الماضي مستقبل العرب: خطايا الاحزاب وفظائع المذاهب

 

نصري الصايغ

لندخل في صلب الموضوع. لنعد الى ذاكرتنا. لم تثقب بعد.

ما زلنا نسكن في القرن العشرين وما بعده من عقود. لكل قرن رصيف، والرصيف الثاني يبدو معتماً أكثر من القرن العشرين. فلنحمل اجسادنا معنا. اجسادنا المنهكة والمتعبة. علينا ألا نخجل من اخفاقاتنا. ولنتوقف عن التبرير، وكله كاذب وفاشل.

عشنا في قرنين وكانت حصتنا هذا الركام الوطني والاقليمي والعربي. فلنمتنع عن التحليل وادعاء البراءة. فلنخرج من حصاناتنا التي صنعناها. فلنعترف أننا كنا اقزاماً، وأن الذين فازوا علينا، هم أصنام وجلاوزة وحدثني فلان عن فلان قال.. لقد كنا الفراغ. أمعنّا في توليد الضجيج. صلبنا الوعي على زمن لا يتوقف ويقوده آخرون. من غرب جاؤوا. من شهوات فحولية، طردت الله وأحلت محله رب المال. ونحن للبيع والشراء كنا. حلمنا ولبسنا ثياب الحداثة. حكينا حكياً أنيقاً جميلاً خلاباً. كتبنا ودبجنا وأنشدنا بحماسة وحناجر ولوّحنا بقبضات. لوحقنا وعُذبنا. حاكمونا وقتلوا منا وفينا كل جديد سديد. دفتر علاماتنا أصفار تجمع إلى اصفار. لم ننجز جملة فعلية. أدخلونا في المجاز. جعلونا ضحايا وحوّلوا بعضنا نعاجاً وحكموا فينا من خاننا. نعم منَّا جاء الجور. الدكتاتوريات من صنع أيدينا. التخريب كان تديَّناً مغلقاً. الاحزاب أسّست لجديد، ولكنها إقتدت بالأنظمة. أحزاب بلا حريات، إعلام يتشدق بالجديد من الافكار والعقائد. أقاموا بنية فوقية متينة، تعود جذورها إلى ثورات فكرية وسياسية واجتماعية، لكنها في الممارسة، تخلفت، وعلى عجل دخلت السياسة، ومشت لصيقة بطوائف وانظمة.. لا تشبههم. افكار قومية ناصعة، ماركسية مبرمة، تقدمية بينّة، إلى آخره… برامجهم للقراءة، و”نضالهم” من أجل حفنة من سلطة، أي سلطة!

في مراجعة الذات، يلزم الصدق والاعتراف. الكوارث التي حلّت بالأمة والمحيط والاوطان، لسنا براء منها. باختصار، تفردنا في القول والفكر، وتعسكرنا مع انظمة العسكر والأمن، وتطيَّفنا مع حراك وصراع الطوائف. وخضنا كل المعارك من اجل حفنة بائتة من السلطة، وغالباً كانت حصة الاحزاب التقدمية والعلمانية والنهضوية، الوقوف على الابواب، وهو ما أطلق عليه جورج حاوي: “كنَّا حمار العرس”. الباب آخر مكان. لا أحد يتخطى الحواجز. والأسوأ، عندما لجأت هذه القوى العقائدية والرسولية إلى السفارات، فباتت مأمورة، كما هي الحال اليوم: السفارات تحكم لبنان. وهذا تقليد “وطني” يعود إلى زمن القناصل.

باختصار صفر على عشرين.

الأدلة كثيرة: كانت عقائدنا وأحلامنا شيقة. وعدنا أنفسنا بأن نخدم بثبات وإيمان وممارسة، قضايا حيوية، تنقل الكيانات العربية من الارتهان، إلى غرب إلحاقي، وماضٍ متخلف وبائس. كان المسار صادماً. نجح الغرب في القبض على المصير العربي، كما فازت الرجعية المرتبطة بماضٍ سحيق، في إشعال حروب، لم تهدأ قصفاً وقتلاً حتى اللحظة.

باختصار ايضاً:

انبرت القوى المستنيرة في ورشة ثقافية جذرية. الهدف، إقامة دولة قوية حديثة موحدة، برباط قومي رداً على التجزئة التي فرضها الاستعماران الفرنسي والبريطاني، ورداً كذلك على استيطان صهيوني إلغائي في فلسطين.. نشأت اندية وحلقات ومنابر ثقافية طليعية، في كل من مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وغيرها. تبعها نشوء كيانات فكرية ونقاشات تاريخية، وطرح ما كان الغرب قد انجزه لصالحه (فقط لصالحه). على أثر ذلك، انبثق من هذا المخاض الفكري الخصب، برنامج تحديث وتعميق الوعي في المجتمع لإنجاز دولة، او دول، على اسس المواطنة التي ينتمي فيها الانسان اولاً، إلى أرضه وشعبه، متبنياً الديموقراطية والعدالة والتنمية، اذ لا دولة تقوى إلا باقتصاد قوي وناجح وعدالة في التوزيع. على أن الاساس في البدايات، قد غلبت عليه قضية الوحدة، التي تقضم الكيانات المنشأة بقرار استعماري، من الايغال في حروب الاخوة الاعداء.

باختصار كذلك.

زاغت الاحزاب عن قضية اساسية: ليس الهدف الوصول إلى السلطة ابداً، وغداً. البناء السياسي المتين يبدأ من التأسيس على القاعدة. الاحزاب العقائدية برمتها، أغفلت النهوض بالمجتمع وتغيير قواعده الرثة التي تعود إلى ماض منكوب وافكار غبية وعقائد لا تمت إلى العصر بصلة.. سقطت الاحزاب والتكتلات القومية النهضوية في أتون الصراع على السلطة. أنجزت القومية العربية حضورها في سبع دول عربية.. كلها قومية عربية.. ودخلت في حروب في ما بينها. سوريا والعراق نموذجاً. السودان وجنوبه كذلك. إلى آخره. والأفدح من كل ذلك، انها عندما بلغت السلطة بانقلابات عسكرية، وهي اسوأ الوسائل وأفدحها، أقامت نظاماً امنياً شرساً وملعونا، كتم انفاس الناس، وتحولت العقيدة المعلنة، إلى ممارسة بواسطة السجن والتعذيب والبلطجة. غابت الحرية، اغتيلت العدالة، الشعب كله في سجن كبير. النقد ممنوع. حتى الاقتراح توريط في ما لا يعنيك. يومها، وحتى اليوم. ترحم كثيرون على الحكم الرجعي.

والغريب في هذا المسار الواقعي، والمضاد للزمن الحضاري، أن الكيانات المحكومة بعائلات وراثية، وسلطة متناسلة من ماضٍ عتيق جداً، لم تصب إلا نادراً، فثابرت على نهج مختلف وجامد. الامارات والملكيات والسلطنات، اقوى من كل الدول العربية، التي تنوء بنتائج الفشل تلو الفشل. يُقال، والقول حق، إن ضمانة بقاء هذه المشيخات يعود إلى ارتمائها في احضان حماتها. صح. ولكن إذا قورنت مسيرة التخلف بمسيرة التقدم بشعارات الحداثة، كان الفوز الرجعي “الباهر” والمجدي والمستقر والقوي، فيما ابتليت الأنظمة العسكريتارية بأفشال وهزائم لا طاقة لشعب أن يتحملها قرناً من الزمن.

الذين نذروا اقلامهم وافكارهم، منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتحديداً في مصر وسوريا ولبنان، لفجر عربي جديد، خابوا، بل اغتيلوا. كانوا على حق. أضاءوا السراج. كتبوا. بحثوا. تصدوا. وفازوا في رسم علامات الطريق. هذا الجهد كان يُحارب من الرجعيين الانحطاطيين الدينيين، وكان يُحارب من الغرب الذي يتغنى بالحداثة ويمارس كل شناعات الاستعمار: تذكروا ميسلون، دمشق، فلسطين، ليبيا، السودان، لبنان، العراق، الجزائر.. واعترفوا اننا كنا امام عدوين متعاديين: الغرب الاستعماري لكل المعايير، بما فيها ثقافة الالغاء والتفوق؛ والعرب الذين شدوا رحالهم من القرن العشرين، وعادوا إلى السلف وما قبل السلف. هذان القطبان، ما زالا حتى اليوم يشعلان الارض العربية بفتن تتوالد بسرعة، ونتناطح بعبقرية القتل الذي قلَّ نظيره في مسار البشرية. هناك عملية ابادة للعرب. عرب اليوم ليسوا عرباً ابداً. العروبة قُتلت. القومية قتلناها. الحرية أبيدت، العدالة استبدلت بالهراوة. التنمية نحيّت لصالح طبقة النهب والسرقة والفساد وتكديس الرساميل في مشاريع يرعاها الغرب، ويطيح بها، كل تنمية معتدلة، بأفق الكفاف.

هكذا نحن اليوم. على الأرض يا حكم. فلنعترف بفشلنا المريع والساحق. لم يتحقق من أحلامنا شيء: لا وحدة. لا حرية. لا اشتراكية. لا ديموقراطية. لا ثقافة. لا مواطن. لا عدالة. لا تنمية ولا تحرير ولا.. لكل ما خدمناه وظننا اننا على وشك الوصول. فإذ بالوصولية الحزبية تقطع الطريق على النهضة.

وخاتمة المسار الشائك والشاق، يتجلى في ما اسفرت عنه الوقائع.

كانت اسرائيل مشروعاً مستحيلاً، صار العرب والعروبة مشروعاً خيانياً. التطبيع طبيعي جداً بين مغتصبين. لا أحد ابداً استفتى “مواطنيه” او اتباعه في خطوات التطبيع. “اسرائيل” فعلتها ونجحت وفوجئت بحماسة دول شاهقة ودول مارقة.

الصراعات الدامية حذفت بسهولة كل شعارات ومسارات الحداثة.

ألا يلاحظ أن مفردة القومية لم تعد لغة محكية. ألا يظهر أن فلسطين اختصاص “إسرائيلي”، اميركي، “عربي”. ألا يلاحظ أكثر، أن العداء لـ”إسرائيل” زحل ليصير عداء لفلسطين. (من كان يتصور أن تصبح الخيانات علنية ومرحب بها، ومن يتجرأ على نقدها يصاب بعطب الفشل عن الكتابة والقول والهمس حتى..

كيف بلغنا هذا الجحيم؟

اولاً؛ الغرب رابض من قرن على مكامن القوة في هذه المنطقة. نفطنا لهم. غازنا لهم. شواطئنا لهم. اموالنا في مصارفهم.. هذا الغرب فاجر واصولي وقرصاني. إنه “كاوبوي”، والمنطقة طريدته.

ثانيا؛ فشلت النهضة باحزابها وبتياراتها المتعددة، من وسط ويمين معتدل ويساري وماركسي، في أن تغير ثقافة الشعب، بالانتاج والتوعية بدل الاستعجال السياسي بركوب السلطة.

ثالثاُ؛ عندما فرغت الساحة من كل ما يمت بصلة إلى مشروع النهضة الذي أقيل نهائياً من التداول، اسرع المشروع الاسلامي لسد هذا الفراغ ولإطلاق رصاصة الرحمة على القوى التقدمية والديموقراطية، ونجح في تغيير ثقافة المجتمع بالماضي الديني والمذهبي والشللي. المسلمون اليوم فرق متنابذة، ولكن الاسلحة المتنوعة احتلت الساحة العربية والاقليمية. الدين سلاح رهيب عندما يحتل الحيز السياسي والاجتماعي.

رابعاً؛ رسا المشهد أخيراً على انقسام سياسي مذهبي. تيارات سنية جارفة وصارمة ومنبتة ومتوالدة بالعشرات. وتيار شيعي يسير عكس التيارات السنية السياسية “الجهادية الاعتدالية”. وقد انتقلت قضية فلسطين من ايدي العلمانيين والوسطيين ومن ايدي السنَّة، إلى إيران، التي تخيف السنَّة، من المحيط إلى الخليج.

في استعادة مئة سنة من النضال العقائدي، عليك أن تعترف بالفشل. لا قيمة لما تكتبه. كل القيمة لما تنجزه. وأول انجاز هو تأمين الركائز الاجتماعية وتصليبها في عقيدتها المستنيرة.

اليوم، يتحكم بالمنطقة العربية ماضيان: ماضٍ استعماري بثياب حضارية، وماضٍ ديني مشتت وناشط.

باختصار؛ اننا من الماضي والى هذا الماضي نعود.. يعني لن نكون إلا أتباعاً فوداعاً أيتها الحرية ووداعاً أيها الانسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق