جبان في مواجهة الفساد

 


نصري الصايغ


لنفرض أنك وقعت على ملف يوثق بالوقائع والأفعال والأسماء، حالات فساد وارتكاب، فماذا تفعل؟
أو فلنفرض أن «عصامياً» ما قصدك ليطلعك على شبكة فساد يشارك فيها مهربون وسماسرة وشرطة وجمارك وقادة و… حتى مرجعيات سياسية ودينية نافذة، فماذا أنت فاعل؟
أو فلنعتبر أن «خبيراً» أمضى حياته في الإدارة اللبنانية، ونقل إليك يومياته الموثقة بالشهادة والإضبارة الموقّعة بالأختام، وسلّمك نسخاً (فوتوكوبي) عن صفقات وعمولات وأوامر صرف مخالفة للقوانين، تبلغ بالمليارات، فكيف تتصرف؟
أو، وهذا ممكن الحدوث، ولو نادراً، أن يحمل إليك مسؤول، عذّبه «ضميره»، بعد طول صمت، خريطة، مدعمة بالوثائق، عن تلزيمات ومشاريع وشق طرقات وإنشاء جسور وبناء مدارس ومستشفيات بأضعاف كلفتها، وأن مرتكبي هذه الجرائم المالية، يبشرون بالعفة ونظافة الكف ونصاعة الجبين، فماذا أنت قائل؟
أو، وهذا قد حصل مراراً، أن علمت أن حَمَلَة الدفترين هم الأكثرية الساحقة من أصحاب الأعمال وأرباب المال وزعماء السياسة وقادة الطوائف، والمرجعيات الروحية، وأفاضل القوم، وسلالة الأشراف، وهم الحاكمون بأمرهم في السياسة والأمن والاقتصاد والمال و«التنمية» والبيئة، فإلى أين تقودك معرفتك؟
أو، إذا جاءك قاض ما، صادق صدقاً مبيناً، تدل عليه حالة فقره وعوزه وضيق ذات اليد، وزوَّدك بملفات لتحقيقات ولأحكام قضائية، تغطي ارتكابات مريعة مالية وأمنية، وأسباب ذلك، وخضوع هؤلاء لرؤساء ووزراء ونواب وعسكر وشرطة… فهل تجرؤ على النطق بذلك على الملأ؟
يقال: لبنان مغارة لكل هؤلاء. لكن أحداً لم يجرؤ بعد على المحاسبة. وأنا، من هؤلاء الجبناء الذين يفضلون الصمت والتمتع بالسلامة، والابتعاد عن ويلات هذه المعرفة، إذا…
[[[
التجاهل فضيلة في بلد قال عنه فؤاد شهاب قبل توليه الرئاسة: «كيف يمكن لتحكم هالشعب اللي عايش على السرقة والتهريب؟»
صدق فؤاد شهاب في خطأه الفادح هذا. صحيح أن الحكم مستحيل إذا كان الشعب فاسداً، ولكنه مأساوي عندما تكون السلطة وبطانتها وإدارتها وشرطتها وقضاؤها وأمنها فاسدة… فساد الشعب من فساد السلطة. الفساد لا ينبت من تحت. الفساد، جذوره من فوق.
فلبنان والفساد توأمان لا ينفصلان. ما نسمعه من تصريحات وتراشق مسؤولين واتهامات بالفساد، لا يعدو كونه زجلاً سياسياً، ومباراة لاستدرار المزيد من الفساد.
لبنان، عريق بفساده، غير أنه الاستثناء بين الدول التي تعاني من موجات فساد، بصيغ الجراد. تلك دول، تكون سلطتها فاسدة بمقدار، أو نظامها فاسد بمقدار، أما لبنان، فهو فساد له دولة وله نظام. والفساد عام وشامل ويخترق الحياة اللبنانية، بحيث إذا توقف الفساد، توقف لبنان عن الحياة والعمل. الفساد أصل في لبنان، والسياسة لا تعدو أن تكون إدارة لهذا الفساد.
على أن هذا الأصل، في بدء الكيان والاستقلال، كان هشاً، فتمّت العناية به على مدى عهود. وفي تلك العهود الاستقلالية الأولى، كان صوت الإصلاح يعلو أحيانا، على واقع الفساد، ولكنه ظل صدى. حزب الفساد هو حزب الشعب اللبناني الأول. وحده، يوحد اللبنانيين. ما عداه، يفرقهم شيعاً وطوائف ومذاهب وهيئات وخنادق في زمن الاقتتال.
[[[
بعض التاريخ مفيد: عرف عهد الشيخ بشارة الخوري، بطل الاستقلال، بعهد السلطان سليم، شقيق الرئيس، والمتصرف في الإدارة والمال والمراسيم، وفق منطق ان الدولة وماليتها، ملك خاص. ضج لبنان من السلطان سليم، ولكنه تغلَّب على الجميع… بشارة الخوري طوب أخاه سلطاناً، وأصدر مرسوماً يمنحه فيه امتيازاً للتنقيب عن المعادن وسواها في عوكر. أطلق يده ليتدخل في القضاء والشرطة والبلديات والمخاتير وتجميع القبضايات، أي البلطجية والشبيحة بلغة الربيع العربي… قال «حكيم» في ذلك العهد: «إيثار ذوي القربى شق للفساد والإفساد طريقاً».
عندما تولى عبد الحميد كرامي، الذي شهد له عصره بعصاميته، رئاسة الحكومة الثالثة في عهد بشارة الخوري، شعر أن لبنان ليس دولة بل مزرعة، ويدار بطريقة أصحاب المزرعة. ستة أشهر كانت كافية ليقتنع كرامي، بأن الانقلاب على الفساد هو الأولوية، دخل على بشارة الخوري وقال له: «فلنقم بتأسيس الدولة من الصفر، من جديد. فلتحل الإدارة ولنبنها على أسس الدولة… عبثاً. صاحب المزرعة رفض. استقال كرامي، ونما الفساد حتى أنتج «أفسد» انتخابات في تاريخ لبنان.
ما كان في عهد شمعون وعداً بالإصلاح، تحوّل إلى فساد منظم ومعمم وغير محتكر من قبل أهل السلطة فقط. فلقد عم في عهده الفساد واستشرى، واشتدت سواعد المحتكرين، وكان هؤلاء يستخفون بكل تدبير حكومي يتخذه المعنيون، لأن سيد القصر (شمعون) كان يبسط عليهم حمايته. أسماء «وطنية» لامعة أمثال بطرس الخوري، آل الصحناوي، آل غندور، آل فتَّال وسواهم، من الذين كانوا يمولون النواب ويسددون ديونهم ويقبضون ثمن ذلك اجتياحات لاحتكاراتهم… ومن آثار ذلك الاجتياح، استشراء الفساد في دوائر الدولة (دولة اللبنانيين الغلابى بالاسم) فشهد لبنان طفرة فيلات وقصور نبتت كالفطر، وأصحابها كانوا قضاة وضباط درك وجمارك ومفوضي شرطة وسفراء وملحقين ومهربين أشهر من نار على علم، يأمرون أهل السياسة وقوس العدالة، فيطاعون.
الدولة المرشحة في الأساس لرعاية شؤون ومصالح اللبنانيين والساهرة على حقوقهم، باتت بعض أجهزتها النافذة والمسيطرة، حامية للفساد. والروايات عن تلك الحقبة المزدهرة، تبدو نقطة في بحر الفساد السائد حاليا والمدعَّم من قبل طغمة، راكمت ثرواتها، من الفساد المنتج، لا غير.
في الزمن الشهابي، ازدهر فساد من نوع آخر، أطلق عليه «الأمير الشهابي» لقب «أكلة الجبنة». أما الفساد العسكري، فقد صاحب انتشار نفوذ المكتب الثاني وفساده… محاولة شارل الحلو الاصلاحية باءت بالفشل. تطهير الإدارة والقضاء، انتقائياً، خلّف له أعداء، فجاء من ينصحه بعدم الذهاب كل يوم أحد إلى القداس. (تقليد لحلو في أوائل عهده) لأن خصومه يعدون له مكيدة قد تودي به. أما الفضيحة، فكانت بعد افلاس بنك انترا، حيث ظهرت معالم الثروة على مدققي الحسابات والمحققين وبعض القضاة… ولم يخضعوا لمساءلة أو محاسبة. وكرت السبحة، فما كان محاطا بالكتمان، صار في الحرب وبعدها حكومات الميليشيات العسكرية والمالية أمراً معلناً… الفساد عندنا يسير مرتفع الرأس عالي الجبين مجللا بالاحترام ومقدماً في الاحتفالات على «خيرة الأوادم» من الغلابى الذين خدموا الدولة والناس بنظافة.
[[[
تحضرني قصة قاض فرنسي ختم حياته في سلك العدالة، كقاض تحال إليه قضايا الفساد. ولقد أتقن عمله وفق الأصول القانونية، ولم يتجرأ أحد على الاتصال به، بأية وسيلة متاحة. القاضي الحر يطاع ولا يطيع. عندما تقاعد هذا القاضي، انتقل إلى مزاولة أيامه عبر زيارة المواقع والأماكن، سيراً على الأقدام، وكلما رأى بلاطة أو إشارة إلى مشروع عقاري أو مؤسسة عمرانية يقول: تحت هذه البلاطة فضيحة مالية لم أكتشفها.
ماذا لو أن قاضيا، يطاع ولا يطيع، تجوّل في بيروت و«سوليدير» و«زيتونة باي»، وقصور أرباب السياسة والادارة والعسكر والأمن والدوائر الحلوب؟ ماذا إذا زار الكسارات، آكلة الجسد اللبناني من ذراه وحناياه؟ ماذا إذا عبر إلى القرى والمشاعات ليسأل عن… فلن يجد إلا الفضيحة، المؤيدة شعبياً، وفق انتظام مبرم بالطوائف والمذاهب.
نشرت مطبوعة قضائية في لبنان استفتاء أجري بين القضاة والمحامين، في محاولة لاستبيان آرائهم بالقضاة والمحامين. والمفاجأة، أن نسبة القضاة الذين يشكون بنزاهة القضاة، أكثر من النصف، أما المحامون، فحدِّث ولا حرج.
فماذا، والحال هذه، تفعل إذا وضعت بين يديك إضبارات تضبط الفاسدين بالوثائق المدعمة؟
من جهتي: لا شيء. سأكون شجاعاً في الدفاع عن جبني. لست جنديا ولن أكون، في محاربة الفساد. «البهورات» و«التشدقات» لا تنفع. أصحاب «الأيادي السود»، مؤيدون ومدعومون بأكثرية الشعوب اللبنانية، التي تعيش في الفساد وعلى الفساد وتستمر في الحياة بسبب تدفقات الفساد. الاقتصاد اللبناني منتعش بسبب انتشار الفساد. عقيدة الفساد أصلب من العقائد الدينية وأصلب من ماركس.
لا مفر لك من أن تكون فاسداً، أن تخضع لمنطق صرف النفوذ واستعمال الواسطة والتغاضي البنَّاء. كل ما هو «مرتجى» في هذه الحالة إصلاح الفساد، ليكون «فساداً عادلاً»، فلا يحصر الفساد ومنافعه في بيروت وضواحيها القريبة والبعيدة. فلتكن حصة المناطق من الفساد، وفق ما نصت عليه «وثيقة الوفاق الوطني» والقاضية بالإنماء المتوازن. ولبنانيا، هذا يعني، «الفساد المتوازن»، فلا تبقى مناطق محرومة من «نعم الفساد»، ولا تبقى بيروت والمدن الكبرى، محظية نظام الفساد والإفساد.
ان الطائفية رحم لا يخلف إلا سلالة الفساد والإفساد…
إذا ماذا تفعل إذا علمت بصفقة فساد؟
طبعاً لا شيء. بالأمس تراشق وزيران بتهم الفساد. معهما حق. عيبهما أنهما، باسم المواطنين الغلابى الغارقين في أنفاق بيروت والضواحي، فتحا معركة تصفية حسابات بينهما. طبعاً، لن يخسرا شيئاً. الخاسر هو من يتحمس لهذا وذاك. الصراع الطبقي بين الفاسدين، تدفع ثمنه الطبقات الوسطى والدنيا، التي تعيش على خيرات الفاسدين من فوق.
جبن بنّاء هذا الموقف. لأن محاربة الفساد، لن تسفر إلا عن ضحايا أبرياء. الفاسدون يربحون والأوادم يخسرون. عبث.
[[[
في احتفال رسمي فاخر جداً دعي إليه أعيان السياسة والاقتصاد والإدارة والـ… اقترب مني صديق وأعطاني ورقة صغيرة تحمل جملة وحيدة بلا توقيع: «عَرَقْ جْبِيني عم يوجعني».
خجلت من وجعه. خجلت من نصاعة جبين كثيرين، لا يزالون يأكلون خبزهم بعرق جبين ناصع… تساءلت عن جبيني وشككت به.
أجمل المكافآت، أفضل الجوائز، أن تشعر بالفعل، أن خبزك لا يلوثُ جبينك.
ربما، علينا أن نتمسك بهذا الوجع إلى يوم، يكون للبنان الدولة والمجتمع جبين ناصع.
سؤال: ألم يتأخر ربيع لبنان كثيراً؟

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 12 كانون الأول 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق