في مخيّم مار الياس حيث لا تأشيرة نجاة للفلسطيني وليد إلا إلى القبر

  


نداء الوطن - نوال نصر

جميل أن يكون لك قلب أنت صاحبه والأجمل أن يكون لك وطن أنت قلبه». عبارة، دوّنت على أحد جدران مخيم مار الياس للاجئين الفلسطينيين، محت العوامل الطبيعية بعض أحرفها. هنا يعيش ابن قرية الخالصة في قضاء صفد وليد الأحمد الذي بحث كثيراً عن «المساواة»، في حدوده المرسومة في مخيّم مساحته كيلومتر مربع واحد، فلم يجدها إلا في اسم جمعية عمل فيها. والبقية؟ تهميش وتنمّر وعجزٌ عن الحصول على تأشيرة «تغيير» إلا الى القبر!

بعيداً عن أبيات الشعر والوجدانيات وعن الأغنيات الوطنية ومحمود درويش و»سلام لأرضٍ خلقت للسلام وما رأت يوماً سلاماً» و «زهرة المدائن» لفيروز... يشكّل الوجود الفلسطيني في لبنان، من جهة، حساسيّة لأشخاص ويجد، من جهة أخرى، تعاطفاً معه من أشخاص آخرين. وعلى مسافة من المواقف الإستباقية، إلتقينا وليد في مخيّم لجوئه الطويل، وهو المولود فيه منذ 58 عاماً. أطفال يلعبون «الكلّة» وآخرون السبعة حجار» و»طاق طاق طاقية رن رن يا جرس» وبنات يقفزن على الحبل أو يلعبن «بيت بيوت»... هي ألعاب إنتهى تاريخ صلاحيتها إلا في المخيمات والحارات القديمة. يمشي وليد بين أهل المخيم، يلقي التحية على طفل ولا ينتظر إجابة «فالطفل أخرس». قطط كثيرة تجول «بسلام» يفتقده أهل المخيم منذ 75 عاماً.

يخرج وليد الأحمد من مقرّ جمعية «مساواة» حيث يعمل. «هي جمعية تهتم بالأطفال ذوي الإحتياجات الخاصة بغضّ النظر عن جنسياتهم أو أديانهم. إنها تتعامل مع الجميع على قاعدة المساواة». يُخبرنا بحماسة عن ذلك وكأنه يريد أن يُحدد إطار الموضوع منذ البداية بين «المساواة» و»اللامساواة».

يبدو وليد أنيقاً. هو سافر الى ألمانيا الشرقية، حيث درس، بمنحة تلقاها، الإتصالات. الحظ يومها إبتسم له لكن «ليس لأحدٍ حظ كل الأيام». عاد وليد الى المخيم حاملاً شهادة وأملاً بأن «بكرا أحلى» ويقول: «للأسف كانت طموحاتي كبيرة واختصاصي كان مطلوباً في لبنان، لكن، حين أردتُ دخول معترك العمل أتاني الجواب سريعاً: لا يمكننا توظيف فلسطيني. كررتُ المحاولة وتكرر الجواب. بدلتُ إختصاصي مرات بحثاً عن مهنة مسموح أن أمارسها في البلد الذي لجأ أهلي إليه. عبثاً. وفوجئت كثيراً يوم علمت بوجود قانون لبناني يمنعني من العمل في عشرات المهن، يزيد عددها على ستين. شعرتُ في حينها وكأنني إنسان «ناقص». واقتنعت في النهاية بأن عليّ تدريب نفسي بأن عملي سيكون محصوراً ضمن المؤسسات الفلسطينية في المخيم لا خارجه. لذا عملت في المجال الطبي مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في البداية. هنا كانت حدودي وأفقي وعالمي والمساحة المسموح لي بالحراك فيها».

نتعاطف مع وليد. فليس سهلاً أن يقال لإنسان: هذا نطاقك وتلك حدودك ضمن مساحة كيلومتر مربع واحد. وصعبٌ أن لا يُسمح لإنسان أن يعمل في اختصاصه لأنه فلسطيني. في السياسة، هناك من سيثور قائلاً: هو لاجئ، والسماح له بالعمل هو توطين ومخالفة دستورية، وسيؤثر ذلك حتماً على لقمة اللبناني المغمسة بالدم. وفي الوقائع، هناك من سيتذكر بدايات الأحداث في لبنان والبندقية الفلسطينية و»طريق فلسطين تمر في جونية». بعيداً عن كل تفاصيل الحرب البشعة، هناك بشاعة أيضاً في التهميش الذي يتعرض له الفلسطينيون. فلنتعرف على ذلك من خلال تجربة وليد المتعلم والآدمي.

فاقد الأمل

قرر اللاجئ الفلسطيني في مخيّم مار الياس التنازل عن كل إختصاصاته والعمل في أي فرصة تتاح له. لبنانيون كثيرون يفعلون ذلك اليوم أيضا لكنهم يأملون أن يكون ذلك موقتاً أما الفلسطيني ففاقد الأمل. يمرّ طفلان يحملان نراجيل ونارة. يناديهما أحدهم: نارة يا ولد. فيهرعان نحوه. نتركهما لحالهما ونسأل وليد: هل تشعر بنفسك منكسراً؟ يجيب «الفلسطيني ينحني للعواصف لكنه لا ينكسر. إنه مثل طائر الفينيق لدى اللبنانيين، يعود ليقوم من الموت في كل مرة ويحلّق».

يستعير وليد عبارات كثيرة استخدمت كشعارات. عبارات كانت جميلة قبل أن يكتشف كثيرون أن كثيراً من الأفكار والشعارات السياسية مثلها مثل الأحذية التي تُستبدل بحسب المناسبة. بعيداً عن العموميات، نطلب منه أن يُخبرنا عن نهاراته في حدود الكيلومتر المربع الواحد؟ يجيب: «أستيقظ صباحاً في المخيّم، على صوت راديو الجيران، وشجار الجار والجارة، وأنتقل الى عملي أيضاً في المخيّم، وأقوم بعد الظهر بنشاطات إجتماعية في المخيم أيضاً وأيضاً. ازور الأقارب والأصحاب والجيران وأتحدث مع جيلي ومع أجيال أخرى تجمعنا نفس الهموم. والأزمة الإقتصادية في لبنان حدّت من تنوع دورة حياتنا اليومية أكثر فأكثر. أصبحنا نُفضل شراء ربطة الخبز على الخروج في نزهة».

يقطع حبل أفكار وليد صراخ «جار» على ابنه. نضطر الى السكوت ريثما يهدأ الصخب ثم نتابع بسؤال: ألا تحلم ببيتٍ يحوطه سكون ويطل على وادٍ وتلة لا على أبو رياض وابو رضوان وأبو زكريا؟ يجيب «كل ما أحلم به هو العودة الى بيتي في فلسطين، الى البيت الذي أخبرني عنه والدي، المبني من الحجر الصخري، وارى منه سهل الحولة والحدود اللبنانية من قريتي الخالصة، التي أقيمت على أنقاضها مدينة كريات شمونة. لا طموح آخر لي في لبنان. وكل ما يُقال عكس ذلك مجرد أوهام. إسألي أي فلسطيني عن خياراته فيقول لك إنه أمام خيارين: يرجع الى فلسطين أو يهاجر بحثاً عن ملك عادل لا يظلم أحداً. ركب شعبُنا الفلسطيني، مثله مثل بعض اللبنانيين، موج البحر وفضّل الموت غرقاً بدل العيش حيث لامساواة وتهميش».

وليد هو أب لشاب، بلغ سن الثامنة عشرة، وهو يُخبره صبحاً ومساء بأن هذا البلد، لبنان، هو محطة لجوء موقت ويقول «لم أقل له يوماً إن هذا المخيّم هو بلدك ولبنان بديل فلسطين بل أخبرته دائماً أنه ابن قرية «الخالصة» ووجوده هنا موقّت وإذا توفيت قبل عودتنا عليه أمانة أن ينقل هذه الحقيقة الى أولاده». ويستطرد «أتوقع ألا يجد إبني مثلي وظيفة تتناسب مع شهاداته في لبنان وعندها سأقول له: الله معك... حاول أن تسافر بحثا عن ملك عادل».

يقطع حبل أفكار وليد صراخ «جار» على ابنه. نضطر الى السكوت ريثما يهدأ الصخب ثم نتابع بسؤال: ألا تحلم ببيتٍ يحوطه سكون ويطل على وادٍ وتلة لا على أبو رياض وابو رضوان وأبو زكريا؟ يجيب «كل ما أحلم به هو العودة الى بيتي في فلسطين، الى البيت الذي أخبرني عنه والدي، المبني من الحجر الصخري، وارى منه سهل الحولة والحدود اللبنانية من قريتي الخالصة، التي أقيمت على أنقاضها مدينة كريات شمونة. لا طموح آخر لي في لبنان. وكل ما يُقال عكس ذلك مجرد أوهام. إسألي أي فلسطيني عن خياراته فيقول لك إنه أمام خيارين: يرجع الى فلسطين أو يهاجر بحثاً عن ملك عادل لا يظلم أحداً. ركب شعبُنا الفلسطيني، مثله مثل بعض اللبنانيين، موج البحر وفضّل الموت غرقاً بدل العيش حيث لامساواة وتهميش».

وليد هو أب لشاب، بلغ سن الثامنة عشرة، وهو يُخبره صبحاً ومساء بأن هذا البلد، لبنان، هو محطة لجوء موقت ويقول «لم أقل له يوماً إن هذا المخيّم هو بلدك ولبنان بديل فلسطين بل أخبرته دائماً أنه ابن قرية «الخالصة» ووجوده هنا موقّت وإذا توفيت قبل عودتنا عليه أمانة أن ينقل هذه الحقيقة الى أولاده». ويستطرد «أتوقع ألا يجد إبني مثلي وظيفة تتناسب مع شهاداته في لبنان وعندها سأقول له: الله معك... حاول أن تسافر بحثا عن ملك عادل».

كلمة لاجئ لا تستفزّ وليد لكن ما يزعجه هو استخدامها من البعض للتحقير ويقول «كلمة لاجئ مأخوذة من تصنيف وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين- الأونروا. أحب أن أحتفظ بها لتذكرني دائما بأنني أنتمي الى أرض اخرى يجب أن اعود إليها. إنها دلالة الى أن لي بلداً يفترض أن اعود إليه ذات يوم».

لبنانيون كثيرون يحلمون بأن يغادروا الى بلاد أخرى يبدأون فيها من جديد. ولبنانيون كثيرون ينظرون الى ذاك الفلسطيني الذي أطلق رصاصته الأولى في عين الرمانة. أما الفلسطيني، المتعلم، الواعي، فيتمنى لو حصلت مصارحة ومصالحة مع اللبنانيين حول مسؤولية الفلسطينيين في الحرب الأهلية في لبنان معتبرين أن الإنسان الفلسطيني كان مثله مثل الإنسان اللبناني ضحيّة لمؤامرة كبيرة. بعيداً عن كل ما سبق وحصل، هناك، بحسب الأحمد، أمنية لدى فلسطينيين كثيرين أيضاً بأن يغادروا «لكن ليس أمامهم إمكانية للحصول على فيزا (تأشيرة) إلا الى القبر».

نغادر المخيّم. نخرج من الكيلومتر المربع الواحد الذي يضم أعلى نسبة كثافة سكنية في بيروت. هنا، هذه الأرض، هي وقف لكنيسة الروم الأرثوذكس، قدمتها للاجئين الذين كانوا ينتمون، بنسبتهم الأكبر، الى الطائفة المسيحية اللاجئة من شمال فلسطين، من إبل القمح بالتحديد. ناس المخيّم يأكلون ويشربون، أفضل ربما مما هو متاح لكثير من اللبنانيين اليوم، لكن، ما ينقصهم هو المساواة. فليس سهلاً أبدا على رجل تعلّم ونال شهادات عليا لكنه يعيش في «مرطبان ضغط»، ممنوع عليه أن يتنفس خارجه. هي السياسة التي تساهم أيضا في التهميش.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق