كوزو أوكاموتو: الساموراي الأحمر... مُحارب بِرُتبَة فلسطين


 مروان عبد العال
يصادف 7/12/1947 ميلاد كوزو أوكاموتو؛ أعادتني المناسبة إلى كرنفال ثوري مدهش. حدث ذات مساء في شارع «الحبيب بورقيبة»، وسط تونس العاصمة، فرقة فنية تعزف وتغني، تعتلي مسرحاً في الهواء الطلق، لتحتفل بثورة 14 جانفي وسقوط النظام، وآلاف التونسيين يحتشدون وقوفاً. شباب وشيب وأعداد غفيرة من الطلبة والمثقفين ووجوه فنية وأدبية معروفة. عند محاولة العبور لتجاوز الحشود، تناهى إلى مسامعي اسم «أوكاموتو» في أغنية تصدح في فضاء المكان وترددها عشرات الحناجر، تقول:
«أوكاموتو/ أحبّك يا أوكاموتو/ أحبّك يا أخي الإنسان/ ولستَ أخي في الدين/ ولستَ بقارئ القرآن/ ولستَ من خير أُمّة قد أُخرجت للناس
فحين حُبول البركان/ تذوبُ جميع الأجناس/ وتسقطُ كلّ الأديان!
سقطت كلّ التيجان/ مات أبطال الرّوم/ ومات أبطال اليونان/ ومات عنترة وعليُّ ابن السلطان/ مات جميعُ الأبطال/ وما زال الإنسان!
نحبك يا أوكاموتو».
وختم المغني بالضرب المتواصل على أوتار الغيتار، فارتعشت لها أوتار القلب: «نحبك أوكاموتو، ثانيةً وثالثةً... ودائماً».
ازدادت الدهشة عندما عرفت أن كاتبها الشاعر الشهيد مختار اللغماني الذي قُتل تحت التعذيب في السجن بتونس.
يشعل شمعة ميلاده وصورهم تمر أمامي وفي مقدمتهم كوزو أوكاموتو بكل تفاصيله. بخطواته المتعثرة يدخل عبر الباب مع طيف لا يفارقه، صار يده التي يأكل بها، عندما لم يكن يحسن استخدام يده، يعلّمه غسل الوجه، تنظيف الأسنان، حلاقة الذقن وحتى الاستحمام. هو كلّف نفسه برعايته وحمايته بسعادة ورضى، أدركت أن هناك ثمة بطولة عصية على النكران وأبطالاً لم تَبْتلِعهم الخُرافة بعد!
حفرت أسماءهم كرموز للحرية والتّحرُر الأُممي وأبطال أسطورة المطلق. أمميون في كفاحهم وهم يخترقون اللغات والأجناس والطوائف وحدود الجغرافيا وحواجز الزمن ويستقرون في التاريخ...
أتخيل في ميلاده كل الذين لم نكن نعرفهم، ولم نسمع بهم ولم نرهم أبداً. ولكن حتماً نُحبّهم ونحاكيهم ونحلمهم... نعرف المثال والقيم والثورة التي فيهم، ونحن مثلهم تماماً نؤمن بها ونقتدي بها. أبطال المجموعة ياسوكي (صلاح) وأوكوادير (باسم) وكوزو (أحمد)، كل الذين تطوعوا من مشارق الأرض إلى وطن لم تنقرض فيه المقاومة يوماً، وتتوالد فيه روح البطولة الجماعية التي تنجب فدائيين جُدُداً: تامر الكيلاني وإبراهيم النابلسي وعدي التميمي وأقمار نابلس الستة وأبناء كتيبة جنين ومخيم شعفاط وبلاطة حين كسروا معادلة الهوان وذهبوا بكرامة مغسولين بمذاق تلك الحكاية. تجمعهم عقيدة المقاومة، وصرخة واحدة: «يا مقاومي العالم اتحدوا» ضد الظلم وانتصاراً لفلسطين. لذلك، صار العالم بالنسبة إليهم كلّه فلسطينياً.
كوزو، لماذا يفكر في فلسطين؟
شمعة ميلاده تحترق على وقع أنغام الأغنية التونسية. عدت لأسأل: لماذا يفكّر الياباني كوزو في فلسطين؟ الساموراي الأحمر، سليل الكاميكاز، الشاب الطالب في كلية علم النبات، كان يومها عمره 24 سنة، ابن مدير مدرسة، ومن عائلة ميسورة الحال، لا أعرف إن كان قد قرأ عن تشي غيفارا، ولكنه حتماً اعتنق فكرته التي تقول «أينما يكون الظلم هناك وطني»، فجاء مقاوماً للظلم، وسار على نهج مقولة وديع حداد «وراء العدو في كل مكان». لكن صادف أن استطاع الإجابة في يوم الذكرى السنوية للعملية. يومها جثا فوق هيكل رخامي يرمز للعملية، تم تشيده في مثوى شهداء الثورة عند مستديرة شاتيلا. كان في أفضل حال منذ أن عرفته، وذلك بفضل أحبّته ورفاقه، ربما ليقدم شهادة ميلاده الجديدة، وبرفقة باقات الزهر ورائحة أعواد البخور، ألقى كلمة قصيرة قرأها باللغة اليابانية وتُرجمت لنا، ثم رفع قبضته إلى الأعلى وختمها وصاح: «أنا كوزو مع فلسطين... أحارب معكم ضد إسرائيل». بعد هذه الكلمات الجازمة (كوزو مع فلسطين)، أدركنا إنّه لم يولد فقط، خلال تلك السنوات ظل مكتئباً يذنب نفسه ويلومها لأنه فشل، والفشل أقسى من الموت الذي طاول رفاقه في العملية. فبعدما نفد منه الرصاص، توجّه نحو طائرة جاثمة على أرض المطار، وبيده قنبلة ليضعها في المحرّك. لكنه تلقّى ضربة مفاجئة فغاب عن الوعي ليجد نفسه أسيراً. أما معنى كلماته تلك في يوم ذكرى العملية، فقد كان يعلن عودته إلينا محرراً من الموت! يعرف الساموراي كيف يموت بشكل صحيح، لأنّه فقط في وجه الموت يمكن للمرء أن يصبح شخصاً حقيقياً.
تضيء شمعة كوزو الفلسطيني على تاريخ ميلاده الحقيقي مع تلك القنابل التي تحاور الزمن، مع رصاصه الذي يعزف النشيد الوطني ويسهم في صناعة الحق الأزلي بالعدل وبالحرية. يكزّ على أسنانه كي لا تنفد من جعبته الذخيرة، وحتى لا يستعيد تاريخ الفشل. ففي عقيدة الساموراي الفشل أقسى من الموت. والنجاح يعني حياة جديدة. فلسطين لا يستحقها من يغادرها ويغدرها. لذلك هو ميلاد لرفاقه باتريك أوغريللو (والده من نيكاراغوا ووالدته من أميركا، درس في سويسرا واستشهد من أجل فلسطين) الذي سميت عملية اللد باسمه، وتسويشي أوكادايرا، وياسو يوكي ياسودا، وفرنسواز كيستمان، فيتوريو أريفوني، وراشيل كوري، واستيفانو كاريني، وكل ذكرى تتوالد مع وفاء يتجدد، أيضاً إلى الدكتور كريس يانو، الجراح اليوناني الذي ذاع اسمه وصيته في المخيمات، والطبيبة البريطانية من أصل سينغافوري إنغ سوي شاي الشاهدة على مجزرة صبرا وشاتيلا. ولا ننسى إبداع الفنان السويسري مارك رودين والحضور الدائم للمناضلة الدنماركية العظيمة آني كنفاني. ندرك كيف أعطوا فلسطين بلا حدود، وظلوا كواقع موجود في تفاصيلنا اليومية وليس مجرد ذكرى، إنما حقيقة مستمرة.
تشتعل مع شمعته أدمغتنا بسؤال: من هو الفلسطيني؟ هل الذي يشتري حضور فلسطين بدمه، أم من ينزعها من دمه؟ من يدخلها إلى قاموس لغته أو من يسقطها عن لسانه؟ الذي ينحاز للحق والحقيقة أو من يتنازل عن الحق بالمناقصة أو بالخديعة والمراوغة؟ السؤال يرتبط بمعنى أن يكون الإنسان إنساناً. إنه الفارق بين إنسان يدافع عن إنسانيته وهويته وكرامته، في نضال محض مُنحاز إلى حقوق البشر في الحياة. قرأت يوماً دراسة قيّمة للمفكر العالمي حميد دباشي الذي طرح سؤال مفتاحياً: أين فلسطين؟ أين فلسطين في العالم، ولم يكن يعني العالم الفيزيائي فحسب، بل العوالم الأخلاقية والخيالية، تلك العوالم التي وصفها بالقوية سياسياً التي تتميز بالعوالم الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمارية، أو حتى العوالم التي فككت الاستعمار. وأكد حقيقة أن تحول فلسطين من واقعة إلى ظاهرة يستند إلى موقعها العالمي بوصفها نموذجاً مصغراً لشرط استعماري يشير إلى ما هو أبعد من نفسها. نعم، فلسطين أبعد من نفسها. فكرة تنمو في القلب قبل أن تُزهر في العقل، وليس شرطاً أن يكون حاملها فلسطينياً أو عربياً، لأنها فكرة الإنسان التي تمتحن انتماء صاحبها إلى الإنسان». هكذا يبسط الكاتب المغربي عبدالله صديق أيضاً نظرته إلى فلسطين، في كتابه الشيّق المعنون بـ«أن تفكر في فلسطين».
لقد انتسب كوزو وأمثاله إلى فلسطين كحالة وجودية عالمية، بعد أن نجحت المقاومة في أن تحوّل القضية الفلسطينية إلى «فكرة إنسانية»، أوسع من تحرير أرض من قبضة مغتصب استعماري؛ مسألة التقدّم إلى الأمام كفكرة تسير نحو المستقبل، وفلسطين هي المعادلة النقيضة للصهيونية الخطيرة بمتخيّلها الديني «الكهانية» التي تسير حتماً عكس حركة التاريخ. تمثل الفكر المعادي لكل العرب وكل دعاة الحرية والإنسانية والعدل في العالم. وقضية فلسطين هي قضية كلّ العرب وأحرار العالم، الباقية في ضمير ووجدان وقلوب الشعوب رغماً عن تيجان الخنوع والمهانة والهزيمة والتطبيع.
كوزو لم يقف محايداً مكتوف الأيدي أو متفرجاً مصفقاً لأطراف الصراع، بل وجد من فلسطين، في هذا العالم المتشكل طباقياً موقعاً للصراع، ليس بين مستعمرة غربية استيطانية دخيلة والسكان الأصلانيين فحسب، إنما هي أيضاً موقع للصراع بين عالمين: بين عالم الخيال الإمبريالي الأوروبي وعالم أحد أشكاله الرئيسة الذي صاغه تاريخياً للإيمان بنفسه وشرعنتها حتى إمبريالية القتل كالتي تركت آثارها على حياته في ناغازاكي وهيروشيما، وبين عالم فلسطين التاريخية هذه، الوطن السلف للفلسطينيين هو مركز الصراع بين الخيال الإمبريالي الشرس وملحقاته الاستعمارية الكارثية، ومنها ذيولها الرجعية الخانعة والمتهورة التي تمثله اليوم الصهيونية بصيغتها المتعددة والعابرة للأوطان والأديان والجنسيات.
النموذج الكاميكاز الذي أسقط نظرية الغرب والبقية، بأن الفلسطينيين ومن معهم مجانين وإرهابيون ويستحقون القتل، وأن لديهم قابلية على الترويض والسكينة والخوف، وهذا سر تجدد المقاومة التي تحولت إلى حافز يستحق التضحية من أجل الحق وشرعية البقاء. «جرائم أكثر مقاومة أكثر» مقولة جيل جديد يرفض الأوهام، وهندسة الانحراف عن الحق، وقبول التعايش مع عدو يعيد إنتاج نكبتهم كل يوم.
لذلك أصبحت فلسطين «استعارة مثالية» تختزل الصراع العالمي مما يجعل منها ليس صراع محاور قابلة للوقوف على الحياد، ولا سيما أنّه صراع وجودي موضوعي متواصل، بعد أن أصبح مستودعاً لجميع شروط النضال العالمي المناهض للاستعمار.
لذا، يقع على عاتق فلسطين أولاً كطليعة المقاومة ورأس حربتها ومحورها، العبء التاريخي العالمي لتفكيك وحشية هذا الاستعمار الصهيو-أميركي.
نشعل شمعة ميلاد كوزو الإنسان الذي يحترق ليضيء ويهلك ولا يهزم. عندما تحرر من الزنزانة في عملية تبادل للأسرى، بعد 13 عاماً من التعذيب النفسي والجسدي، نال الحرية بعملية الجليل التي قامت بها «الجبهة الشعبية-القيادة العامة» في العام 1985. وسنوات صراع مريرة بين قبضة الجلاد لتفريغه من إنسانيته وتدمير ذاكرته وإحساسه بالزمن. واصل المقاومة الصامتة التي ابتدعنا لها مواصفات حصرية جديدة، في أتون معركة التحدي، لنجعله يتصرف كآدمي، يدرك ما هي وظيفة حواسه؟ وأطرافه؟ يديه ورجليه؟ وكيف يقتنع أنه لا يزال إنساناً؟
يقول محارب: جيد أن تموت في سبيل قضية عادلة، لكن المصيبة أن تنجو وتجد من هو مستعد للموت من أجلك. هكذا صار كوزو اللاجئ السياسي رقم واحد، في لبنان. نذكر بمحبة في ميلاده حزمة الشباب والصبايا وأصدقاء وأحبة ورفاق كوزو، وكل الذين وقفوا دفاعاً عن أصالتهم وانتمائهم يوم أودع كوزو السجن في لبنان عام 1977 بتهمة دخول البلاد خلسة مع خمسة من رفاقه. وكوزو المنتصر الأول على ذاته، حينما تمكن من فك قيده الداخلي، معتبراً أن الهزيمة تقع فقط حينما يقتنع بأن اليأس حقيقة. انتصر على الاستسلام بهدوئه وصمته وبابتسامته التي لا تفارق وجهه، وبالرفاق الذين رافقوه كظل واحتضنوه كطفل كبير فكانوا أسرته وقت أوجاعه ونوباته، وفرحوا بكل خطوة جديدة تضاف إلى حياته، تزداد غربته برحيل طيفه «أبو رامي سميح» الذي كلما ابتعد عنه قسراً تقرأ الفراق في صمته وتقاسيم وجهه ودمعات عينيه، يسأل عن سبب سفره الطويل ومتى يعود.
«نحبك يا أوكاموتو/ ولستَ أخي في الدين/ ولستَ بقارئ القرآن/ ولستَ من خير أُمّة قد أُخرجت للناس». وبعد، «سقطت كلّ التيجان»، وبقي أحمد العربي الذي يؤمن بعقيدة الساموراي الأحمر التي تقول «يولد الإنسان عظيماً لغرض أعظم»، وهل هناك شيء أعظم من الحرية، فكيف إن كانت برتبة فلسطين؟ لم يولد في فلسطين أو لاجئاً خارجها، ولا من أبوين فلسطينيين. لكنه الفلسطيني جداً، والعربي الحقيقي، وإن لم ينطق لغة القرآن، لأنه الثابت مثل الأجيال العديدة المتنوعة من جنسيات مختلفة التي تناضل ضد الظلم وترتقي بفلسطين إلى مستوى الواجب الأخلاقي.
كوزو صار واحداً منّا، يتنفس فلسطين أملاً وألماً ودماً وكفاحاً ووجعاً وسجناً وزنزانة وقمعاً ومخيماً وحرية وحلماً. يؤكد لنا هويته بكل حواسه وبكافة العيارات والمعايير. سيظل كوزو عنواناً للبطولة بلا حدود وللكفاح الأممي ضد الإمبريالية العالمية، ومثالاً للالتزام الإنساني والإرادة الحُرّة والصلابة الأسطورية والقيم النضالية، ولن توفيه كل الكلمات حقه، فهو المحارب عبر الأزمنة، لتبقى فلسطين جديرة بمن قاتل لتحريرها، وأدرك أنه لا قيمة للعالم بأسره ما لم يكن لنا مكانٌ فيه.
في ميلاده الـ 75 تكفيه زهرة فلسطينية من جنون ما تبقى من هذه الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق