المجلس المركزي الفلسطيني .. في مسار ازمة

 

فتحي كليب 

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

من تابع المواقف الصاخبة لقوى سياسية وشخصيات وطنية فلسطينية في تعليقها على جلسة المجلس المركزي الفلسطيني التي انعقدت مؤخرا، يخيل له وكأن هذه الدورة كانت الحد الفاصل بين فسطاطي الخير والشر، بين الوحدة والانقسام، بين التحرير والمساومة وبين الفساد والشفافية، ليخرج البعض باستنتاج ان مرحلة ما قبل المركزي هي مختلفة عن مرحلة ما بعده، وليصل الامر عنده الامر حد التشكيك العلني ليس بشرعية المجلس فقط، بل وبمنظمة التحرير ومكانتها التمثيلية، وايضا بوطنية المشاركين في تلك الجلسة. ولم تتوان بعض "قوى الاعتراض" عن اللجوء الى كافة الاساليب لاقناع جمهورها بصوابية مواقفها، والى عمليات تحريض لم يسبق ان عاشتها العلاقات الداخلية الفلسطينية من قبل، رغم انها شهدت ازمات اصعب واعقد من مجرد عقد جلسة لمجلس مركزي..

وحين تنحدر لغة التخاطب الى هذا المستوى من التدني السياسي والاخلاقي، فهذا لا يعني فقط ان تلك القوى لم يعد في جعبتها شيئا من برامج سياسية وحدوية تقارع بها اخصامها، بل يعني ان الازمة الداخلية وصلت الى مستوى من الخطورة باتت تهدد الجميع، وعلى قاعدة هدم الهيكل بمن فيه.. فما تمتلكه هي وتشارك فيه شرعي ووطني وقانوني ويجب على كل قوى الشعب الالتفاف حوله، وما يمتلكه غيرها هو امر مشكك به وتعرية اصحابه واجب وطني، وهنا الانفصام الحقيقي بين ما يقال ويمارس على الارض.

لعل القاسم المشترك بين كل ما قيل خلال الاسبوعين الماضيين، بعيدا عن لغة الردح، "ان جلسة المجلس المركزي تعمق الانقسام وكان يجب التحضير لها بشكل افضل خوفا من تكريس الهيمنة والتفرد". وهي مواقف يجب ان تسمع، لكن بالمقابل كان هناك كلاما مختلفا من قوى وشخصيات وازنة ارتقت في مواقفها الى مستوى المسؤولية الوطنية، وهي مواقف يجب الوقوف امامها ايضا والاستماع الى اصحابها.. كونها مواقف تعكس منطق الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني التي دفعت اثمانا باهظة بسبب تداعيات الانقسام والسياسات الفئوية.. هذه الغالبية التي كانت تأمل في لم الشمل وتطرح مواقفها بخلفية وطنية صادقة في منطقها، لكن ماذا لو لم يتم التوافق على هذه الدروة التوحيدية في ظل تعمق الانقسام، هل تبقى المؤسسات الوطنية معلقة على احتمالية "يمكن ينتهي الانقسام"؟ ونعلم جميعا ان الحديث عن دورة توحيدية تستعيد الوحدة الوطنية كلام حق يراد به باطل ومكرر منذ الانقسام، ولو سلمنا بمثل هذه الشعارات الجميلة لما عقدت مؤسسات منظمة التحرير (المجلسان الوطني والمركزي) دورة واحدة منذ العام 2007. ولعل السؤالين اللذين لا بد منهما:

1) في حال قاطعت جميع الفصائل جلسة المجلس المركزي، ما هي الخطوة التالية، هل سنرى تنسيقا وتعاونا مشتركا بين "المعارضات الفلسطينية"، ام ان الهدف هو فقط منع التئام الجلسة لحسابات فئوية وشخصية او لمجرد نكايات فقط؟ هل كانت المقاطعة ستقود الى بناء ائتلاف وطني عريض يسقط "رموز اوسلو" بالضربة القاضية، وبالحد الادنى، او هل كانت المقاطعة ستؤدي مثلا الى ائتلاف يساري او ديمقراطي يشكل عامل ضاغط على طرفي الانقسام؟

2) هل تأجيل جلسة المجلس كان سيقرب المسافات بين حركتي فتح وحماس، ام ان العكس هو الصحيح.. إذ خلال الانقسام (منذ عام 2007 وحتى 2018)، عقد المجلس المركزي (9) جلسات، بعضها كان مفتقدا للنصاب السياسي، لكن هذا لم يقد الى استعادة الوحدة الوطنية، بل ان الانقسام ازداد استفحالا وتعمق في اسوأ صوره..

3) اما الحديث عن عدم قانونية ونظامية المجلس بل عدم شرعيته او انه يفتقد النصاب السياسي فهذا امر لا يمكن وضعه الا في خانة الاصطياد لحسابات ومصالح سياسية وفئوية ضيقة للسبب التالي: تنص المادة الخامسة من النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ان "مدة المجلس الوطني ثلاث سنوات، وينعقد دورياً بدعوة من رئيسه مرة كل سنة..".  وقد عقدت آخر جلسة للمجلس الوطني (الدورة 23) بتاريخ 30 نيسان أيار 2018، اي ان المجلس استحقت دورة انعقاده العام الماضي2021، رغم ان المجلس الوطني سبق وان خول صلاحياته للمجلس المركزي الذي عقد عدة دورات منذ ذلك التاريخ..

مثل هذا الكلام لا يعني للحظة ان ليس هناك حاجة لتطوير واعادة بناء جميع مؤسساتنا الوطنية التي تعمل في ظل ازمات كبرى تعصف بكل الحالة الفلسطينية، وهي تحتاج حكما الى تجديد شرعياتها من خلال الانتخابات الشاملة لمؤسسات السلطة ومنظمة التحرير. لكن عن اي شرعية يمكن ان نتحدث ونحن نعلم ان جميع "الشرعيات" قد تآكلت هيبتها حتى في نظر جمهورها، وهذا لا ينطبق على منظمة التحرير ومؤسساتها فقط بما فيها المجلس المركزي، بل وايضا على مؤسسة الرئاسة وحكومتي رام الله وغزه اللتين تعملان بدون تفويض من مجلس تشريعي منقسم ومعطل وهو ايضا بشكل او يآخر يعاني من عوار على مستوى الشرعية والقانونية..

ان الادعاء ان مقاطعة "فصائل كبيرة" لجلسة المجلس المركزي تفقده الشرعية السياسية ويجعل هذه القوى في حل من اية قرارات تصدر عنه، فهنا قد نحتاج للعودة الى مسلمات وبديهيات وطنية.. لأن الحديث عن المقاطعة هو اصلا غير موجود الا بما يتعلق ببعض الفصائل التي هي عضوا فعليا في المنظمة وتلقت دعوة رسمية للحضور، اما الفصائل من خارج المنظمة فلا يصح القول انها قاطعت لسببين: اولا لأنها ليست اعضاء في المجلس المركزي، والثاني وهو الاهم انها لم تدع لحضور الجلسة، والاكثار من الحديث عن مقاطعة حركتي حماس والجهاد هو امر ليس في مكانه، والاصرار عليه من قبل غرف اعلامية سوداء انما يهدف الى تجميع حجج وتبريرات لا تمتلك اي سند قانوني او منطقي او سياسي لترويجها بين اوساط الشعب..

في ظل كل هذا، جاءت جلسة المركزي الفلسطيني، التي لم تكن الا انعكاس لحالة الانقسام وايذانا بوصولها الى حالة متقدمة من الخطورة، والصمت عنها يشكل جريمة تساوي جريمة من ارتكبها.. لذلك ليس كافيا القول ان هذه الجلسة تعمق الانقسام وتعزز صيغ الهيمنة والتفرد ما لم ترتبط بارادة جدية على التقدم قليلا الى الامام..

وبعيدا عن الاعتبارات السياسية التي املت مشاركة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في جلسة المجلس المركزي وغيرها من قوى وفصائل وشخصيات، ولكل طرف اعتباراته انطلاقا من كون منظمة التحرير جبهة وطنية تضم فصائل مختلفة، ولكل فصيل مواقفه وحياته التنظيمية الخاصة، وليس بالضرورة ان جميع من شارك في الجلسة قد شارك للاعتبارات ذاتها، فلا يمكن النظر الى تلك الجلسة الا في اطار الازمة التي يعيشها الكل الفلسطيني، ومنها منظمة التحرير بمؤسساتها المختلفة، والسلطة الفلسطينية والفصائل والحركات الفلسطينية المختلفة والتي تشكل مجتمعة ما يصطلح على تسميته بـ"النظام السياسي الفلسطيني" الذي اهتزت مكانته وفعله السياسي منذ زمن وليس اليوم فقط، فلا هو قادر على التقدم الى الامام ولا قادر على معالجة جوانب الخلل التي يعيشها بحكم تركيبته اولا وخياراته ثانيا..

امام ذلك، لا يكفي نقد واقعنا المعاش لتسجيل مواقف للتاريخ او من اجل مكاسب فئوية هنا وهناك! فاذا كانت السلطة، بفكرها وممارساتها غير ديمقراطية ولا تحترم رأيا وموقفا خارج اطار مواقف اركانها وقياداتها ورموزها، فان بعض المعارضات في ممارساتها هي ليست اكثر ديمقراطية، سواء في التعاطي مع بعض مكونات المعارضة الوطنية او مع قطاعات واسعة من الشعب لها مواقف مغايرة ومخالفة عن مواقفها، وهذا ما ابرزته تداعيات جلسة المجلس المركزي الاخيرة التي اصبحت هدفا بحد ذاتها ومعركة حياة او موت.

لكن نعود لنقول: مهما اختلط الابيض بالاسود ومهما امتزج الغث بالسمين، فان لغة العقل والمصلحة الوطنية هي التي يجب ان تسود في العلاقات الداخلية، وقد اكدت التجربة بأن ما يجب ان يحكمنا هو ليس لغة الاقلية والاغلبية ولا صيغ الاحزاب الكبيرة والصغيرة، بل لغة ومنطق التوافقات والشراكة الوطنية.. فهذه هي اللغة الوحيدة التي لم تجرب بعد، وبتنا بحاجة لطرق ابوابها لنتعرف حينها على الوحدة الوطنية الحقيقية البعيدة عن صيغ الهيمنة والتفرد والاقصاء والاستئثار، وغير ذلك فان حركتنا الوطنية ذاهبة الى مزيد من التدهور والانحدار، بكل ما لذلك من انعكاسات سلبية على كل تفاصيل القضية الوطنية للشعب الفلسطيني..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق