في ذكرى وعد بلفور قراءة تاريخية في السياسة البريطانية ودورها الأساس في جريمة العصر


 
بقلم الأستاذ الدكتور خالد الكردي
مؤرخ وباحث أكاديمي
قبل التطرق الى " وعد بلفور " ومضامينه، لا بد من إجراء قراءة تاريخية متأنية تحليلية عن السياسة البريطانية المعادية للعرب ولمصالحهم.
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 كانت الدولة العثمانية في مرحلة الاحتضار، وبدأت الدول الاستعمارية بالعمل على تقاسم "تركة الرجل المريض" (نعني بها السلطنة العثمانية) ، كما ان الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس لم تكن بحال أفضل، فبدأت تفكر في مستقبل المنطقة بعد انهيار السلطنة العثمانية وإعلان وفاة الرجل المريض.
وتبدأ فصول الرواية من المؤتمر الاستعماري التاريخي (مؤتمر كامبل بانرمان) والذي لا تزال تداعيات توصياته ومقرراته يعمل بها لغاية اليوم.
مؤتمر كامبل بانرمان
في عام 1907 عقد في لندن مؤتمراً استعمارياً دولياً، عرف باسم "مؤتمر كامبل بانرمان" والذي دعا إليه حزب المحافظين ،ـ شارك فيه معظم  الدول الأوروبية ملوكاً ورؤساء ووزراء مع مستشارين واختصاصيين في التاريخ والجغرافية وعلم النفس والنفط والاقتصاد والسياسة والقانون وسوى ذلك . وقد بحث المؤتمرون في قضية واحدة أساسية مستقبل العالم العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، وخطورة هذا العالم على أوروبا. ولقد رأى المؤتمرون أن العالم العربي سيكون بعد عدة سنوات قوة بشرية تتعاظم مع مرور السنين تجمع ملايين البشر ويعيشون في منطقة غنية بالإمكانيات الاقتصادية والبشرية وبالمواد الخام بما فيها النفط.
ومن أجل ذلك رأى المؤتمرون ضرورة إيجاد وسائل لمنع تفاقم أخطار العرب، ولمنع استمرار وحدتهم وقوتهم، فقرروا السعي بجدية لإقامة دولة غريبة في المنطقة تعرف باسم (الدولة الحاجز Puffer State)  ) في " فلسطين "، فتسيطر وتقسم المشرق العربي عن المغرب العربي على أن تكون هذه الدولة جسراً لأوروبا.
ومما يلاحظ بأن الدول الاستعمارية الأوروبية وعت منذ فترة مبكرة أهمية تفتيت العالم العربي بإنشاء دولة وجسم غريب في المنطقة يعمل باستمرار على تقسيمها وتفتيتها وإضعافها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، لذلك كان التعاون المثمر والجدي بين الحركة الصهيونية ودول الاستعمار الغربي. أضف الى ان الحركة الصهيونية لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها لولا مساعدة الدول الاستعمارية لها وعلى رأسها بريطانيا ، لأنها كانت تعتبر أداة وجسر عبور لهذا الاستعمار الغربي، بالإضافة إلى أن أوروبا كانت تسعى باستمرار للتخلص من اليهود ومن مشاكلهم ومن فسادهم في المجتمعات الأوروبية. لذلك تم الوفاق بين الحركة الصهيونية والحركة الاستعمارية .
وقد خرج المؤتمر بوثيقة بوثيقة سرية عرفت باسم "وثيقة كامبل" نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك "هنري كامبل بانرمان" . كما خرج المؤتمر بتوصيات على قدر كبير من الأهمية، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها : "إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار، الا أنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات" والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة" : يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان.
وتجدر الإشارة الى ان دول الغرب الاستعماري ، لم تكتفِ بمقررات مؤتمر لندن بل تعاونت في الوقت نفسه مع الحركة الصهيونية ومع الماسونية ومع الدونمة (اليهود الذين اعتنقوا الإسلام ظاهراً وبقوا على يهوديتهم سراً) ورجالات جمعية الإتحاد والترقي وتركيا الفتاة المتعصبة ضد كل عربي، فعملوا جميعاً على إحداث ثورة انقلابية ضد السلطان عبد الحميد الثاني حيث أجبروا مفتي الإسلام محمد ضياء الدين على إصدار فتوى شرعية بخلع السلطان عبد الحميد عن العرش في 23 نيسان (ابريل) 1909 وذلك جراء مواقف السلطان الرافضة تحقيق الحلم اليهودي في فلسطين.
وثيقة كامبل السرية..... و تفتيت الوطن العربي
توصيات ووثائق المؤتمر
ابرز ما جاء في توصيات المؤتمر والذي شارك فيه سياسيون ومفكرون وباحثون والذي استمر لمدة عامين بشكل سري (من عام 1905 - 1907) ما يلي :
أولاً : إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم الى ثلاث فئات على الشكل التالي :
الفئة الأولى :دول الحضارة الغربية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعمها مادياً وتقنياُ.
الفئة الثانية : دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها، والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها.
الفئة الثالثة : دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديداً لها إذا تفوقت، وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام والواجب تجاه هذه الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة اي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.
ثانيا : محاربة أي توجه وحدوي فيها
ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب ألا  وهي "دولة إسرائيل" ، واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة . و فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصاديًا وسياسياً وثقافياً، مما يبقي العرب في حالة من الضعف واستمرار تجزئة الوطن العربي وإفشال جميع التوجهات الوحدوية إما بإسقاطها أو تفريغها من محتواها، ولا يعني هذا الأمر بالضرورة تدخلاً إسرائيلياً وإنما هو مصلحة لوجود إسرائيل من جهة وللتعاون بينها وبين القوى الخارجية الطامعة بالعرب من جهة ثانية.
فكانت توصيات ووثائق مؤتمر كامبل بانرمان البوصلة الأساسية التي وجهت سياسة الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا ، فكانت مراسلات الشريف حسين - مكماهون وإعلانه الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران 1916 ضد السلطنة العثمانية، بناء على "وعود بريطانية كاذبة مخادعة " للشريف حسين بإقامة دولة عربية برئاسته عند انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء، في حين كانت بريطانيا قد وقعت على اتفاقية سرية في أيار 1916 وقبل أيام من اندلاع الثورة العربية الكبرى التي استطاعت إخراج العثمانيين من الجزيرة العربية وعرفت هذه الاتفاقية باسم (سايكس -بيكو) والتي قسمت المنطقة العربية بين الفرنسيين والانكليز حيث تكون فلسطين والعراق من حصة بريطانيا ولبنان وسوريا من حصة فرنسا.
ونصل هنا الى جريمة العصر ، " وعد بلفور " .. وعد من لا يملك لمن لا يستحق " وزير الخارجية البريطاني جيمس بلفور
ما هو وعد بلفور؟
وعد بلفور وهو تصريح لوزير الخارجية البريطانية جيمس بلفور إلى الزعيم والملياردير الصهيوني "روتشيلد " يؤكد فيه أن بريطانيا تدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين، ومما يلاحظ بأن التصريح البريطاني تصرف بفلسطين وكأنها "أرض بلا شعب لشعب بلا وطن" خلافاً للحقيقة وللواقع.
وفي عام 1920 عينت بريطانيا أول مندوب سامي بريطاني في فلسطين من اليهود البريطانيين هو : "هربرت صموئيل" لتنفيذ وعد بلفور ولتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبالفعل فقد رأينا أن فرق عسكرية يهودية كانت تعمل مع الجيش البريطاني في فلسطين سخر عملها مع عمل القوات البريطانية لتهويد فلسطين في الفترة الممتدة بين عامي 1918-1948.
وختاماً ، ومن خلال ما تقدم، لا بد لكل القوى الوطنية الشريفة في امتنا العربية عامة، وأبناء شعبنا العربي الفلسطيني المظلوم خاصة ، عدم السكوت عن هذه الجريمة التاريخية التي ارتكبتها الحكومة البريطانية ، والتي أدت الى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه ، وزرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب وطننا العربي ، والتي نُحمل بريطانيا كافة مسؤوليات الأزمات والنكبات التي حلت بفلسطين وبشعبها الأبي المكافح المناضل، و لا بد من ان نطلق صرخة مدوية تهز ما تبقى من الضمير العالمي وان نعمل على مقاضاة الحكومة البريطانية على جريمتها الكبرى وتحميلها المسؤولية التاريخية عن جريمة العصر.
كما اننا ندعو الى تصويب البوصلة الصحيحة دوماً نحو فلسطين الأبية، والى تعزيز وتمتين جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية بين أبناء الشعب الفلسطيني، والمحافظة على جذوة المقاومة مشتعلة في نفوس شبابنا، وان لا ندع لليأس والإحباط ان يفتت من عضدنا، فمن دروس التاريخ نأخذ العبر، فها هي الجزائر بلد المليون شهيد، استطاع مجاهدوها مقارعة الاستعمار الفرنسي الوحشي والذي دام لقرن ونيف من الزمن، واستطاع الشعب الجزائري المكافح ان يستأصل الاستعمار الفرنسي من جذوره ، ونال حريته واستقلاله. وفلسطين ستتحرر من البحر الى النهر وستحصل على حريتها وسيعود الشعب الفلسطيني الى أرضه، والاحتلال الصهيوني حتماً حتماً الى زوال . ولنا من دروس التاريخ العِبر والعزيمة، وانهم يرونه بعيدا وأننا نراه قريباً قريباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق