القتل بالدولار!


 

طلال سلمان

جاوز الدولار الثمانين، حماه الله من العين، والعمر كله إن شاء الله للدولار والدولاريين الذين يقصّرون من أعمارنا ليزيدوا في عمره… وفي أرصدتهم السمينة في مصارف الغرب!

وفي تقديرات الخبراء، كما في تخطيط حكامنا وقادتنا الميامين، إن الدولار سيواصل قفزاته نحو المئة، وربما جاوزها، لأن القفزة بعد الآن ستصير “عشرة، عشرة” وكانت من قبل درجة ثم اثنتين اثنتين ثم خمسة خمسة.

وبغير أن يكون واحدنا خبيراً في الاقتصاد فإن الممكن أن يعرف أن الزيادة في سعر صرف الدولارهي – بالضبط – معادل النقص في قدرته هو على العيش.

وأخطر من هذا : إن الدولاريين لا يلتهمون رغيف اليوم، واليوم نفسه فحسب، بل هم يلتهمون أساسيات مستقبلنا.

فالأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيش تجاوزت بمخاطرها الداهمة المواطن وشؤون حياته وأحلامه في مستقبلهن لتصيب الوطن نفسه.

لقد عجز هذا المواطن ، بداية، عن الاستمرار في تعليم أبنائه في الخارج، ثم عن تعليمهم في ما اتفق على اعتباره الجامعات والمعاهد والمدارس الراقية.

وعجز، تدريجياً، عن الاستمرار في عيش حياته بالطريقة التي تعودها بدخله “القديم”: ألغى بعض عاداته وبعض متطلبات حياته، ثم أضاف إلى لائحة الكماليات الكثير مما كان يعتبره من قبل بين الأساسيات، شطب على الصداقات المكلفة، توقف عن السهر والأكل خارج البيت، وعن دعوة الآخرين للسهر عنده، استغنى عن الكتاب والصحيفة، أوقف أو باع السيارة الفخمة والمكلفة (هذا بالنسبة للميسور)، أما غير الميسور فعاد صاغراً إلى الأوتوبيس أو إلى السرفيس، ومن لم يعد اليوم سيعود غداً، تحايل على متطلبات البيت والزوجة والأطفال الخ…

على إن هذا كله لم يفده، إذ أن تدهور الليرة لم يتوقف عند حد، وهكذا استمر دخله في التناقص، على رغم زيادة صفر أو أصفار إلى يسار الرقم الأصلي، وصارت المفارقة فاقعة: كلما زادت الأصفار زاد عجزه عن توفير مستلزمات العيش، ناهيك بضمانات الغد،

أما اليوم فالأزمة الاقتصادية تساهم جدياً في “فك” مقومات” الوطن، نفسه،

لقد كان المواطن يفترض أن مشكلته مع نظامه هي مشكلة سياسية مرتكزها ومنطلقها اقتصادي (الحقوق، مطالب الإصلاح ورفع الغبن، العدالة في توزيع موارد الدولة، الإنصاف في الوظائف وفي توفير فرص لتقدم والازدهار للمناطق، توفير الضمانات لمحدودي الدخل وصغار الكسبة من العمال والفلاحين والموظفين، وحتى للشرائح الدنيا من الطبعة المتوسطة).

أما اليوم فيحس المواطن أنه قد خسر بعض الأرض وكل الدولة والعلاقات الطبيعية بينه وبين سائر المواطنين، وبقي له النظام إياه وقد خسر كل بريقه الخلب فلم يتبق منه إلا إفرازاته القاتلة: الحرب الأهلية والليرة المهلهلة والجواز سيء السمعة!

والأهم إن المواطن افتقد الأمان، بمعناه العميق والشامل، في هذا الوطن، أمانه اليوم وأمانه في الغد وفي مواجهة عاديات الزمان.

صار الوطن ذكريات واختفى في مهجع الأحلام لأن المتبقي منه على الأرض يتبدى له في صورة الكابوس… ومنطقي والحالة هذه أن يحاول الهرب منه، إذا توفر له ثمن تذكرة السفر وتأشيرة إلى أي “جهنم أحمر” في الأرض، على حد تعبير صديقنا الأرمني!

جزء من مقال نشر في جريدة “السفير” بتاريخ 27 كانون الأول1986

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق