من وعد بلفور إلى صفقة ترامب قراءة في كتاب «في مجرى الأحداث 2018»


أسامة خليفة

باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات "ملف"


قراءة في كتاب «في مجرى الأحداث 2018» وهو الكتاب (رقم 34) من سلسلة «الطريق إلى الاستقلال» التي يصدرها «المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات» "ملف". يتناول في فصوله الأحداث الفلسطينية في النصف الأول من العام 2018، ولاسيما تفاصيل دورتي المجلس المركزي الدورة الـ28 في 15/1/2018، والمجلس الوطني الدورة الـ23 في 20/2/2018، جاء الأول منهما بعد شهر، والثاني بعد شهرين من 6/12/2017، تاريخ إعلان ترامب قراره بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وإعطاء أوامره لوزارة خارجيته للمباشرة في نقل سفارة بلاده إلى القدس.

جاء وعد ترامب المشؤوم الذي اعتبر الوعد الثاني «ممن لا يملك لمن لا يستحق»، بعد نحو شهر من احتفال رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي مع بنيامين نتنياهو بالذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم في 2/11/2017، بدلاً من الاعتذار والاعتراف بمسؤولية بريطانيا الأخلاقية والسياسية والقانونية عن المعاناة التي سببها وعد بلفور المشؤوم للشعب الفلسطيني.

شكل وعد ترامب المشؤوم بداية مرحلة أمريكية جديدة في عملية السلام في الشرق الأوسط يمكن تسميتها بمرحلة فرض الإملاءات، وعلى كل من يريد السلام أن يوافق على ما سوف تفرضه أمريكا، وأن كل من يعارض ذلك سيعتبر من قوى الإرهاب والتطرف المتوجب على القيادات السياسية في المنطقة طرده ومحاربته.  

التزم الوعدان المشؤمان بالتنفيذ الفوري المباشر، فبعد خمسة أسابيع فقط من وعد بلفور دخلت القوات البريطانية مدينة القدس بعد قتال مع القوات العثمانية من 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، واستمر حتى الاستسلام والتسليم للبريطانيين في 30 ديسمبر/كانون الأول 1917، وكان هذا الاحتلال أول خطوات التنفيذ العملي لإقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين» حسب الوعد المشؤوم.

وبالنسبة للسفارة ونقلها من تل أبيب إلى القدس، تم تأجيل الافتتاح إلى 14 مايو/أيار 2018، «تكريماً» للذكرى السبعين «لاستقلال إسرائيل» ليتزامن الافتتاح مع الذكرى السبعين لنكبة الشعب الفلسطيني، في استفزاز مقصود لمشاعر الفلسطينيين، والشعوب العربية والإسلامية، بينما اكتفت العواصم العربية عند الإعلان عن نقل السفارة وقبل التنفيذ العملي بإبداء تخوفها من تأثير القرار على عملية السلام, بعد نقل السفارة شهدنا حراكاً سياسياً ودبلوماسياً بانعقاد اجتماعات استثنائية لوزراء خارجية الدول العربية، وقمة التعاون الإسلامي في استانبول، وكانت ردود الفعل الرسمية بما فيها الفلسطينية على أن المفاوضات هي التي تحسم مسألة القدس كما جاء في اتفاق أوسلو.

وعلى مستوى الحراك الدبلوماسي الدولي، لحقت هزيمة للولايات المتحدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما صوتت 138 دولة إلى جانب قرار يعتبر أي إجراء يرمي إلى تغيير طابع مدينة القدس، أو وضعها، أو تكوينها الديمغرافي، باطل ولاغٍ وليس له أي أثر قانوني، أما في مجلس الأمن فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو لإسقاط القرار 1060 حول القدس.

ولم يكن الحراك السياسي في كل المستويات العربي والإسلامي والدولي بمستوى الحدث وخطورته، ولم ترتقِ إلى الرد العملي والفعلي على قرار ترامب، مما شجّع إسرائيل على إصدار قرارات مضمونها استمرار سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، واستمرار سياستها الاستيطانية التهويدية، فبعد القرار الأمريكي، وردود الفعل الباهتة عليه، جاء قرار الحكومة الإسرائيلية ببناء مليون شقة استيطانية في السنوات العشر القادمة منها 300 شقة في القدس لإغراق المدينة المقدسة بمليون مستوطن جديد، وجاء قرار إداري من بلدية القدس بفصل 140ألف فلسطيني من كفر عقب و مخيم شعفاط عن الحدود الإدارية لما يسمى «القدس الكبرى» للإخلال بالتوازن الديمغرافي في المدينة تمهيداً لتهويدها، وجاء مشروع قرار من الكنيست بتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات، ما يعني عملياً ضمها لإسرائيل، وجاء قرار آخر من مركز الليكود بضم الضفة الغربية كاملة، مع الحفاظ على حكم إداري ذاتي للفلسطينيين فيها.

وكان الرد العملي على قرار ترامب في الهبة الشعبية التي شهدتها المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في القدس والضفة والقطاع وداخل مناطق الـ48 وفي الشتات والمهاجر، لكنها لم تتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة تنخرط فيها أوسع القطاعات والشرائح والفعاليات، والسبب يعود إلى أن هذه الحالة المتوثبة مازالت تفتقر إلى المظلة السياسية الفلسطينية الموحدة، هذه المظلة المطلوبة هي بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، وحدة البرنامج السياسي الكفاحي المتحلل من أوسلو ومن التنسيق الأمني مع الاحتلال يحمل صفة حركة تحرر وطني لشعب تحت الاحتلال، يعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية طابعها التمثيلي الشامل على قاعدة تشاركية وليس على قاعدة التفرد والاستتباع.

هذا ما يتوجب العمل عليه ونحن نجد أنفسنا أمام «صفقة القرن»، الاعتراف الأمريكي بـ«القدس عاصمة لإسرائيل» تأتي في مقدمة بنودها التي لم يعلن عنها، حتى ذلك الحين، وتأخر الكشف عن بنودها حتى 28 يناير/ كانون الأول2020، ليجري تنفيذ ما يمكن تنفيذه منها خطوة خطوة في ظل غموض الصفقة، وللضغط على السلطة الفلسطينية لقبولها بالشروط التسعة لبدء مفاوضات حملها المبعوث الأمريكي «جيسون غرينبلات »، وهي شروط مجحفة جداً لا يمكن لأي فلسطيني أن يقبل بها، ولو نفذها الفلسطينيون فإن وعد الإدارة الأمريكية أن تعلمهم أنها لا ترى ضرورة لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في الوقت الراهن.

 وبما يخص القدس ومن أجل تعزيز صمودها في مواجهة الأسرلة، جاء في مذكرة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى دورة المجلس المركزي 13/1/2018 :

-       تشكيل المرجعية الوطنية الموحدة لمدينة القدس على أسس ائتلافية، تقود الكفاح الميداني لشعبنا ضد الاحتلال وسياسة الضم والتهويد والأسرلة، ولصالح تعزيز الشخصية الوطنية لعاصمة دولتنا الفلسطينية.

-       توفير الموازنات المالية اللازمة لدعم المؤسسات والمنظمات الأهلية المقدسية في الميادين المختلفة الثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والبلدية وغيرها

-       توفير الدعم للاقتصاد المقدسي في ظل الحصار الإسرائيلي، وتعطل الأعمال اليومية للتجار والحرفيين وغيرهم بفعل الأزمات السياسية التي تعيشها المدينة.

ونبّهت كلمة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أمام الدورة الـ 28 للمجلس المركزي إلى أن مدينة القدس أصبحت محاطة بكم من المستوطنات، وبكم من المستوطنين لم تكن بهذه الأعداد، ولم تكن محاطة بجدار فصل عنصري يفصلها عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية، وكانت تحتضن العديد من المؤسسات التي كانت تعني لنا رموزاً للسيادة الفلسطينية في المدينة، فضلاً عن أنها كانت بمواطنيها جزءاً من النظام الانتخابي في فلسطين، اليوم يختلف الوضع في القدس في تعرضها بشكل منهجي ويومي لسياسة التهويد والتمييز العنصري والتطهير العرقي، ومؤخراً اعتمدت الكنيست بشأنها قانون القدس الموحدة.

أدان البيان الختامي للدورة 28 للمجلس المركزي ورفض قرار ترامب الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، واعتبر أن الإدارة الأمريكية بهذا القرار فقدت أهليتها كوسيط وراعٍ لعملية السلام.

وأكد البيان الختامي على ضرورة توفير أسباب الصمود لأبناء شعبنا في مدينة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، وأكد ضرورة توفير الدعم لنضالهم في التصدي للإجراءات الإسرائيلية الهادفة لتهويد المدينة المقدسة، وضرورة وضع برنامج متكامل لتعزيز صمود مواطنيها في مختلف مجالات الحياة، ودعوة الدول العربية والإسلامية للوفاء بالتزاماتها بهذا الشأن، ولاسيما تفعيل قرار قمة عمان 1980 الذي يلزم الدول العربية بقطع جميع علاقاتها مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتنقل سفارتها إليها والذي أعيد تأكيده في عدد من القمم العربية مع الطلب من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي القيام بالمثل.

وأكد البيان الختامي ضرورة تعزيز تلاحم الصف الوطني المقدسي تحت قيادة مرجعية وطنية موحدة، وإعادة تشكيل مجلس أمانة العاصمة من خلال صيغة ديمقراطية تمثيلية مناسبة ومتوافق عليها وطنياً.

أما البيان الختامي للمجلس الوطني الفلسطيني فقد أكد أن علاقة شعبنا ودولته مع اسرائيل تقوم على الصراع، صراع بين شعب ودولته الواقعة تحت الاحتلال، وبين قوة الاحتلال، وأكد المجلس رفض الحلول المرحلية والدولة ذات الحدود المؤقت، ودولة غزة، ورفض إسقاط ملف القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود وغيرها تحت أي مسمى، بما في ذلك ما يروج له كصفقة القرن، وغيرها من الطروحات الهادفة لتغيير مرجعيات عملية السلام والالتفاف على القانون الدولي والشرعية الدولية.

أرثر بلفور صاحب المشأمة الأول والسابق وعده على وعد ترامب «صفقة القرن» بقرن كامل، تحول وعده إلى نكبة شاملة لشعب فلسطين، وإلى خطر ماثل أمام شعوب المنطقة بحكم الدور الذي اضطلع به الوعد، ومرجعيته في القرارات الدولية التي أسست لإسرائيل التي انتهجت سياسات عدوانية توسعية شملت المنطقة كلها، ووقائع الاحتلال في الضفة الفلسطينية والقدس والجولان والشريط الجنوبي اللبناني تدل أن فلسطين ليست وحدها في مرحلة تحرر وطني بل أيضاً – وبحدود معينة- عدد من الدول العربية.

ظهرت الحركة الصهيونية سياسياً وإعلامياً و مؤسساتياً في نهاية القرن التاسع عشر، ولكن قبل ذلك كان هناك حراك سياسي صهيوني واستيطان يهودي محدودان، إذ شهد عام 1855 إقامة أول حي سكني يهودي في القدس بأموال اليهودي البريطاني الثري “موشي منتيفيوري”، ومستوطنة بتاح تكفا قرب يافا وغيرها، وحتى عام 1914 بلغ عددها المستوطنات 47 مستوطنة، لكن بقي مشروع استيطان فلسطين متواضعاً خلال المرحلة العثمانية، إنما بريطانيا استجابت للمشروع الصهيوني، حيث افترضت أنه باستيطانه وارتباطه العضوي بالغرب سيخدم المصالح الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية، وقد تبين مع مرور الوقت أن الرهان الامبريالي كان في محله، فبعد أن حلت الامبريالية الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، مكان الامبريالية البريطانية، باتت إسرائيل في الحضن الأمريكي، والقاعدة الاستراتيجية الأهم للولايات المتحدة في الإقليم وما يتجاوزه.

تجاهل وعد بلفور الفلسطينيين أصحاب البلد الأصليين، وأنكر وجودهم، وانحدر بالتعريف عنهم إلى مستوى «الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، وتناغم معه صك الانتداب في هذا الانكار ليستخدم نفس صيغة بلفور يلطفها دون تغيير مضمونها بصيغة: «فئات الأهالي الأخرى» لكنه أبداً لم يشر إلى الفلسطينيين، الذين كانوا الأكثرية بينما كان اليهود أقلية لا تتجاوز أعدادهم 9% من سكان فلسطين في نهاية المرحلة العثمانية، لقد اعترف صك الانتداب بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد، كما اعترف بوكالة يهودية معنية بجميع القضايا المتعلقة بإنشاء الوطن القومي اليهودي، ومصالح السكان اليهود في فلسطين، وبذلك تكون بريطانيا قد اعترفت ومن ثم فرضت حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، فضلاً عن كونه ليس من سكان البلد أصلاً، فكان لابد من توفير شروط استقدامه وتوطينه في فلسطين من خلال ممارسة أقصى درجات الضغط وصولاً إلى الإكراه، لا بل العنف بأشكاله على سكان البلاد الأصليين.

تناغم وعد بلفور مع صك الانتداب، باعتراف وإنكار، كوجهي عملة مزيفة، اعتراف لصالح الحركة الصهيونية بالأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة: الأرض (فلسطين) الشعب( اليهود) الحكومة (نواتها الحركة الصهيونية)، بينما حجب حق إقامة الدولة عن شعب فلسطين بإنكار وجوده كشعب، وبإنكار حقه في تقرير مصيره، ومنع تشكيل أي هيئة تمثله. 

لقد سوقت بريطانيا وعد بلفور إلى المستوى الدولي، وتحول وعد بلفور إلى التزام أممي، قدمته إلى مؤتمر سان ريمو، وفي معاهدة سيفر نجحت بريطانيا في تضمين صك الانتداب مشروعها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم اقترحتهما -صك انتداب كغلاف في مضمونه وعد بلفور- على عصبة الأمم المتحدة التي صدر عنها استناداً إلى ما نصت عليه معاهدة سيفر حول مشروع صك الانتداب على فلسطين وجاء فيه أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ تصريح بلفور، ومضى حوالي سنتين بين معاهدة سيفر والمصادقة على صك الانتداب، هذه الفترة امتدت بسبب طلب الولايات المتحدة غير العضو في عصبة الأمم، أن يؤخذ رأيها حول شروط الانتداب، وعندما عُرضت مشاريع الانتداب على مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيين، حازت على موافقتهما بما فيها تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، مما جعل وعد بلفور يتمتع بشرعية دولية عبر عصبة الأمم ودولة عظمى هي الولايات المتحدة.

استمر تسويق بريطانيا لوعد بلفور خمس سنوات، من تاريخ الإعلان عنه حتى المصادقة عليه في عصبة الأمم المتحدة، لكن الشروع في تنفيذه لم ينتظر طويلاً، فقد باشرت بريطاني بالتنفيذ، بالاحتلال أولاً وتسهيل الاستيطان وهجرة اليهود إلى فلسطين وتمليكهم الأراضي تالياً، ابتداءً بالحكم العسكري الممتد من نهاية العام 1917 إلى نهاية العام 1920، والحكم المدني الذي افتتحه المندوب السامي هربرت صموئيل المعروف بالتزامه الصارم العقيدي والوظيفي بالمشروع الصهيوني، وكان أول عضو في الحكومة البريطانية يقترح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين برعاية بريطانيا في العام 1914 عندما بدأت الحرب على الدولة العثمانية.

ثلاثة عقود مضت على المهمة الرئيسية للحكومات الانتدابية والمندوبين الساميين لتوفير الشروط السياسية والسكانية والاقتصادية والعسكرية من أجل تعزيز كيانية المستوطنين اليهود، وتعظيم كتلتهم السكانية، وتسهيل إقامة البنى التحتية للدولة الصهيونية قيد التأسيس، بالمقابل انصب جهد الانتداب على تقويض أي مسمى لإقامة كيانية وطنية فلسطينية ببنية مؤسساتية ذات صلة بمشروع إقامة سلطة فلسطينية.

ثلاثة عقود على هذا المسار (1918-1948)، والسياسة الفلسطينية تقوم على وهم أن بريطانية الانتدابية ستجلب لقضيتنا العدل، ماذا فعلت القيادة المتنفذة للحركة الوطنية الفلسطينية خلال الثلاثين عاماً من الانتداب؟.

انطلقت القيادة المتنفذة للحركة الوطنية بأن العدو هو الصهيونية وحدها، وساورها وهم إقناع بريطانيا بوقف الدعم للمشروع الصهيوني، وبإلغاء وعد بلفور من خلال عرض المزايا التي يمكن أن تتوفر لبريطانيا من خلال تعاون العرب معها، بدل الصهيونية، بـ3« كتب بيضاء»، تصدرها حكومة الانتداب، ألم يثبت الخداع الاستعماري ؟. كأسلوب بريطاني مراوغ لامتصاص غضب الشعوب، والتحايل على مطالبها، بإدارة الصراع وقيادته إلى الوجهة التي تريد.

ثلاثة عقود على مسار أوسلو، يُوجّه مرة أخرى للقيادة المتنفذة السؤال ذاته، ماذا فعلت القيادة المتنفذة للحركة الوطنية الفلسطينية خلال الثلاثين عاماً؟. مازالت القيادة المتنفذة اليوم تبني سياستها على وهم أن الولايات المتحدة يمكن أن تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع، وتكون راعياً نزيهاً لمفاوضات السلام، وتغلق سفارتها في القدس وتعيدها إلى تل أبيب بعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، والولايات المتحدة في عهد بايدن ومن سيليه ثابتة على مواقفها العدائية من قضايا شعبنا ومنحازة كلياً إلى العدو الصهيوني، تحاول من خلال صفقة القرن تصفية قضية شعب فلسطين، وشطب حقوقه العادلة التي أقرتها الشرائع الدولية.

قبل النكبة، كانت هناك على رأس الحركة الوطنية الفلسطينية قيادة تقليدية ضعيفة لم تكن بمستوى التحدي الاستراتيجي الذي يواجه شعبنا، ولا تتمتع بالفعالية التي تقتضيها طبيعة المعركة، قيادة لم تستوعب ميزان القوى الحقيقي، ولا طبيعة العلاقة بالضبط بين القوة العظمى المسيطرة في كل مرحلة وبين حلفائها في الحركة الصهيونية، وفي معظم الأحيان تسعى إلى عقد التحالفات الخارجية الخاطئة، إن لم تكن المدمرة في بعض الحالات.

 إن قراءة بسيطة، دون مقارنة متعمقة تظهر التشابه الواضح للعيان بين القيادة الحالية والقيادة في زمن الانتداب، قيادة ضعيفة غير قادرة على اتخاذ مواقف حاسمة من القضايا الاستراتيجية، وبقيت رهينة لاتفاقيات سلام لا تحقق السلام العادل وتعيد الحقوق لأصحابها، وفي ظل عجزها تستمر الاجتياحات الاسرائيلية لمناطق السلطة واعتقال المناضلين وتنفيذ جرائم الإعدام الميداني بحق الشبان الفلسطينيين، غير قادرة على فرض سلطتها على الأرض الفلسطينية، بما فيها المنطقة ألف المخصصة للفلسطينيين وفق اتفاق أوسلو، غير قادرة على اتخاذ قرار بمغادرة اتفاق أوسلو.

في علاقات القيادة الفلسطينية في زمن الانتداب مع الحكام العرب، لم تستوعب مدى تأثير عامل مصالحهم الذاتية وتبعيتهم لبريطانيا أو فرنسا، مما أدى إلى التأثير السلبي على القرار الوطني وصولاً إلى مصادرته خاصة في موضوع إنهاء ثورة 1936 قبل أن تحقق أهدافها، وتبرر القيادة الفلسطينية حالياً عدم تنفيذها قرارات المجلسين الوطني والمركزي بناء على مشورة عربية بالتريث إلى ما بعد جولة بايدن، ثم إلى ما بعد انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم إلى ما بعد بعد .... 

واليوم يطرح للتنفيذ إصلاح النظام السياسي الفلسطيني أو إعادة بنائه بعد أن ترهلت مؤسسات م.ت.ف. وانقسمت الحكومة إلى حكومتين، وحل المجلس الوطني، وغاب المجلس التشريعي، ثم نعود للتاريخ فلا دروس وعبر من تجربة مرحلة الانتداب، حول أهم مظاهر فشل الحركة الوطنية الفلسطينية يعود إلى عدم إيلاء الاهتمام بالقدر المطلوب لمسألة بناء السلطة السياسية الوطنية وما يمكن أن تلعبه هذه السلطة من دور عندما تؤهل نفسها لقيادة البلد على طريق الاستقلال.

ولا شك أن حكومة الانتداب البريطاني سعت إلى صرف الأنظار عن تشكيل المؤسسات التمثيلية الفلسطينية، إلى خلق منافسة حادة بين النخب القائمة على مؤسسات الإدارة الدينية والنخب التي تبقى خارجها، وتجنيدهم في وظائف لها سلطة على الناس ومصالحهم وإعطائهم كل مظاهر ومكاسب السلطة دون أي مضمون، على غرار رئاسة بلدية القدس خصصت لآل النشاشيبي، مقابل رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى لعائلة الحسيني، وهذا ما يجعل المقارنة مع سلطة الحكم الإداري الذاتي حالياً تفرض نفسها في هذا السياق.

واليوم نتحدث عن انقسام فلسطيني حاد، سلطة رام الله وسلطة غزة، وليس منافسة بين أل نشاشيبي وآل الحسيني، واليوم التمثيل الشامل يتطلب إصلاح م.ت.ف. وإعادة بناء مؤسساتها لأنها تمثل الكل الفلسطيني داخل الوطن والشتات، ولا يشعر اللاجئون في الشتات والمهاجر أن سلطة الحكم الذاتي تمثلهم.

مئة عام زمن ممتد على أحداث مأساوية بين وعد بلفور نهاية العام 1917، ووعد ترامب في نهاية العام 2017، وعد بلفور المتضمن تنفيذه في صك الانتداب، أحال فلسطين من الانتداب بأفق الاستقلال، إلى مشروع آخر، استعماري استئصالي يقتلع الشعب الفلسطيني من بلاده ويحرمه من كيانه ويقطع العلاقة العضوية التي لا انفصام فيها ولا انقطاع بين الشعب والأرض والتاريخ، ووعد ترامب يريد أن يختم ما وعد به بلفور، بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، وإحالة الشعب الفلسطيني في ظل نظام فصل عنصري إلى «فئات الأهالي الأخرى غير اليهودية»، أو «مكون عرقي» تحت الوصاية الإسرائيلية، سيناريو انتداب جديد بإحالة أرض فلسطين إلى مشاريع الاستيطان والتهويد وإغراقها بالمستوطنين.

إقليمياً الآن، أين نقف؟. نقف أمام اتجاهين متعاكسين بل ومتصارعين يؤثر أحدهما بالآخر، تراجع أحدهما يخدم تقدم الآخر، اتجاه صمود الدولة الوطنية، واتجاه التقارب مع المشروع الأمريكي والانفتاح على إسرائيل، الاتجاه الأول من شأنه أن يصون المصالح الوطنية والقومية للشعوب، في إطار وحدة دولتها الوطنية القائمة على وحدة الأراضي والشعب والسيادة الوطنية وهو في هذا السياق يخدم النضال الوطني التحرري لشعوب المنطقة ويفتح الأفق أمام تطورها الاقتصادي والاجتماعي في إطار الحرية والتعددية السياسية والتقدم الاجتماعي، وفي الوقت ذاته يخدم النضال التحرري لشعب فلسطين، ويوفر عمق عربي وإقليمي يحتضن نضاله.

إقليمياً الآن، إلى أين نسير؟.  تتواصل محاولات زج الدولة الوطنية في سلسلة لا تنتهي من الأزمات المتوالية بهدف دفعها إلى أحد طريقين، إما الخضوع والاستسلام لسياسة واشنطن واستتباعاً إسرائيل، والالتحاق بالمشروع الإقليمي الأمريكي، أو مواصلة استنزافها بأشكال مختلفة، لكن مع ذلك يُسجل صمود الدولة الوطنية لا بل تقدمها في ميدان المواجهة في بلدين مفتاحيين سوريا والعراق.

فلسطينياً الآن، أين نقف؟. نجد أنفسنا أمام استراتيجيتين: استراتيجية رسمية تقوم على أولوية العمل السياسي تحت عنواني المفاوضات والتدويل، التي أبقت الحالة الفلسطينية أسيرة أوسلو والتزاماتها وبالذات التنسيق الأمني مع الاحتلال والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي، هذه الاستراتيجية أدت إلى:

-       أضعفت الحالة الشعبية الفلسطينية وأضعف وتيرة نموها واتساعها و تطورها.

-       أضعفت روح التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية ونضالات شعبها.

-       تدمير الاقتصاد الفلسطيني، وتعطيل مشاريع إعادة بنائه تحت الاحتلال.

-        حوّل السلطة الفلسطينية إلى جزء من ألية إدامة منظومة الاحتلال.

-       إدارة الظهر لموضوع الوحدة الداخلية اعتقاداً أنها تفرض قيوداً على التزامات السلطة باتفاق أوسلو وبروتوكول باريس.

كما نقف أمام استراتيجية أخرى تقوم على أولوية خط المقاومة، وبالذات المقاومة الشعبية، والمقاومة في المحافل الدولية لنزع الشرعية عن الاحتلال وعزل دولة إسرائيل. 

فلسطينياً الآن، إلى أين نسير؟. في الاستراتيجية الرسمية التي تقوم على أولوية العمل السياسي، السير نحو الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتوسيع دائرة الاعتراف بدولة فلسطين واكتساب عضوية الوكالات والاتفاقات الدولية، بما في ذلك العضوية العاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها. 

في استراتيجية أولوية خط المقاومة، السير في خط المقاومة وأهمها العمل على إعادة بناء الوحدة الداخلية على قاعدة البرنامج المشترك، وحدة وطنية تولد في الرأي العام حالة من اليقين بجدوى المقاومة، وهذا الاتجاه يفترض في الوقت نفسه استنهاض العمل السياسي برسم حدود النتائج المترتبة على الخلل في نسبة القوى في الصراع، والأخذ بالاعتبار أن المقاومة المرتكزة على الوحدة الوطنية تكسب العمل السياسي أبعاده الوطنية المجدية، كما أن العمل السياسي بالحدود الوطنية يفتح أمام المقاومة آفاق النهوض والتطور والمزيد من الفعالية.

في الاستراتيجيتين يظهر تشابه بما يخص العمل السياسي إلا أن الفارق يبقى كبيراً، إن في الأولويات، أو في التعريف لمضمون عناوين العمل السياسي ووظائفه وأدواته، فالأولوية بالنسبة لخط المقاومة كمثال: توفير شروط المقاومة الشعبية وصولاً إلى الانتفاضة الشاملة، وعلى طريق التحول إلى العصيان الوطني، بكل ما يتطلب ذلك من تأمين الحماية السياسية للحراك الشعبي، وتوفير عناصر تطوره ونهوضه وصموده.

أما الاستراتيجية المحكومة بأولوية العمل السياسي وكما أثبتت التجربة لا أفق لها، لأنها محكومة بسقفين وفق موازين القوى القائمة وبالسياسة الحالية لا إمكانية لاختراقهما، سقف إسرائيل يهدف إلى تصفية القضية والحقوق الوطنية لشعب فلسطين، وسقف أمريكا التي انتقلت في التعاطي مع المسالة الفلسطينية من أسلوب إدارة الصراع إلى أسلوب إنهاء الصراع، ومن السعي لتحقيق تسوية متحيزة لإسرائيل إلى محاولة فرض وتمرير الحل الإسرائيلي القاضي بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية.

ام تكن السياسة الأمريكية يوماً واضحة بمثل الوضوح الذي عبر عنه ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض حين أعلن أن الاستيطان لا يشكل عقبة في طريق السلام، ووافق على ضم كتل استيطانية إلى إسرائيل، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها، والعمل مع اسرائيل لتصفية حق العودة وقضية اللاجئين من مدخل إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، وتغيير وظائف وكالة الغوث، إلى سائر نقاط صفقة العصر التي باتت معروفة.

لتحرير الحالة الوطنية الفلسطينية من القيود التي تكبلها، ومن أجل شق طريق التقدم نحو إنجاز مشروعه الوطني لا يملك الشعب الفلسطيني وقواه السياسية وحركته الوطنية سوى خيار اعتماد استراتيجية تقوم على أولوية المقاومة، وما يحيط بهذا الخيار من محاور عمل أخرى سياسية ومؤسساتية وسواها، واستعادة عناصر القوة الفلسطينية المتمثلة بأمرين: القطع مع اتفاقات أوسلو، وبناء الوحدة الداخلية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق