذلك يعني أن عليه أن يقاتل على مدار
الساعة.
والفلسطيني قابل بهذا القدر، ومن داخله يقاتل لحفظ حقه في وطنه… برغم
التخلي العربي، وتعب القيادة الفلسطينية في قلب الانشقاقات
نشرت في “السفير” (ملحق فلسطين) 2015/10/14
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق