أجيال التحرير... ذاكرة النكبة إرث من حديد للأحفاد- أمجد ياغي


العربي الجديد
15-05-2022
يعيش الجيل الرابع بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 على ذاكرة الجيل الأول الذي عاصر النكبة، وأجبر على الهجرة بعد المجازر الإسرائيلية، وأحدهم أحمد مصطفى ياغي (84 عاماً) الذي لم تغب قرية المسمية الكبيرة وأدق تفاصيلها عن ذاكرته، وكذلك أدق تفاصيل الكفاح الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، وأيضاً رحلة الهجرة برفقة أشقائه الأصغر سناً الذين مشى معهم عشرات الكيلومترات للوصول إلى ما اعتبر حينها بر الأمان في غزة، بعيداً من مجازر الجماعات الصهيونية التي كانت تنفذ أعمال تطهير للعرق الفلسطيني.
الجيل الأول "المقاتل"
يعيش ياغي اليوم في العاصمة المصرية القاهرة، ويعتبر مرجعاً مهماً لأبناء عائلته الموجودين بكثرة في قطاع غزة والضفة الغربية والأردن، وأيضاً في دول عربية وحول العالم. وهو "يقاتل" اليوم على طريقته وضمن عالمه لتوريث الحق والذاكرة الفلسطينية بعد رحلة نضال أعقبت أحداث النكبة، علماً أنه كان عضواً سابقاً في المجلس الوطني الفلسطيني.
كان ياغي في العاشرة من العمر عندما اندلعت أحداث النكبة. عايشها وسمع أخبارها وحفظ تفاصيلها حين رافق والده وأشقاءه وشاهد المقاومين للاحتلال وحياتهم النضالية التي تطلبت بيعهم ما يملكون من أجل شراء السلاح والدفاع عن الأرض. كما حفظ ذكريات تنقله بين مدرسة قرية المسمية والأراضي الزراعية التي تملأها، وضمها فلاحين ومزارعين ودكاكين صغيرة، واحتوائها على أراضٍ لمحاصيل القمح والشعير والذرة والسمسم والحمضيات، وعيش أهلها بهدوء وسكينة واطمئنان.
في البداية، هاجرت أسرة ياغي من المسمية إلى قرية بيت جبرين بقضاء الخليل، ثم قرية بتولة حيث مكثت شهراً. وبعدها جاء والده مصطفى وأخبرهم أن أفراد العائلة سيتوجهون إلى غزة، حيث يعيش شريكه في العمل والتجارة والذي يدعى إبراهيم مسعود، وهو مسيحي. ولاحقاً اتجهوا إلى مدينة المجدل وسلكوا الطريق المحاذية للبحر إلى مدينة غزة إذ استقروا في منطقة السدرة.
يقول ياغي لـ"العربي الجديد": "هاجرنا في اليومين الأولين لشهر رمضان عام 1948، واللذين صادفا حينها في 3 و4 يونيو/ حزيران، ونفذنا رحلة اللجوء حيث أذكر أنني أمسكت يدي شقيقيّ عبد الرحمن الذي كان يبلغ 7 أعوام وديب (4 أعوام)، ومشينا 15 كيلومتراً على طريق البحر وصولاً إلى غزة. وأذكر أنّ أول طبق تناولناه هو الملوخية، وأنّنا جميعاً كنا نعتقد بأنه لن يمضي وقت كبير قبل أن نعود إلى أرضنا، حتى أنّ شقيقي ديب كان يجمع نواة البلح بأمل أن يزرعها عند العودة إلى القرية".
ويذكر ياغي المقاومين من أبناء المسمية الذين واجهوا الجماعات الصهيونية، وأن حوالي خمسين منهم حملوا بنادق، وشاركوا في معارك بمواقع عدة مثل وادي الصرار وبيت دراس، واستشهد عدد منهم. ويروي أن ما شاهده مع أبناء جيله في رحلات اللجوء دفعتهم إلى التعلم وتحصيل الثقافة للدفاع عن القضية. درس ياغي ثلاث سنوات في مدرسة قرية المسمية التي تقع على طريق بين يافا والقدس. وتظهر صور استمرار وجود المدرسة على حالها حتى اللحظة. وأكمل دراسته في مدارس الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وحصل على شهادة الثانوية العامة في السادسة عشر من عمره نتيجة تفوقه، ثم درس في كلية التجارة بجامعة عين شمس بمصر، وانتقل إلى الحياة السياسية من أجل تحقيق فكرة التحرير والعودة.
وانضم ياغي إلى المكتب السياسي لحركة القوميين العرب. وتوجه بعد حرب النكسة العربية عام 1967 التي خلّفت إحباطاً كبيراً لدى الفلسطينيين برفقة شبان جامعيين الى الأردن، من أجل جمع السلاح وتأهيل الشباب المقاومين، وإنشاء قواعد عسكرية للتحرير، وتأسيس جيل ثانٍ بعد النكبة لقيادة النضال الفلسطيني.
يذكر أنّه "خلال حرب 1967، كان المذيع أحمد سعيد ينقل البيانات العسكرية عبر صوت العرب، من أجل رفع الهيبة العسكرية وغيرها، ومن تابع باقي الإذاعات كان يعرف أن العرب سيهزمون، لكن إرادة الفلسطينيين بالقتال زادت إلى جانب قناعتهم بأن لا أمل سوى بحمل السلاح، وضحى طلاب بدراستهم للقتال واستعادة فلسطين، وبعضهم كانوا ضباطاً في جيش التحرير الفلسطيني".
ويعلّق بأنّ "جيلنا هو أكثر جيل واجه مشاكل. فكرنا أطفالاً بالتحرير حين كنا نبلغ 14 عاماً ونظمنا تظاهرات، وبقينا على هذه الحال حتى عام 1956 قبل أن تتطور أفكارنا من دون أن يموت فيها أمل التحرير، لكننا شعرنا عام 1985 أننا انتهينا لأن الفلسطينيين تشتتوا من قلب لبنان إلى سورية وتونس والجزائر وغيرها، أي بعيداً عن حدود فلسطين ثم أعادت الانتفاضة الأولى عام 1987 الأمل لنا من جديد".
يضيف: "شعرنا بعد الانتفاضة الشعبية أن فلسطين قادمة، كما شعر الإسرائيليون فعلاً بخطر كبير، وجاء الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، وقرر حل القضية الفلسطينية ومهّد لذلك بعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وترأس الوفد الفلسطيني حينها الطبيب والسياسي الراحل حيدر عبد الشافي، واعترض على عبارة أرض متنازع عليها في الوثيقة، واعتبر أنّ إسرائيل لا تريد السلام، ثم استبدل هذا الوفد بآخر".
ويخبر ياغي أنه شعر بالحسرة والبعد عن فلسطين بعد اتفاق أوسلو عام 1993 الذي يؤمن على غرار فلسطينيين كثيرين أنه جلب مصائب لهم، وبينهم أيضاً أعضاء في حركة فتح. ويعتبر أن الجيل الفلسطيني الشاب الحالي يعيش في مرحلة ضياع، من دون الاحتضان الرسمي لقواهم الفكرية الوطنية، لكنّه يملك رغم ذلك إيماناً قوياً بالأجيال القادمة أي ما بعد أحفاده، وبأن إسرائيل ستنتهي "لأنه كيان قائم بالظلم والنهب ولا يمكن أن يحصل تصالح معهم".
الجيل الرابع... والحق
وبالانتقال إلى الجيل الرابع لمرحلة ما بعد النكبة فهو عاصر كل تفاصيل الاحتلال الإسرائيلي وحروبه ومجازره طوال الأعوام الـ15 الأخيرة، وتأثرّ كثيراً أيضاً بالانقسامات الفلسطينية باعتباره عايش التجاذبات السياسية الفلسطينية والرايات السياسية المختلفة في التظاهرات، لكنه متمسك بحفظ الذاكرة الموروثة من الجيل الأول.
وقد توفرت معلومات لهذا الجيل من خلال الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، واندفع بعضهم للبحث بعمق أكبر عن أصولهم وأحداث النكبة وقصصها. وأسسوا صفحات ومجموعات تحمل أسماء البلدات التي تهجرت منها عائلاتهم، وباتوا ناشطين فيها، ويضيفون إليها أبناء العائلة حتى أولئك المغتربين في بلدان أجنبية وعربية، وهذا ما يفعله عبد القادر السلاق (16 عاماً) وفادي السبع (17 عاماً).
سمّي عبد القادر السلاق من غزة على اسم جده الراحل الذي يحمل اسم القائد العسكري الفلسطيني والمناضل في وجه الجماعات الصهيونية قبل النكبة الفلسطينية عبد القادر الحسيني. ويعرف الشاب تماماً شخصية عبد القادر الحسيني وسبب استشهاده، وكذلك معلومات كاملة عن قرية بيسمون التي يتحدر منها وتقع في سهل الحولة شمال شرقي مدينة صفد المحتلة.
يقول السلاق لـ"العربي الجديد": "علمت من جدي أن والده هو الوحيد الذي هاجر إلى غزة من العائلة، بينما لجأ الباقون إلى مخيمات لبنان. في معظم الأيام أسمع عن قرية جديدة من أصدقائي. لا نرث فقط ما قاله له أجدادنا فقط، بل كلّ ما هو فلسطيني، وأنا أحفظ أسماء أكثر من 50 قرية أعرف معلومات عنها وثقافتها التي نحكي أخبارها في المدرسة، وبالنسبة لنا العودة هي حق كالشمس".
تعود أصول فادي السبع الى قرية تل السبع التي تقع قرب مدينة بئر السبع بمنطقة النقب الفلسطينية، وقد أنشأ قبل عامين مجموعة تضم أبناء العائلة الذين يعيش ويعمل غالبيتهم منذ عشرات السنوات خارج فلسطين، ويتبادلون في شكل يومي معلومات عن القرية ومدينة بئر السبع والنقب، وثقافات أساليب عيش عائلاتهم في البادية القديمة.
ويشير السبع إلى أنّ معلوماته تزداد يوماً بعد يوم عن بلده المحتل وثقافاته القديمة، وأنه فوجئ عندما علم بوجود عدد من المدارس في منطقة النقب الفلسطينية، بعدما اعتقد طوال سنوات بأن أهل البادية كان يدرسون في مدارس مشيّدة في خيم وتحيط بها خيول ومجالس لضيافة القهوة. ويقول لـ"العربي الجديد": "وجدت أن مدن فلسطين وقراها القديمة كانت جميلة ومتقدمة في التعليم والزراعة والتجارة وغيرها". يضيف: "كان والد جدي حياً عندما ولدت، وأذكر أنّه قال مرة إنّه لم يتوقع أن يشاهد أحفاد أحفاده يوماً، وأنه كان يظن أنه سينجب جدي عند العودة لقريته تل السبع، لكن جدي ولد في مخيم جباليا عام 1955 ولاحقاً عرفت أنّ الإسرائيليين حولوا القرية إلى مدينة، وأنّ بعض القبائل البدوية لا تزال هناك. وحتى إذا لم تتحرر فلسطين عندما أكون حياً، سأخبر أبنائي بقصصنا، وأوصيهم بتوريث ذلك لمن بعدهم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق