انفصام ثقافي وسلاح دمار شامل وانتحار



 الفضل شلق

حرّم الدين الانتحار. من أعطى الحياة يأخذها. من يخلق الإنسان يميته. لا تدخل الروح جسم الإنسان إلا عن طريق الله، ولا تخرج إلا بإذن منه. المسلم إذا انتحر لا يُصلى عليه. إنتحل صفة من أعطاه الحياة، فانتزعها بيده من نفسه. إذا فعل ذلك صار بمنزلة الكافر أو المشرك. هل يكون الانتحار الجماعي بمثابة الانتحار الفردي؟

الجماعة البشرية تقوّض الطبيعة؛ تقضي على البيئة عن طريق العلم الحديث، والاحتباس الحراري، والخلل البيئي. لا يستطيع الإنسان أن يبقى ويعيش دون الطبيعة ومواردها. موت الطبيعة من آثار فعل الإنسان. مع انتهاء الطبيعة، ينتهي الإنسان. هل ينتهي الإنسان بإرادته من غير إرادة الله؟ وهل يمكن أن يكون للإنسان إرادة غير إرادة الله؟ هل تنتحر البشرية بغير إرادة الله؟ أسلحة دمار شامل بمختلف أنواعها يمكن أن تؤدي الى نهاية البشرية. هي بمثابة صنع أدوات الانتحار الشامل. تضع الموت الجماعي على لائحة الانتظار. تجعل الموت انتحاراً أعلى الاحتمالات. دول دينية تصنع أدوات الانتحار الجماعي. هي تؤمن أصلاً أنه لا شيء يحدث على الأرض دون مشيئة الله. أمره هو الأعلى. هو البداية والنهاية. نظرية الخلق تعزو البداية، أو الخلق، له ولإرادته. هل تكون النهاية بغير إرادته؟ إذا الله قد أمر بالبداية فهل تكون النهاية عن طريق عبيد الله دون علمه؟ وهل يمكن أن يحدث شيء على سطح الأرض دون إرادته؟ وإذا كان الأمر صحيحاً، فإن مبدأ كون الله أصبح مهدداً. ان استنساخ الحيوانات قد إعتُرِضَ عليه لأن الخلق مناط بالله، فكيف يكون الأمر متعلقاً ببقاء أو فناء الجنس البشري عن طريق الله؟

هذه تساؤلات تطرحها عقول تفكر ولا تعتبر أن الأمر لا يعنيها. الدين الذي أقحم نفسه في البداية يجب أن يفعل الأمر نفسه بخصوص النهاية، ولا يمكن اتهامه بالإهمال وتجنب الأمور التي  لا يريد الجواب عنها كي لا يثير حفيظة الحلفاء من الطبقة العليا، وبالطبع هذه الطبقة العليا هي من يموّل العلم الحديث من جهة، ويموّل الفقهاء من جهة أخرى ليقولوا عكس ما يقوله العلم الحديث عندما تلزم الحاجة.

حتى الآن ما زالت قوى الإسلام السياسي تعتبر نفسها غير معنية بأمر الاحتباس الحراري وخلل الطبيعة، أو هي حليفة الرأسماليين من أصحاب المنشآت التي تبعث على التلوّث وتصر على عمليات إنتاج تنتج التلوّث. فهل هذه الطبقة مستعدة لأخذ موقف بين مسببي التلوّث ورافضيه؟ أم تعتبر أنها يجب أن تقتصر على الأمور الدينية، بما يشمل الحيض والطهارة، وتبقى في إطار الكتب التراثية، بعيدة عن مناقشة أمور العالم المعاصر؟ يعني ذلك إدخال الدين في السياسة. لكن لا عن طريق فصل بينهما، وإنما عن طريق إخضاع الدين للسياسة كما كان الأمر في دولة الرسول. في مكة أسّس النبي محمد الدين، وفي المدينة أسّس الدولة، وأخضع الدين للدولة. الذين يريدون إخراج الدين من المجتمع والسياسة هم الزُهّاد. وإذا أراد الدين عن طريق أصحابه أن يبقى في السياسة فعليه تبني قضايا الناس والنضال ضد الشركات الكبرى التي تلوّث الطبيعة، مما يقود الى نهاية البشرية عن طريق الانتحار الجماعي؛ والانتحار الجماعي كفر. هو انتحار جماعي تفرضه الرأسمالية العليا على البشرية.

في علمانية فصل الدين عن الدولة، نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. المطلوب ممارسة السياسة ضد قيصر الذي يعمل على إنهاء البشرية، وتجنيد رجال الدين معنا ضد الثروات الكبرى الملوثة، ومساهمتهم في تعميم الوعي ضد الرأسمالية، وإلا صاروا بطريقة أو باخرى، عدة شغل عندهم. كل ادعاء للحياد في هذا الموضوع، بالأحرى في هذا الصراع، هو انحياز لمصلحة أصحاب الثروات الكبرى في العالم وأنظمة الاستبداد في بلادنا. دافع رجال الدين عن الثورة المضادة طويلاً. نعرف ذلك نحن العرب. فقد كانوا أعداء الثورة وحلفاء الاستبداد والحروب الأهلية؛ آن الأوان ليكفّروا عن خطاياهم ويناضلوا مع الناس ضد التلوّث والانتحار، ومن ورائهما الرأسمالية الكبرى والامبريالية. كما حجزوا أكبر كمية من لقاحات الجائحة لأقوامهم في بلادهم، يعملون على دفع الصناعات والزراعات الملوثة الى البلدان الفقيرة لتلقى هذه المصير المشؤوم المحتوم.

منذ زمن طويل، انفصل رجال الدين عن الدولة. انفصلت المؤسسة الدينية عن أهل القلم (الدواوين) وعن العسكر، وهم قاعدة أنظمة الاستبداد في كل مكان وفي كل العصور. حصر رجال الدين، ورثة الأنبياء، أو ولاة الفقيه، أمور بحوثهم في الدين وفي كتب التراث وفي مسائل الطهارة والحيض والعدة والطمث، وصاروا على الصعيد السياسي جيشاً احتياطيا للاستبداد. يبتعدون عن القضايا المعاصرة، إذ هي ليست في كتب التراث، ويركزون اهتمامهم في قضايا كانت تفيد الأسلاف ولم تعد تفيد المعاصرين. فعلوا ما أراده الاستبداد بالانحياز إلى ما لا يفيد من العلم والايديولوجيا؛ عطلوا فعاليتهم. ابتعد وعيهم عن مشاكل الفقر والاستغلال. والآن يعتبرون التلوّث الذي يكاد يطيح بالبشرية لا يدخل في اختصاصهم، على اعتبار أن الله يحيي ويميت. ما لهم من سطوة جيّروها لصالح الاستبداد ولصالح تجهيل الجمهور العريض. ما فعلوا هو تحييد الجماهير عن الصراع ضد السلطة والاستبداد، وعندما انفجرت الثورة، خاصة منذ 2011، انحازوا الى صف الثورة المضادة والاستبداد. هم ساهموا في إنتاج وعي زائف، وفي إكثار الجماهير الجاهلة، وفي إخراج كل هؤلاء من قضايا العصر. عملياً، أخرجوا المجتمع من العصر. أدت أفعالهم والوعي الذي ينشرونه الى عزل الأمة في العالم، وعزل ثقافتها عن ثقافة العالم، وتقوقعوا حول كتبهم التراثية الصفراء. انتجوا ايديولوجيا تقول إن “الإسلام هو الحل”. الحل لكل معضلة، ومنعوا عليه أن يكون حلاً لشيء. هم في صلب المجتمع الآن. إذا أرادوا أن تكون منهم فائدة لمن ينتمون إليهم، فعليهم إخراج أنفسهم من المجتمع أو الاندماج في نضال الفقراء والمحكوم عليهم بالانتحار ضد السلطات التي استشرس أمرها مع الثورة المضادة في أعقاب الثورات العربية عام 2011.

والعلمانيون الذين يزعمون الاكتفاء بشعار فصل الدين عن الدولة، عليهم العمل لإخضاع الدين للدولة، وإدراج الدين في الثورة ضد الاستبداد والثروات المبالغ فيها والفساد الناتج عنهما. إذا أراد العلمانيون فائدة لنضالهم، فإن عليهم هم الآخرون عدم التغاضي عن فساد العلوم الدينية أو رجالها الذين أصبحوا سلاحاً بيد الثورة المضادة.
أوصياء الدين الذين يدعون الى مواجهة الإمبريالية (أميركا) يعادونها ثقافياً ويقلدونها في شؤون العصر وأهمها سلاح الدمار الشامل. يقلدونها في التقنيات. هم لا يواجهون الولايات المتحدة بل يحذون حذوها، والتفاوض يدور حول هل يحق لهم امتلاك سلاح الدمار الشامل. وليس معروفاً إذا كانوا يصنعون سلاح الدمار الشامل بادمغة محلية أو مستوردة او معارة. لا يقلدون الغرب في أمور الإنتاج والتنمية، بل يقلدونه في أمور السلاح والفقر، ما يدفع أكثر وأكثر باتجاه حروب الإبادة والانتحار الجماعي. كل ذلك مع عدم استبعاد شبهة أن الرأسمالية الكبرى (الغرب) تريد فناء جزء كبير من البشرية. فكيف يبرر رجال الدين وأتباعهم أمام أنفسهم قضية الانتحار الجماعي. ألا يؤدي تقليد الغرب في التقنيات وتقليده في تطوير واستخدام أسلحة الدمار الشامل الى حروب الإبادة الجماعية والمشاركة في الكفر؟

علة عدائنا لسلاح الدمار الشامل (ومنه تدمير البيئة الصالحة لبقاء الإنسان)، بل عداؤنا لكل أسلحة القتل والدمار، نابع من موقف إنساني، مما نعتقده موقفا في صالح بقاء الجنس البشري. عداؤهم للإنسان يدفعهم الى تبني سلاح الدمار الشامل. والأمر يشمل الدول الدينية الشيعية والسنية. هم لا يدافعون عن انفسهم، بل يشاركون في الدفع نحو الانتحار والكفر. وهناك طرق أخرى للدفاع عن النفس، منها الإنتاج والتنمية والعمل في سبيلهما، والتعليم والتربية ورفع مستوى المعرفة الحديثة في المجتمع، وجعلها قيمة بذاتها ولذاتها.

لم تخرج مجتمعاتنا بعد من المعرفة التراثية ولم تخرج من ماض جعل لها المثل الأعلى هو الفتوحات والتوسّع اللاحق وانتشار الدين حتى صار تعداد المسلمين أكثر من مليار ونصف بشري. أي ما بين ربع وثلث البشرية، ولا خوف عليهم. لكن الوعي السائد هو أن التكنولوجيا ليست مسألة ثقافية ولا علاقة لها بالثقافة، ولا تتعلّق بالحلال والحرام، ولا بالمقدسات. هي من أمور الدنيا المباحة. ولا يدركون أن هذا المباح أتاح التفوّق للغرب. لا التفوّق التقني وحسب بل التفوّق الثقافي أيضاً. فالتكنولوجيا تصنعها الثقافة. تصنعها المعرفة والمعاصرة والحداثة. تشكلت ايديولوجيا، على هذا الأساس، ترفض الثقافة الكونية المعاصرة وتقبل التكنولوجيا المستوردة. ولا تدرك أن هذه التكنولوجيا المستوردة تولد بعيداً عن الدين. لها ثقافتها الخاصة على غير ما أراد الدين. صار للتكنولوجيا قداسة خاصة بها غير القداسات الدينية التقليدية. أصيبت نتيجة ذلك هذه المجتمعات الإسلامية بالانفصام. وصارت للمجتمعات الإسلامية شخصية أخرى، أو ثقافة أخرى، بجانب الثقافة التقليدية. وإن لم يحدث الاعتراف بها. شل هذا الانفصام المجتمعات الإسلامية وأقعدها عن التقدم، والحداثة، والتطوّر المتوازن، بدل النظر الى الأمام. وما زالت الأبصار مرتدة الى الوراء. فمن جملة الوراء الماضي الإسلامي وغير الإسلامي. فعادت الاعتبارات الامبراطورية، وكأن القوميات داخل المجتمعات الإسلامية عادت للجاهلية ولأحلام امبراطورية من الماضي السحيق، ولا تمت بصلة الى العالم المعاصر. الانفصام أدى الى شلل هذه المجتمعات وسقوطها في ركود فكري وسبات الوعي. لا يدركون أن استيراد التكنولوجيا ونمو انتشارها بمعزل عن الثقافة الموروثة والسائدة في آن معاً، يؤديان الى انفصام داخل المجتمعات الإسلامية وحروب أهلية داخل كل ذات فردية. الفاشية الإسلامية حصيلة نوع غير متوازن في المجتمع، ناتج عن انفصال التكنولوجيا عن الثقافة، والمعرفة الحديثة عن الدين.

في المجتمع الواحد ثقافة تقليدية غير معنية بالمعاصرة، وثقافة “حديثة” معنية بالتكنولوجيا والثقافة الناتجة عنها. ليست التكنولوجيا محايدة (passive) بل هي تؤسس لثقافة حديثة لا تمحو الثقافة التقليدية بل تجلس بجانبها. ففي عقل كل من المسلمين ثقافتان لا تريدان الاختلاط والامتزاج والدمج، بل الانفصال والانفصام! العقل الذي أنتج التكنولوجيا في الغرب لم يدع الدين وشأنه بل غيّره وأخضعه للسياسة وأتبعه للدولة؛ والعلم الحديث، وهو قاعدة خرجت منه التكنولوجيا، وضع حدوداً للعقائد والطقوس الدينية. لا تستطيع أي ثقافة أن تمس بالإيمان لكنها تستطيع تدمير العقائد والطقوس إذا أراد أصحابها. العقائد الدينية في المجتمعات الإسلامية تهدد الإيمان وما تزال صامدة ترعى الانفصام الثقافي. ذلك في أساس الشلل الفكري والتأخر اللذين تعاني منهما هذه المجتمعات.

فقدت المجتمعات الإسلامية وحدتها الداخلية القائمة على اندماج الروح بالحياة اليومية واتحاد الثقافة مع العلم الحديث. صارت الثقافة الموروثة في مكان ما، جامدة كأنها في ثلاجة، بينما الحياة اليومية تسيطر عليها تكنولوجيا مستوردة تنتج ثقافة أخرى. انفصام؛ إذ هما في خطين متوازيين لا يلتقيان. ذلك أيضاً انفصام في كل فرد في هذه المجتمعات. ربما نجد في هذا الانفصام تفسير للتأخر بل الشلل الفكري الذي يعيق التقدم.

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق