الأخبار
هناك سردية رائجة عن أنّ كلفة المعيشة صارت زهيدة انطلاقاً من إعادة احتساب سعر السلعة أو الخدمة بالدولار لتصبح النتيجة انخفاضاً في السعر. وهذا النوع من الحساب، تبنّاه وزير السياحة عندما سمح لأصحاب المؤسسات السياحية بإصدار الفواتير بالدولار النقدي (الفريش). فعلى سبيل المثال، كان سعر صحن «الحمص بطحينة» 5 دولارات أي ما يعادل 7500 ليرة سابقاً، ولكنه أصبح اليوم دولاريَن أي ما يعادل 55 ألف ليرة اليوم. أمثلة من هذا النوع خلقت التباسات حول الكلفة وطرق الاحتساب المضلّلة، بينما هي في الواقع تعبير عن موازين القوّة وميلها لصالح فئة على حساب باقي الفئات.
«هل البلد رخيص أو باهظ الكلفة؟» ليس هو السؤال الصحيح، إذ يمكن إعادة صياغته ليصبح: كيف تُحتسب كلفة المعيشة نسبة إلى المداخيل؟ المسألة نسبية جداً. ففي ظل انهيار سعر صرف الليرة، أصبح من يتقاضى دخله بالدولار النقدي قادراً على النظر إلى كلفة المعيشة بشكل مختلف عن أولئك الذين يتقاضون دخلاً بالليرة اللبنانية. لكن الأساس هو أن وحدة القياس هي الليرة، وأن التضخّم بفعل انهيار الليرة أصاب الجميع (التضخّم يقيس بين فترتين زمنيتين كلفة استهلاك الأسر على أساس سلّة من السلع والخدمات).
بالاستناد إلى ذلك، يمكن القيام بجردة حساب لكل طرف بأرباحه وخسائره. الخسارة التي أصابت الجميع، أي التضخّم الذي تراكم بنسبة 825% بين مطلع عام 2019 لغاية نهاية نيسان 2022. وفي مقابل هذه الخسارة، سجّلت الأطراف أرباحاً في مداخيلها على النحو الآتي:
- أصحاب المداخيل بالعملة الأجنبية (الدولار) ربحوا من ارتفاع سعر الدولار قدرة شرائية إضافية بنحو 18 مرّة، أي ما نسبته 1690%، إنما أكل منها التضخّم نحو 825%، ما يعني أن هذه الفئة حقّقت ربحاً بفعل هذا الانهيار بنسبة تصل إلى 865%.
- أقرّت الحكومة زيادة في الأجور استفاد منها أصحاب المداخيل بالليرة في القطاع الخاص وباستثناء القطاع العام. وبحسب أرقام الضمان الاجتماعي، فقد كان الأجر الوسطي المصرّح عنه يبلغ 1.88 مليون ليرة، وفوقه كان الأجير يحصل على 8 آلاف ليرة عن كل يوم عمل فعلي يحضر فيه، أي ما مجموعه 2.088 مليون ليرة (بدل النقل يُحتسب على أساس 26 يوم عمل فعلي). وإذا اعتبرنا أن الزيادة في الأجور التي صدرت أخيراً بقيمة 1.325 مليون ليرة، ستُعطى لكل الأجراء (المرسوم حصرها بالأجور التي لا تُجاوز قيمتها 4 ملايين ليرة، إنما المنطق يفترض أن الجميع سيحصل على الزيادة)، أي أنّ الأجر الوسطي سيبلغ 3.2 مليون ليرة، مضافاً فوقها الزيادة التي طرأت على كلفة النقل بقيمة 1.48 مليون ليرة شهرياً (الفرق بين 8 آلاف ليرة يومياً وبين 65 ألف ليرة يومياً)، يصبح الأجر الوسطي 4.68 مليون ليرة. وبالتالي فإن الأجور زادت بمعدل 2.24 مرة، أي ما نسبته 124% في مقابل تضخّم بنسبة 825%. التضخّم كبّد الأجور المصرّح عنها للضمان الاجتماعي خسارة هائلة تفوق 700%.
بمعنى أوضح، إنّ كلفة المعيشة زادت على المداخيل بالليرة، أكثر بكثير ممّا زادت على المداخيل بالعملة الأجنبية. كما أن مكاسب حاملي العملة الأجنبية، أكبر بكثير من مكاسب الأجور بالليرة. وهذا الأمر لا يعود فقط إلى ديناميكية الأزمة وقدرتها على التسارع مقابل بيروقراطية اتخاذ القرار بتصحيح الأجور، إنما هو أمر يعكس موازين القوّة في بنية النظام. إذ إن شراكة قوى السلطة مع قوى رأس المال، أتاحت لهذه الفئات إبطاء عملية تصحيح الأجور والحدّ من مفاعيلها (ومنع معالجة أصل المشكلة وتداعياتها)، ما كبّد المداخيل بالليرة خسائر ضخمة أصابت أيضاً المدّخرات بالليرة، وأصابت أيضاً المدخرات المحليّة التي يتم التعامل معها باعتبارها دولاراً محلّياً، أو كأنها ليرة من مستوى آخر لا يرقى ليكون دولاراً حقيقياً.
والخسارة ليست ثابتة، بل متواصلة طالما أن الأزمة مستمرّة. أي أن الاختلال سيزداد بين فئتي الدخل، وسيتّسع أيضاً في داخل الفئات (موظفو القطاع الخاص وموظفو القطاع العام مثلاً). لكن من هم أصحاب المداخيل الرابحة؟ هم الذين لديهم أولوية للوصول إلى الدولارات التي يضخّها مصرف لبنان، وهم السياح الأجانب والمغتربون الذين يحملون هذه الدولارات من الخارج، وهم الأجراء الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار النقدي. لكن الغالبية المقيمة في لبنان مداخيلها بالليرة. أكثر من نصف القوى العاملة غير المصرّح عنها تتقاضى أجراً بالليرة، والعاملون في القطاع العام (عسكر وقوى أمنية، وإداريون وأساتذة وجامعيون وعاملون في المؤسسات المستقلة...) وعددهم يفوق 400 ألف يتقاضون مداخيلهم بالليرة. أما غالبية المصرّح عنهم للضمان فهم أيضاً يتقاضون رواتبهم بالليرة. الخسارة كبيرة جداً ولا يمكن قياسها ببضعة أرقام. إنما هذا الحساب هو مجرّد مؤشّر على اتجاه هذه الخسائر وعلى الجهات التي أصابتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق