اختفاء بطل مخيم البرج: ماذا فعلت بي يا يعقوب؟!

 

أحمد الحاج علي

هذه قصة طفل انتظر أكثر من ثلاثين عاماً ليحكي الحكاية. يعني أن ذاكرته كانت تقاوم محاولات تدميرها، فصمدت وتمرّدت على ذات راغبة بمحوها طيلة تلك الأيام، ثم تصالحت معها، ليرويا القصة في زمن ممتد منذ عام 1984 إلى سنوات ست لاحقة، في مخيم برج البراجنة، وما تخلل تلك السنوات من جروح في حرب طويلة تركت أوشامها على جسده الطري، ومحاولات بائسة للهروب من الألم نحو أكثر من بطل اسمه يعقوب.

أحاديث المساء 
في مخيم برج البراجنة نهاية عام 1984، وحوادثه في ذلك الزمن، انقاد طفل بالكاد تجاوز عشرة أعوام إلى أقرب مكتب للفصائل لينضم إلى مجموعة من "الرفاق الأشبال". فمنذ شهرين كان انطلق من ذاك المخيم معظم عناصر "عملية الأوّلي" أو ما عُرف بعملية شهداء صبرا وشاتيلا البحرية: قائد العملية فتحي ضاهر وزوجته الفرنسية فرانسواز كاستيمان، اللذان قُتلا خلال العملية.
أما جارا بيتنا طارق مصطفى ومحمد غندور فكانا أسيرين منذ تلك العملية. عملية بحرية تالية تنطلق من المخيم، وشهداء جدد. أحاديث المساء تحتل المساحة الأكبر منها حكايات شهداء اجتياح 1982. الأسرى المحررون قبل عام يشعلون الحماسة في جيل كامل. الخشية على مصير المفقودين تزيد الغضب. لم يكن غريباً أن نستسلم في تلك الأجواء لقيادة الرفيق يعقوب، وجلساته الطويلة.

الكف الأخضر
ويعقوب من عائلة ميسورة نسبياً، لكنه لا ينفك يتحدث عن صراع الطبقات في مخيم ليس فيه تقريباً سوى طبقة واحدة. كان يُسره النسبي استثناء أضفى على أحاديثه الكثير من المصداقية. جسده الممتلئ يُخفي تماماً الكرسي الجلدي الممزق خلفه. يحدّثنا عن بندقيته "النظيفة" في حرب الجبل، فيلامس شوقنا للبطولة والتصاقنا ببراءة لم نغادرها بعد. كيف كان يظهر ليلاً بعد الاجتياح الإسرائيلي ليطبع "الكف الأخضر" على جدران المخيم. تحديق السكان وقتها بالكف فعلُ تحدٍ. لماذا الكف؟ يتنحنح الرفيق يعقوب، ليجيب أن الكف "إثبات وجود منتشر في كهوف الإنسان الأول. والكف الأخضر هو عنوان أول ثورة فلسطينية مسلّحة، وكان معظم عناصرها من الدروز، مما يعطي ثورتنا بعدها اللاطائفي".

ليس المهم أن نفهم كل كلام الرفيق يعقوب. فقصورنا عن فهم بعض المصطلحات دليل إضافي على تفوقه. نستمع إليه بشغف ساعات كل يوم، ونسأل الكثير. يسحرنا، حتى أننا ننسى أحياناً أن نصب الشاي من إبريق نحاسي أحاله الشحبار إلى السواد. لم نعد نرى غيره بطلاً يستحق أن يُنسب إليه كل فعل كنا نراه بطولياً. نسأله عن دوره في قتل "العملاء"، يصمت، فنبتسم، ونضيف بطولة أخرى إلى بطولاته، أو هكذا أراد أن يوحي بصمته.

نسأله فلا نتلقى إجابة عن تشابه خطه، كما أردنا أن نعتقد، برسم عبارة بالأحمر خُطت بعيد الاجتياح على جدار قريب من مسجد فلسطين: "انضموا إلى حلف وارسوا" (كذا بواو الجماعة وألف التفريق). المخيم الذي لا يُعرف مصير العشرات من شبابه، وترعبه الشائعات عن مذبحة قريبة شبيهة بمجزرة صبرا وشاتيلا، هناك من جازف ليطلب من السكان الانضمام إلى حلف وارسو علّه يضيف قوة إلى قوة 3500 رأس نووي. رأيناه فعلاً ثورياً لا يجدر إلا بقائد كالرفيق يعقوب، مع أنه لا يمكن أن يخطئ خطأ إملائياً بهذه الفداحة. علّمنا نهم القراءة، أو ما يريد منا أن نقرأ. حفظنا كل أغاني الشيخ إمام ورددناها معاً. سكن كل تفصيل في حياتنا، وأداره كما يريد.

حصار المخيمات والهجرة
يأتي حصار المخيمات الأول في أيار من العام التالي. قسوة عدم رؤية الرفيق يعقوب لشهر كامل تكاد تعادل قسوة القصف اليومي. دعانا يعقوب بعدها لأول اجتماع. لم يكن كما عرفناه. غابت الابتسامة عن وجهه الذي بدا شاحباً. حديثه مقتضب. بدا زاهداً في الكلام عن بطولاته، على عكس ما انتظرنا، وعلى نقيض عادته. حتماً بين القتلى المئتين كثير من رفاقه. لكن كنا نظنه أقوى من أي حرب. "ربما يخطط لشيء ما سيغيّر الكثير"، طالما ردّدنا. أصبح ثقيل الحركة، حتى أنه لم يمسح الغبار عن لوحة الحائط إلا بعد أسابيع من انتهاء المعركة.

بدأت هجرة الشباب بالمئات إلى الدنمارك والسويد خصوصًا. استدعانا الرفيق وحدّد لكل واحد منا موضوعاً يكتب فيه. وطلب مني أن أتناول الهجرة. لأول مرة تجتاحني البهجة منذ أشهر. اعتبرت طلبه اعترافاً بنضوجي المبكر. رحت أياماً أتأنى في انتقاء الكلمات. عثرت على عدد من مجلة "فلسطين الثورة"، سرقت عبارات كاملة. كل غايتي أن يُعجب مقالي الأول الرفيق يعقوب، وأستمع إلى إشادة منه. وبين الفقرة والفقرة أعود لأطلب رأيه، أو طامعاً في مديحه، لكنه كان شارداً معظم الوقت. وعند إلحاحي يهز رأسه مرتين. موضوع استغرق أسبوعين. سلّمته إياه، قرأه على عجل. هزّ رأسه. أصررت عليه لإبداء رأيه فقال بعد تردد "جميل". ثم ألصقه ببرود على لوحة الحائط.

يزداد شرود الرفيق يعقوب. ومعظم الأحيان لم يعد يسمع ما نقول. أصبح مدخناً شرهاً. عود ثقاب واحد لأول سيجارة حالما يجلس على كرسيه، ثم تتولى بقية السجائر المهمة. لم يعد يدعونا للاجتماع الدوري كل ثلاثة أيام. صامت كل الوقت تقريباً. أخذ يتغيب، يومين في الأسبوع، ثم ثلاثة أو أكثر، لم أعد أذكر. بعد شهر تقريباً، أصحو باكراً، لأتفاجأ بخبر متفش في مخيم بلا أسرار، بمخيم يكاد يكون بلا جدران لتداخل البيوت: هاجر الليلة يعقوب مع مجموعة شبان إلى الدنمارك. لا أصدّق. أذهب إلى المكتب، فأرى رفيقاً آخر يجلس مكانه. لا حاجة للسؤال، بل للبكاء. شعور بالتيه والانهيار، سقوط النموذج والحلم في لحظة.

وُلد بطل بشاربين
ربما لو أنه لم يكن يحدّثنا عن التضحية ومتطلباتها، لما كان قراره بهجر الحرب والمخيم بهذه القسوة. غادرتُ المكتب ولم أعد. بعد أيام وجدت في مكتبة كتيّباً لمصطفى محمود "لماذا رفضت الماركسية؟". انتظرت أياماً أخرى لأجمع ثمنه. لم أفهم الكثير منه، ولم أكن أريد أن أفهم، كنت أثأر، أحاول أن أشفى. عبارة وحيدة ربما حفظتها من الكتاب منسوبة لخروتشوف حول أفضلية البقرة التي يملكها صاحبها عن تلك التي تملكها الحكومة. كنت أظنها كافية لإدانة يعقوب.

المعارك تحتدم، والحاجة إلى بطل تكبر. يطلّ وجه يعقوب آخر، أو هكذا تجدر تسميته. هذه المرة هو الأخ يعقوب، لكنه أقل ثقافة بكثير من الرفيق يعقوب. تُصاغ حوله الحكايات. السكان مجبرون على تصديقها ليصدوا بها بعض الخوف، ويستجلبوا وعود الانتصار التي صغرت كثيراً. كانت قبل عام "العودة إلى وطنهم"، واليوم النصر هو البقاء ولا شيء غير البقاء. رأيته للمرة الأولى يخطب بارتباك شديد أمام حشود صفقت طويلاً لعبارات تؤكد على "القرار الوطني المستقل". يتلعثم وهو يعلن إزاحة الستار عن نصب يضم صور الشهداء، يسمّي الساحة باسمهم. صدّقنا ما أُشيع أن التلعثم لحزن اعتراه عند تعداد أسماء شهداء يعرفهم، وليس لبلادة فكرية عقدت لسانه. لا حديث عن طفولته، ولا مراهقته، كأنه وُلد بطلاً بشاربين.

بارود وغبار
حوالى شهر ونصف شهر على بداية الحصار الأقسى. قضى المخيم ليلة طويلة من القصف في الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول عام 1986. تهشم النصب كثيراً، وتبعثر الركام في الساحة. إطلالة الشمس على ذلك المكان جاذبة بما أن الأسطح كلها في مرمى نيران القناصين. الساعة تقترب من العاشرة، لا أحد سواي، وامرأة وطفلتها تملآن جرتي ماء، عند صنبور مياه، واحد من آخر الصنابير القليلة المتبقية في المخيم. الناس في نوم بعد تلك الليلة الرهيبة. رحت ألملم الصور المتناثرة. مرّ مسلّح أزال بعض الركام من الطريق ومضى. مشى الأخ يعقوب مسرعاً بجانبي، بلا مرافقين هذه المرة، ولم ينتبه إلى الصور المبعثرة لمن سماهم قبل أشهر قليلة "إخوتي الشهداء". دخل بيت امرأة تسكن وحدها من دون أن يطرق الباب.

دقائق قليلة، ضوء كأنه نار تأكل المكان، وطنين ما زال في أذني. قذيفة. أسير خطوتين، ثلاث، فأقع. أحاول أن أقف ثانية. لا قدرة على الوقوف، أو حتى تحريك القدمين. أستسلم للأرض، وقدرة الأخ يعقوب على المجيء بأي لحظة مادّاً يديه لإنقاذي. لهذا كانت صرختين، الأولى "يمّا"، الكلمة التي يضعف الإنسان أمام صاحبتها من دون أن ينكسر. والصرخة الثانية "يعقوب". أمي بعيدة لا تسمع، وربما أحسّت. ويعقوب كان يسمع اسمه ونداءات الاستغاثة. البارود والغبار يملآن صدري، ولا يطردهما السعال. أسمع أنيناً من مكان قريب، فلا أكترث بداية. لا أريد سماع سوى صوتي ليملأ الفراغ، ويكسر الصمت المرعب، ويسلّي وحدتي. يعقوب لا يستجيب.

ينجلي الغبار قليلاً، والأنين يخفت ثم يقوى. ألتفت يُمنة إلى مصدر الصوت، المشهد أصعب من أن يحتمله طفل في الثانية عشرة. الأمّ ممددة على الأرض، بلا صوت، بلا حركة، ورأسها قاوم الانفصال عن الجسد بقليل من اللحم المتبقي في الرقبة. مذهل أن "سعاد"، كما عرفت اسمها فيما بعد، ما زالت تقبض بيدها على جرة ماء. طفلتها بجوارها، تتنفس بصعوبة، صرخاتها خافتة، وصوتها غير طيّع للصراخ الحرّ.

اختفاء البطل
جلاء الغبار أكثر يكشف الجروح ومواقع النزف في جسدي. هي على طول الجسد وعرضه. القدمان، الصدر، البطن، الساعدان وحتى الأصابع. لم ينفع إغماض العينين ليخف الخوف. كنت أظن قبل تلك اللحظة أن الحياة ستكون أطول، وأن الستارة بالكاد فتحت، لكن كانت لحظات تذكّر أصدقاء أقران رحلوا في ظروف شبيهة: طارق وأشرف وغيرهما. محاولة هروب نحو اللحظة التي يطل بها يعقوب، لكنه لم يفعل. أحاول طرد الخوف بكل الأولويات التافهة، ألتفت للجروح السفلية من الجسد، لألهو عن نزيف البطن والصدر، أحدّق في الجرة بيد سعاد. لكن كل ذلك لم يصنع فارقاً. أعود للصراخ "يعقوب، يعقوووب، يعقوووووب".

فجأة، يدان هزيلتان دبقتان تلتفان حول جسدي. أنظر في الوجه، ليس وجه يعقوب، ولم يعد مهماً بأن يكون. إنه عصام، ذلك الشاب الذي يدرس الهندسة. حمل السلاح من دون أن يجيد استخدامه تماماً. آمن بقضية، وكان مستعداً لأن يدفع ثمن ذلك الإيمان. هكذا فعل أخوه إحسان منذ أربع سنوات، حين قطع رحلته الدراسية خارج لبنان، ورجع خلال الاجتياح لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الجنود الإسرائيليين في البقاع. فُقدت جثته خلال إحداها في بلدة المنصورة. لينضم اسمه إلى لائحة طويلة من المفقودين في المخيم، الذي أصبح سوقاً رائجة للعرافات منذ بداية الحرب الأهلية. حملني عصام إلى عيادة إسعافات أولية قريبة يديرها متطوعون أجانب، قبل نقلي للمستشفى في رحلة علاج طويلة.

(يتبع)

اختفاء بطل مخيم البرج: يعقوب المزيّف يأكل الدجاج


حلقة ثانية بعد أولى من قصة طفل انتظر أكثر من ثلاثين عاماً ليحكي الحكاية. يعني أن ذاكرته كانت تقاوم محاولات تدميرها، فصمدت وتمرّدت على ذات راغبة بمحوها طيلة تلك الأيام، ثم تصالحت معها، ليرويا القصة في زمن ممتد منذ عام 1984 إلى سنوات ست لاحقة، في مخيم برج البراجنة، وما تخلل تلك السنوات من جروح في حرب طويلة تركت أوشامها على جسده الطري، ومحاولات بائسة للهروب من الألم نحو أكثر من بطل اسمه يعقوب.

مجد الخطب الضحلة
لم تنته الحكايات حول بطولات يعقوب، لكن بعد أشهر من الحصار الطويل، وإطلالة الجوع القاتل، راح الهمس عن ترف يعقوب يهشم صورته. إنه يأكل الدجاج الطازج، إنه المحاصَر الذي يعيش خارج الحصار. وفي وقت كنت وإخوتي نتقاسم بأنفسنا حبات العدس، بعد إصابة أمي بقذيفة شاردة، وتبرز عظامنا الناتئة، من خلف الثياب، وتزداد وجوهنا شحوباً، كان يعقوب المترف يزداد وزنه عدة كيلوغرامات. لماذا لم يتعاطف معي جريحاً، لماذا لم يتعاطف مع الجوعى؟ بينما جارتنا أم قاسم تقاسمت معنا آخر ما بقي عندها من طحين، في وقت كان يعني كل رغيف حياة وروحاً. هل إن تمجيدنا يعقوب، وصوغنا الأساطير حوله، أحاله شخصاً فوق حضورنا، ففقد التعاطف معنا، هل نحن مسؤولون؟

كان يعقوب يعتلي المراتب، ويتلقى التنويهات، وجسدي يتكور أكثر في الليل، في بحث عن حالة جنينية تبعث على الاطمئنان. صنع مجده من تلك الجروح، وبعض الخطابات الضحلة، وقدرته على الامتثال لأوامر رؤسائه من دون أي اعتراض. مأساة أنه أثناء سقوطه فجأة من مرتبة البطولة إلى الوضاعة لم يسقط وحده، بل سقطت أحلام كثيرين معه، ومن بينهم ذلك الطفل الذي لم يستجب لنداءاته. والمأساة الأكبر أن سقوطه الأخلاقي كان يسير في خط معاكس لصعوده السياسي.

سيكون عام اكتشاف الجسد، فألقاه مشظى، كأنني منفيّ داخل جسد، بمخيم على هامش العالم، أو منفي منه. الحاجة ملحّة للهروب من منفيين: الجسد والمخيم. يظهر من دون مقدّمات من يستجيب لتلك الحاجة بعد عام. إنه يعقوب آخر. التقيته في جامع فلسطين، القائم منذ عام 1950. لا يردّ ذاك الجامع طالباً للكلام، حتى إن القائد في الهيئة العربية العليا إميل الغوري خطب فيه عام 1964 محاولاً الحدّ من التحاق كثيرين بالبعث وحركة القوميين العرب.

فساد يعقوب الثاني والثالث
كان الأخ يعقوب يختار دائماً زاوية المسجد ليتحلق حوله مريدوه. أحاديثه آسرة خصوصاً عن عدم التفريق بين الأعداء وأهل الفساد. كان ثورة بذاته. اقتربت منه حتى صرت بين يديه "كالميت بين يدي غاسله" كما تقول المتصوفة. أقلّد صوته وطريقة كلامه. أفرح لأن بعض شعرات نبتت على وجهي، "فلحيتي ستصبح مثل لحية يعقوب". يكفي أن يقول لأعتبر قوله أمراً. حدّث عن أبي ذر الغفاري فوقعت في عشق ذاك الثائر الذي سمّاه البعض اشتراكياً. لماذا أبو ذر؟ هل هو ردّ فعل على فساد يعقوب الثاني، أم عرق دسّاس لجدّ صوفي، شوهد في مدينة عكا يغمس حبة تين في التراب ويأكلها عقاباً لنفس تمادت في الاشتهاء، أم أنني لم أُشف بعد من الرفيق يعقوب؟ قال سأدعوك أبا ذر، ومثله لا يَسأل بل يُطلق الأسماء، ويسبغ الصفات.

استرجعَت أحاديثُه القوة إلى جسدي الهزيل، بعث به إرادة أعادت ترميمه، ما عدت منفياً داخله ولا مضطرب العلاقة معه. كل الحواجز المحيطة بالمخيم لم تعد تعنيني كثيراً. يكفي أن يحدثني عن أفغانستان لأشعر أن وادي بانشير أقرب إلي من "جورة ترشيحا" حيث أسكن، فننشد بحضرته "يا قمم جبال سليمان/ النصر لشعب الأفغان". يجول بنا العالم في رحلات طويلة عبر خطبه ونحن لا نستطيع اجتياز حدود المخيم إلا بتصريح. تخلصتُ من منفيي الجسد والمخيم معاً.

الحياة بلا حلم
حوالى ثلاثة أعوام لا انفكاك للمشاعر والتفكير والطباع عنه، صرنا "مجاذيبه". كانت صورته خالية من الشوائب إلى أن اختبرت الحياة نقاءه. بقوة مريديه سلب أرضاً. ذرائعه كانت واهية "بيتي صغير، كذلك الأرض، وهي ليست ملكاً خاصاً، و.."، هكذا أجاب حين تجرّأ بعضنا وسأله. يعقوب، كان يردّ قبل ذلك إذا أعياه السؤال واستعصت عليه الأجوبة "استفتِ قلبك"، والقلب ما كان يحكم إلا حكماً واحداً: ما فعله يعقوب هو سلب لا يقبل التأويل.

حوالى ستة أعوام ظهر أكثر من يعقوب بأكثر من وجه وأسلوب خداع، حوّلت كل معاني غيرية مراهق إلى الذاتية، وربما الارتياب أحياناً. كان على المراهق أن يردد مقولة عفلق "ليس هذا البعث بعثي" بتلاوين مختلفة. ويتساءل عن الفرق بين يعقوب سلب بيت أبيه وجده في بلدته "شعب" ومدينته عكا، ويعقوب يحاول سلب حلمه. صعب أن تبدو أبلهاً، كلما تراءى إليك حلمٌ ركضت خلفه، لتحصد السراب. لكن ما هو أصعب أن تغدو بلا حلم. كلما خاب حلم كان علينا أن نصنع حلماً آخر لنطارد اليأس في المخيم.

البلاهة قاسية، لكن الحياة بلا حلم يباس، ولا تستحق اسمها ومعناها. فكم بتّ، منذ يعقوب الثالث، ألعن السياسة، وفي الليل يراودني حلم، لم يفارقني منذ طفولتي حتى اليوم، أنني أقفز من سور عكا إلى بحرها في بهجة وفرح حتى أكاد ألامس الروح، أو فعلت. الحلم يصل كل زاوية في النفس، العقل لا يستطيع. ماذا فعلتَ بي يا يعقوب لأفاضل بين البلاهة والحلم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق