مستقبل البشرية، تأليه المتوحش


 نصري الصايغ
أي مستقبل للبشرية؟
الجواب الحاسم، بناء على ما نحن عليه، هو تأليه التوحش.
الإنسانية مشروع مستحيل. من المستحسن الإقلاع عن أفيون الأمل. عبث البحث عن خلاص، عن حرية، عن عدالة، عن مساواة… عبث أن يتخلى غيلان الرأسمالية، عن مصادرة الراهن واحتكار المستقبل. عبث أن نكون بشراً. سنكون، كما كانت البشرية دائماً، حرب مطاردة للأمل والسلام والحياة. المسار الأممي، سيفرض على الشعوب عقيدة العبودية الناعمة، والإيمان بفضيلة الإستسلام، والتسليم بعقيدة الاسواق، وتنمية وتضخيم الاستهلاك؟ ليس على الناس أن يفكروا! الافكار جاهزة وساحرة وخرافية و…انتقائية.
وليس على الناس أن تجترح. التقليد مريح. القناعة كنز لا يفنى. الخلاص يكون بالرضوخ والقبول، والإلتزام بعقيدة ذئاب الأسواق، وشياطين الديمقراطية.
هل هذه مبالغة؟ لا. اللغة قاصرة عن رسم صورة حقيقية وموضوعية وشاملة، لما آلت إليه البشرية، بعد آلام القرون، من العنف والتوحش والقتل والنزف. البشرية ليست بريئة من دمها.
الأقوياء، في التاريخ، وبنسبة 99,99 بالمئة، كانوا من سلالة قايين. عظمتهم ممهورة بحروب، ما زالت أسماؤها تترد كلما تذكرنا الحقب البشرية الدامية والمدمرة. العنف معولم، منذ ما قبل التاريخ الجلي. لنكن واقعيين. وصية لا تقتل الإلهية، غير قابلة للتحقيق.
لا غرابة، في أن يكون التوحش الراهن، مقترناً بأفكار وقيم ومثل مهترئة وكاذبة، بل وفاسقة، ومتناقضة أيضاً. هناك حروب راهنة، دفاعاً عن السلام، أو لإقامة سلام الأقوياء وسحق الضعفاء، وتلقين الشعوب دروساً دموية… هل رأيتم ذلك في آخر حرب، حتى الآن، في أوكرانيا: سلامة روسيا تقضي أن تحارب أوكرانيا، وسلامة العالم، تقضي بأن تقود حرباً عالمية، إعلامية وسياسية وعسكرية، لإعادة روسيا إلى وضع دوني؟ السلام كذبة وخرافة.
لن أفتح صفحات تاريخ الحروب أبداً. إنما، من الواجب إجراء مسح بصري على الخريطة العربية والإقليمية: حروب مكررة في اليمن. يختلط الدين والمذهب بالنفط والموقع و… القتلى والدمار والحطام والأحزان الأوبئة، ليست ذات بال.. الدم أرخص من النفط. أدنى من السلطة… حرب الفجور الإقليمية. والحبل على الجرار. وهذه ليست المرة الأولى. نتذكر حرب العراق على إيران، في زمن صدام الأميركي: قتلى. مجاعات. مجازر. تعذيب. تسليم…
الدول “الديمقراطية” ذئبية. كانت تقود المعارك من دون أن تلوث أياديها…ثم، انقلب الميدان. من دعم صدام، عادوا، وذبحوا العراق برمته. صار بلداً مهلهلاً. وشعبه غاب عنده الوطن. إنه يقيم في ملاجئ المذاهب والطوائف. نفطه، على قارعة النهب الدولي والمحلي. الغرب يحلب الدول الدسمة.
السودان ليس بخير. إنه ينزف. انقسم منذ سنوات. يتعثر وعليه أن يداوم على ذلك. لا يهم كم يجوعون وكم يموتون وكم يمرضون. المهم أن يكون السودان في قافلة الدول الخاضعة والمشرعة على الحرام الدولي.
ماذا عن سوريا؟ احتلالات متفاوتة. تطرف وأحقاد. الغرب يريد سوريا قبيلة سياسية، في سياق القبائل الدولية. شعبها جائع. مهجر. يعاني. كل هذا غير مهم. المطلوب أن تركع سوريا، وتنحني وتطيع. وإلا فلتمت ببطء. بكلفة عذاب وتهجير. بحيث يكون كل أفق أمامها، نفقاً بلا ضوء.
أما فلسطين، فخلاصتها الدولية: إسرائيلسطين. إذاً، هذا العالم لا يمكن إصلاحه.
لبنان؟ لا ضرورة كي نحكم عليه. إننا نعرفه بالتمام والكمال. هو كذلك، يستقوي على نفسه، ويتطلع إلى أدوار إقليمية ودولية، وهو بقامة طوائف ومذاهب. وهو راهناً، لعبة تعاقب حتى ترضخ. “الشعب الآمن هو الشعب الراضخ”. لبنان راهناً راكع على جبهته، ويظن أنه سيحيا إذا انتخب غداً أو بعده، رئيساً للجمهورية. أبداً. كل هذا تفكير عبيط. لبنان يقوم بإلغاء نفسه. مؤمن بالعجز. يعوض عن ذلك بادعاءات خنفشارية: السيادة والاستقلال نموذجاً.
باختصار لا خير ولا حق ولا جمال ولا عدالة ولا… لكل شيء أخلاقي.
اركعي أيتها الشعوب. تناولي قربانة هزيلة، لقاء خضوع لغرب لا يؤمن إلا بالدين الرأسمالي. الأديان معلقة بالسلطة. المال أفضل من الإيمان.
من أين ولماذا كل هذا؟
حالة اشفاق على الضعفاء. والضعفاء والفقراء، لا راحة لهم بموتهم. كتب موريس مادو: “في قلبي العاري احساس دائم بالغربة عن العالم وطقوسه. إنه عالم البورجوازية حيث أخلاقيات الصرّاف، المرعبة. عالم الغيلان الجائع إلى الماديات، المفتون بنفسه، غير المدرك أنه داخل الإنهيار.العالم الذي نعرف بنبوءة منفردة، أنه سائر نحو التأمرك، منذور للحيوانية”. هذا نص أرهص بهذه النهايات المؤلمة، في العام 1955. منذ ذاك الزمن، والبشرية تشرع، وتسابق، وتخف، وتمهد، لأهم وأبشع تجارة: ” عبودية الخراب التام”.
لذا الكرة الأرضية مريضة، الأضواء الساطعة اللمّاعة، تخفي العتمة البشرية، وتنعم بفضائل ومردودات الفوضى.
هل ترون ذلك؟ غيرنا رأى ذلك من قبل. تغذى بأفكار نبيلة ومارس أفعالاً قاتلة. لا تقل لي بماذا تفكر وكيف. قل لي ماذا ستفعل؟ هل ستكون في قافلة النهابين، أم ضحية كالمنهوبين. إن المستقبل لا يعود إلى الوراء. إنه يتجدد، وللأسف، أن تقدمه حتى الآن: هو وفق فلسفة الاصطفاء.
الأرض وشعوبها ليست على ما يرام بالمرة. الهمجية والبربرية متلازمتان. التوحش الحيواني قاهر جداً. توحش انفرادي. الرأسمال والتسلط، توحش أبادي. تذكروا ناكازاكي. تذكروا توحش الغرب الأنيق، عندما احتل واستعمر وأباد شعوباً في أفريقيا وآسيا.
الحبل على الجرار. ولا حساب إلا للمجرمين الصغار.
إن الخراب الراهن، وهو متصل بحبل الصرة، بسلطة المال وطغيان الربح بأي وسيلة كانت، يشير إلى أن ما اعتقدناه سلاماً وطمأنينة ومساواة وإنسانية، لم يكن سوى خرقة سوداء، تُسَدّ بها، نوافذ مفتوحة على الأمل.
تبين لنا، بعد آلاف السنوات، أن الأفكار النيرة، مرذولة. وأن الأديان النقية تم توظيفها في مجالات العنف المتبادل… أفكارنا الماضية ميتة. معتقداتنا كانت وما زالت عفنة. توقعاتنا لم تر النور. كنا نبحث عن مستقبل، ككل الشعوب. الرأسمالية استحوذت على الأفكار والافعال والوسائل وحولت الإنسان الرافض إلى كائن شيطاني، يلزم مطاردته.
وعليه، العالم منقسم ومصنّف، واقعياً وسياسياً واقتصادياً وأخلاقياً.
كل من يناضل ضد طغيان الرأسمالية المتوحش، هو شيطاني ومتخلف. يتم إلباسه كل الرذائل. تُنسب إليه كل الفظائع. تتهم عبقريته بالشر. يوقع في مرتبة أسفل السافلين. وعليه، يجب أن يحظر ويحاصر ويعمل على إسقاطه.
التاريخ الراهن، شاهد حي على اغتيال شعوب أو القبض عليها وسوقها بالاصفاد خارج الاجتماع الصحي والسليم. ولعل أغرب ما جاء على لسان رجل أفريقي. “أنا هنا في بلدي. إنني أتحطم. وأنت، إذا كنت لم تصب بعد، فأنت ميت يسير على قدميه”… هل تعرفون عدد الدول التي تعامل على أنها تابوت وشعبها ميت. لا قيمة أبداً لمعاناة الشعوب المنهوبة والمهلهلة. الكاميرات عمياء. الشاشات أغمضت عيونها. لم تعد تحقق في أي حدث فجائعي. إنها مشغولة فقط، بتنفيذ صاحب الأمرة. الآمر الناهي في الأخبار الدولية. الرأسمال العالمي هو الناطق الأول والمطلوب تصديقه. هذا سهل، والمال صاحب أمرة. لم يعد الإعلام حراً. إنه موظف لائق مضاد للإنسانية. آخر ما يكتبه الأفارقة هذه الأيام: “أنت تتحطم، إذاً أنت موجود”. نعم. الرأسمالية حوّلت الإنسان إلى حطام. والإنسان بهذه الوضعية، هو موجود.
الرأسمالية، هي الدين الحقيقي والواقعي. دين له كهنته وشياطينه ومؤسساته وعقاراته وأوطانه. الراسمالية، دين عابر للآلهة والقارات.
برنامجه غزو الأرض، ثم الفضاء. الثمن ليس مهماً. تجوع المليارات البشرية. هذا ليس هم الرأسمالية. المهم، أن تبقى حالة الجشع مستدامة. الرأسمالية، لا تؤمن بالأخلاق. إلهها الربح. ملائكتها السماسرة. هياكل عبادتها، مؤسسات مرتبة، نظيفة، شفافة، و…معتمة. صناديقها أرقام مليارية. والاغرب، أنها تدعي الحفاظ على السلام. والسلام عندها يتحقق بمزيد من الحروب. الأهم أن تبقى قبضتها ماهرة في بلوغ النهب المستدام. مقام المقدس الرأسمالي. لا مساس أبداً بالتجارة العالمية. فلتسقط الحدود. فلتصفر الدول. ليكن العالم مفتوحاً على “التبادل”، إنما من جهة واحدة. تبادل ينفي العدالة. الرأسمالية والعدالة ضدان. هي والاخلاق عدوان. الراسمالية بلا قيم. هي تريد حريتها فقط. وليقم الآخرون في صفوف المستهلكين.
مايثير التساؤل والاستهجان، هو انتقال العلم من الاستقلال الى التبعية. الرأسمالية انقضت على العلوم، وسخرتها لأرباحها. العلم، الذي كان يؤمل منه أن يكون خيراً للبشرية، صار خادماً منتشراً للرأسمال. التاريخ يبرهن لنا، أن خلف كل تشكل علمي وتقدم اجتماعي واكتشاف فكري، وتنام اقتصادي، تختبئ أيديولوجيا المنتصر. ولا منتصر يضاهي انتصار الرأسمال. وعليه، الرأسمالية تتحكم بالعالم. وداعاً ماركس. وداعاً ديمقراطية. وداعاً عدالة. وداعاً مساواة. المجد كل المجد للقوة والعنف والمال.
إن الترتيب الوجودي الراهن هو التالي: الاستحواذ على القوة، والمزيد منها. صيانة حقوق الرأسمال في الربح والتوظيف، بحيث يلعب دور صناعة وصياغة العالم، كل العالم، وتصنيفه، على قاعدة الربحية. ثم تأتي السلطة المأمورة. أعني “الديمقراطيات”، محكومة برجال المال. رؤساء الجمهوريات “المتألقة” ديمقراطياً وانتخابياً، يعينهم الرأسمال، ويشرف على قراراتهم. الحكم ليس للشعب، بل للمال، ليتحكم بالشعب… وأخيراً، اعتبار الرأسمال، صاحب الأمرة الدولية، عبر المؤسسات الدولية كافة، من مجلس الأمن الدولي، إلى الصليب الأحمر الدولي.
وعليه، كل الحروب التي تخوضها الرأسمالية، أكانت في روسيا والصين وأميركا والغرب، هي حروب عادلة.
وداعاً حقوق الشعوب. القرارات الدولية. حقوق الإنسان. العالم يعيش حربين جديدتين: حروب تدميرية بلا دماء. وحروب اخضاعية بالقوة.
وداعاً الثورات.
كتب نيتشه عن “موت الله”. راهناً، نكتب عن “موت الإنسان”. انتهى زمن الأفق المفتوح على الحرية والعدالة والانصاف والكفاية. بدأ الزمن الرأسمالي، يقود 99 بالمئة من سكان الأرض.
أخيراً، لا حرية إعلام ولا صدقية.
الصحافي جون سوينتون قال في خطاب وداعي له في نيويورك: ” إن عمل الصحافي يقوم على تدمير الحقيقة وعلى الكذب. نحن شراميط الثقافة” مع الاعتذار منهن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق