الصنميةُ القوميةُ والخشبيةُ الإسلاميةُ

 

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

انتهت أعمال المؤتمرين القومي العربي والقومي الإسلامي بعد أربعة أيامٍ شاقةٍ من العمل الجاد والحوار المسؤول، والأفكار العاصفة والاقتراحات المختلفة، سبقتها جهودٌ كبيرةٌ واستعداداتٌ كثيرة لضمان انعقاد المؤتمرين في وقتهما، ونجاحهما في تحقيق الأهداف المرجوة منهما، بعد انقطاعٍ دام أربع سنواتٍ بسبب جائحة كورونا، التي عطلت الكثير من الأنشطة، وجمدت اللقاءات والمؤتمرات، واستبدلتها بأشكال أخرى هجين من وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لم تغنِ عن اللقاءات المباشرة، ولم ترقَ إلى الدرجة المرجوة من المؤتمرات التي تخلق العصف الذهني، وتفرض علاقات الرواق ولقاءات البهو واجتماعات الصالون، إلا أنها استطاعت رغم جمودها أن تجبر الكسر وأن تعوض الخلل، وأن تنتصر على الظروف وتنوب عن الغياب.

 

نجح المؤتمر القومي العربي في اختيار الأستاذ حمدين صباحي أميناً عاماً له، وانتخب أمانةً عامةً جديدةً تساعده وتعمل معه، في ظل أجواء هادئة من التوافق والتراضي، خلت من التنافس الحاد والاصطفاف الانتخابي، حيث لم يواجه الأستاذ حمدين منافساً له، وعُرضَ مرشحاً وحيداً، فنال ثقة المؤتمرين وصادقوا على انتخابه، وأعتقد أنه حظي برضا غالبية أعضاء المؤتمر، ولم يلقَ معارضةً تذكر، لما يتسم به من دماثةٍ وخلقٍ، ووسطيةٍ واعتدالٍ، واستنارةٍ ووعيٍ، وتاريخٍ مشرقٍ وماضيٍ مشرف، وكانت كلمته الأولى مبشرة وواعدة، عبر فيها عن أفكاره بهدوء، وكشف عن آماله وطموحاته بوضوحٍ.

 

كما توافق السادة المشاركون في المؤتمر القومي الإسلامي على التمديد للأستاذ خالد السفياني مدة سنتين إضافيتين منسقاً عاماً للمؤتمر، وتمديد عمل لجنة المتابعة للمدة نفسها، تمهيداً لعقد المؤتمر الثاني عشر، الذي سيشهد انتخاباتٍ جديدةً، لاختيار منسقٍ عامٍ جديدٍ، ولجنة متابعة جديدة، في ظل الآمال المعقودة بتطوير عمله، وتحسين أدائه، وتجديد أعضائه، وتوسيع تمثيله، ذلك أنه يعاني من تحدياتٍ كثيرةٍ، ويواجه صعاباً مختلفة، في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها منطقتنا العربية، وحالة الاصطفاف والفرز بين النخب  والطاقات الفكرية، إبان فترة ما يسمى بــــ"الربيع العربي"، وما رافقها من أحداث ومواقف، واجتهاداتٍ وتحالفاتٍ، وسياساتٍ واتجاهاتٍ، عمقت الانقسامات، وجمدت الحوارات وعقدت التفاهمات.

 

رغم أن المؤتمرين عقدا تباعاً وفي نفس الفندق، وكان فيهما أعضاءٌ مشتركون من الاتجاهين القومي والإسلامي، إلا أن الأهداف المرجوة منهما لم تتحقق بالشكل المطلوب، فقد انغلق المؤتمران على نفسيهما، واكتفى الأعضاء من كل اتجاه بالحوار مع أنفسهم، فإن كان المؤتمر الأول منسجماً مع نفسه ومتصالحاً مع ذاته، كون أعضائه جميعاً من ذوي الميول القومية، أو لا يتناقضون معها، فقد خلت النقاشات والحوارات من الحدة والتصادم، وغابت عنها أجواء الاحتدام والاشتباك، وطغت الأفكار القومية والهموم العربية، والأماني والطموحات والآمال والغايات.

 

أما المؤتمر الثاني فقد عانى من بعض القصور والضعف، فقد غاب عنه القوميون بصورةٍ لافتةٍ، وإن حضر بعضهم وشارك قلةٌ منهم في الحوارات، إلا أن الأغلبية القومية غابت أو قاطعت، عرضاً أو قصداً، وقد بدا ذلك واضحاً حتى خلال جلسة الافتتاح الأولى، التي تحدث فيها أقطاب المقاومة العربية، حيث غص البهو ومقاهي الفندق بالمؤتمرين، بينما كانت الجلسة الصباحية منعقدة، والكلمات تنقل عبر الفضائيات على الهواء مباشرة، وهو الأمر الذي تكرر في الجلسات التالية، التي بدت باهتة ضعيفة، قليلة الحضور تنقصها الفعالية، مما جعل الحوار بين الإسلاميين فقط، وهو ما يتعارض مع أهداف المؤتمر التي انطلق من أجلها، وهي التقارب بين التيارين، والحوار بين اتباعهما، أملاً في الوحدة وتنسيق الجهود.

 

لم تسعف المصافحات الشكلية واللقاءات العابرة التي جمعت أعضاء المؤتمرين معاً، والتي جاء بعضها عرضاً أو جرى خجلاً، في رأب الصدع بينهما، أو تلطيف الخلافات التي تعصف بهما، وتسهيل اجتماعهما وتفعيل الحوار بينهما، إذ استعصم كل فريقٍ بركنه وتمسك برأيه، فهذا يتهم الإسلاميين بالخيانة والتفريط، والتخلف والرجعية، ويرى أن سياستهم منحرفة وتحالفاتهم مشبوهة، وأنهم لم يراجعوا تجربتهم ولم يحاسبوا أنفسهم، ولم يعترفوا بخطأهم أو يصححوا مسارهم.

 

وذاك يتهم القوميين بالتسلط والفوقية، والتفرد والهيمنة، وعدم الاعتراف بالشراكة أو القبول بالتعددية، والإصرار على إنكار الآخر وتجاهل وجوده، والاستئثار بالوطنية وحصرها بتيارهم وتجريد غيرهم منها، رغم جمهورهم الكبير وامتداهم الواسع وتأثيرهم الشديد، وبعضهم يقول بصوتٍ عالٍ وكلماتٍ خشنةٍ، أن الثقة فيهم معدومة، والتجربة معهم غير مأمونة، والاطمئنان إليهم جهالة، والعمل معهم مغامرة، ولا مجال للحوار معهم، ولا أمل يرتجى من اللقاء بهم والحديث معهم.

 

يخطئ أتباع التيارين خطأ فادحاً ويرتكبون جريمةً كبيرةً في حق شعوبهم وأوطانهم، ويدمرون مستقبل أجيالهم، ويشاركون في تمزيق الأمة وتعميق الشرخ بين مكوناتها، إن بقوا مصرين على موقفهم، جامدين في مواقفهم، معاندين في توجهاتهم، فالأمة العربية تقوم على قاعدتين عظيمتين، وأساسين متينين، هما العروبة والإسلام، فهما كالجناحين العظيمين لهذه الأمة، التي لا تستطيع أن تحلق بدونهما، وفي حال إجهاض أحدهما أو إضعافه، فإن الأمة تصبح مهيضة الجناح كسيرة، عاجزةً عن التحليق والطيران، ولن تتمكن من تحقيق أيٍ من أهدافها مهما حاولت واجتهدت.

 

لا مناص لهذه الأمة عن الاتفاق والتفاهم، والالتقاء والتحاور، فكلا الطرفين في حاجةٍ إلى الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر مهما سما وعلا، فقوة العرب هي في إسلامهم الحنيف، وقوة الإسلام في العروبة المستنيرة الواعية، وكلا الفكرين زاخرٌ بعوامل القوة ومقدرات الصمود، وفيهما من أسباب التقدم والتميز والوحدة والمنعة الكثير، ولا يستطيع أيٌ من التيارين أن يقود الأمة ويتفرد في ريادتها، وأن يستأثر بالرأي ويحاكم عليه، وعبثاً يحاولون الافتراق والطلاق، فالضاد يحفظها القرآن، والقرآن يحمله العرب، وعلينا أن ندرك يقيناً أن الصنمية الموروثة تيهٌ وضلال، وأن الخشبية العدمية تخلفٌ وانحطاطٌ.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق