السنة حوض ثقافي والشيعة حزب دعوي والروح لدى كليهما محافظة


 

الفضل شلق


لماذا يتناقض الوجود السني مع كل تسييس للدين؟ وما الفرق بينها كأكثرية في الوطن العربي والعالم الإسلامي وبين الأقليات الإسلامية وغير الإسلامية الأخرى؟ ولماذا تتوقف السنة عن كونها السنة عندما تحدد نفسها، أو يحددها آخرون، بهوية سياسية؟ ربما كان الجواب ببساطة هو في كون السنة هوية حضارية، ووعاء حضاريا لا كيانيا أو حركة سياسية. الأقليات حتى ولو كانت في السلطة تعاني الخوف من تقلّب الظروف وتنتظم فيما يشبه الحركات السياسية. تصير الأقلية لا مجرد مذهب، بل يصير المذهب حركة دينية. السبب ليس الخوف وانما يختص بالأقليات. الكل يعيشون في مجتمع ودولة. والسلطة دائما ظالمة، والظلم موزّع على الجميع. عدد أهل السنة المظلومون، أي الطبقات الدنيا، هم في العادة أكثر معاناة لأنهم أكثر عدداً، والمظلومون فيهم (الطبقات الدنيا) أوسع مما لدى الأقليات. ليس الظلم والحرمان حكرا على طائفة أو مذهب. السلطة، كل السلطة، هي بالتعريف ظالمة لأكثرية الناس، مهما كان دينهم أو مذهبهم. الظلم يقع على الجميع، والأكثرية حظها منه أكبر. لا يمكن تحليل أو فهم الطائفية دون تحليل طبقي.
القول أن السنة وعاء ثقافي لا سياسي مرده الى أنها (أي السنة) تتشكل من مذاهب تنافست أو حتى تقاتلت فيما بينها عبر التاريخ لكنها في النهاية اندمجت واختلطت فيما بينها، حتى لا يكاد المرء قادرا على أن يعرف نفسه أو يحدد هويته المذهبية. وحتى صارت المحاكم الشرعية من مذهب والناس، في منطقة ما، من مذهب آخر. والناس لا يعرفون ولا يميزون. ليس في الأمر قصور فهم يدل على عدم اكتراث. لبنان في منطقة (بلاد الشام ومصر) شافعية السكان وحنفية المحاكم. رغم ذلك لا أحد يسأل أو يهتم للأمر. يساء الفهم قصدا أو عن غير قصد عندما يقال أن السنة مذهب. لم يفهم الأخوان المسلمون هذا الأمر، لذلك لا يفهمون، لا هم ولا الحركات الأصولية الأخرى، سواء كانت أقل تطرفا أو أكثر، أن السنة ترفض وتنكر تسييس الدين (ترفض الإسلام السياسي) وتبقيه على الأطراف. وإذا حاول الإسلام السياسي، لسبب أولآخر، أن يحكم فهناك مقاومة ضده حتى الحرب الأهلية. لسان حال أهل السنة هو السؤال “لماذا الحكم الإسلامي (تسييس الدين)”؟ هل هو كي تجعلوننا مسلمين مرة أخرى؟ نحن مسلمون وكفى. لا نحتاج إليكم. لذلك ما دخل الدين السياسي بلداً إلا وكانت النتيجة حرباً أهلية، هي في الغالب حرب الناس ضد الدين السياسي، وليس حرب الناس فيما بينهم. فرض العثمانيون المذهب الواحد (على صعيد القضاء الشرعي) ولم يبال المسلمون، وصار قاضي القضاء واحدا، حنفيا، بعد أن كان القضاة الأربعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي) يجلسون في الصدارة. في الوقت الذي ظهر الصفويون في ايران وتبنوا المذهب الواحد، (الإمامية الإثنا عشرية)، واحتاجوا الى كثير من العنف لتحويل الناس الى مذهبهم. ما احتاج العثمانيون الى شبيه ذلك العنف. على العكس، كانوا يخافون من جماعة تركمانية إمامية بين ظهرانيهم (القزلباش)، أما أروقة السلطة العثمانية فكانت مليئة بأبناء المذاهب المسيحية والإسلامية، ما عدا الشيعة الإمامية لخوف العثمانيين، بالأحرى لدواع الصراع مع الصفويين. حتى في الأطراف، في لبنان مثلا، كان الشيعة هم ملتزموا الضرائب.

الاستحالة عند السنة هي أن يكونوا مذهبا (هم خليط مذاهب)، حتى صار تعريف السني بانه مذهبي ينفي كونه سنيا. فالسنة بالنسبة إليه وعاء ثقافي لا أكثر ولا أقل. المجال أو العالم السني مليء بالتناقضات، ومنها أن الإسلام السياسي يتوسّع، أو يظن ذلك. ويحاول الوصول الى السلطة، ربما نجح في بعض الأحيان، لكن لفترات قصيرة.
تتنافى السنة مع صيرورتها كحركة سياسية. المذهب، خاصة عندنا، يكون أقلويا، وهو نادرا ما يكون غير أقلوي، وليس باستطاعته إلا أن يكون حركة سياسية. يحتمل المذهب تسمية الدين السياسي سواء كان مسيحيا أو إسلاميا. لا تحتمل السنة ذلك. يبقى الدين السياسي أو التطرّف على أطراف السنة، ويتجاوز حدوده المذهبية، أو حدود الأخرين المذهبية، لتشكيل تحالفات تتقدم فيها السياسة على الدين. لا يقرر التقارب أو التباعد بين إيران والاخوان المسلمين ما هو ديني بل ما هو سياسي. لا تحتمل السنة أن تكون “حركة سياسية”. وهذا ما لم تفهمه الحركات الدينية السنية كالأخوان المسلمين وفرق الإسلام السياسي سواء المتطرفة منها أو “المعتدلة”؛ ومن الصعوبة أن يكون هناك حركات إسلام سياسي معتدلة. السنة مجال ثقافي-حضاري، متقدما أو متأخرا، ويستحيل أن تشكّل حركة سياسية. عدم فهم هذه الاستحالة يؤدي بحركات الإسلام السياسي، من الاخوان المسلمين الى داعش، أي بجميع أطيافهم، الى عدم فهم مجتمعاتهم، وعدم الاستقرار فيها. لا يفهمون كيف أن هذه المجتمعات ثقافية-سياسية لا تجد ضرورة لأن يكون بين ظهرانيها وفي تركيباتها حركات إسلام سياسي وألا تُعتبر من أشباه الخوارج. ذلك تناقض منطقي عند الجمهور السني، ناهيك بالتناقضات العملية. تريد حركات الإسلام السياسي إدخالهم في الدين مرة أخرى، وهم يعتبرون أنفسهم مسلمين ولا ضرورة لأسلمتهم مرة أخرى. يتحدث دعاة الإسلام السياسي عن مقولة أن “هناك إسلام وليس هناك مسلمون”. معنى الأمر كما قال سيد قطب، هو أن المجتمع الإسلامي الآن هو في حالة جاهلية، أي حالة كفر. يرفض المسلمون السنيون أن يعتبروا أنفسهم كفرة. حمل منطق القطبيين فكرة الاخوان المسلمين الى نهاياته المطلقة والنهائية. فكان أن فجروا منطق الأخوان المسلمين. وعندما رد المرشد الروحي على سيد قطب تحت عوان “دعاة لا قضاة”، لم يناقض أسس التفكير الذي قام عليه الأخوان المسلمون. لم ينكروا تكفير المسلمين. أنكروا أنهم كحزب سياسي له الحق بالحكم على ذلك، وإلا صاروا كالخوارج قديما. هم الخوارج في عصر الحداثة. خوارج بحلة جديدة.
يتحدث أصحاب الإسلام السياسي، السني وغير السني، عن الإسلام الصحيح. غضب الكثير من الناس على أبي العلاء المعري حين قال: قل لعمرك ما الصحيح. كل دين صحيح بنظر أبنائه. وكل دين متنوّع بتنوّع الآراء زمنا بعد زمن. وتتنوّع في الزمن الواحد حسب الظروف الاجتماعية والسياسية. يتنوّع الدين باتساع رقعته الجغرافية والتغييرات التاريخية التي تحدث في مكان دون آخر. يحاول المذهب تثبيت الدين في رؤية، يحاول أن تكون واحدة موحدة. لا يصيب المذهب التغيير كما يصيب الدين. لكنه حتى الرؤية الواحدة للمذهب تتغيّر، إذا التطوّر عبر الزمن، أو ما يسمى التاريخ، أقوى من كل رؤية. يتحسّر الناس دائما على الزمن الخالي لأن الناس يحبون أن يبقى القديم على قدمه، لكن حظهم من الثبات غير ما يشتهون. الدين الصحيح هو ما يرونه صحيحاً من الدين. مع مرور الزمن وتغيّر الظروف والأحوال تظهر تفسيرات جديدة للكتاب الموحى به تعبّر عن رؤى جديدة.

المهم هو أن الدين السياسي يتعارض مع كون السنة وعاء ثقافيا، وهذه لديها مناعة ضد الدين السياسي. فإن فرق الإسلام السياسي تضطر الى البقاء على طرف المجتمع والى التطرف بسبب عزلتها وفشلها في معظم الأحيان. يُحاكم الإسلام السياسي ويُضطهد أو يُعارض كما في مصر وتونس، ويعاني مشاكل جمة مع البيروقراطية في تركيا، وهم على طريق النهاية في المغرب. لكن الإسلام السياسي يحاكم غيره في إيران. والإسلام المتشدد هو الذي يحكم إيران منذ أربعين سنة، وهو لا يستطيع التمدد في البلدان الإسلامية الأخرى إلا بتحويل سكانها أو غالبيتهم من مذهبهم الى المذهب الشيعي. هو كمذهب حركة سياسية في إيران، وهذه الحركة السياسية تحكم البلد. الإسلام السياسي في البلدان ذات الأكثرية السنية يعاني معارضة شديدة من المجتمع والنظام. في هذه البلدان الأخيرة يعيش الإسلام السياسي على هامش المجتمع. إذا تطرّف فيكون ذلك بسبب مناعة المجتمع ضده، وتناقضه مع أسس الإسلام كما يؤمن به هذا المجتمع. يتصلّب تطرفه بمقدار فشله في التعامل مع مجتمعه. لا يستطيع التطرّف التعامل مع مجتمعه، ولا يستطيع أصحابه فهم هذا المجتمع. ما قيل عن بيئة حاضنة يجانب الصواب.
ما نحسبه عزوفا سياسيا لدى المجتمعات السنية هو ليس إنكارا للسياسة بشكل عام بل إنكار للحركات التي تحوّل الدين الى مذهب ثم الى حركة سياسية. يخاف السنيون من أفكار حركات الإسلام السياسي لتدينهم. يجزعون من اعتبار اسلامهم غير صحيح ومن وضع معتقداتهم أمام الامتحان. يتلاءم الإسلام السياسي مع المجتمع الديني الشيعي. حتى المملكة العربية السعودية التي تبنت المذهب الحنبلي وقامت على الإسلام السياسي منذ نشأتها تضطر الى التغيير إذا أرادت أن تتنافس مع إيران وتتناسب مع الإسلام السني كوعاء ثقافي، وبالتالي الى التخلي، ولو تدريجيا، عن المذهب أو تخفيف حدة تبنيه، إذا أرادت التماهي مع المجال السني. ما يحدث في السعودية هو فشل الإسلام السياسي، بينما يتأكد الإسلام السياسي في إيران. تتطلّع السعودية الى دور قيادي في الحوض السني الثقافي، لكنها لا تستطيع تحقيق ذلك مع تبني المذهب الواحد. تبني المذهب الواحد، سواء كان سنيا أو شيعيا، يتعارض مع كون المجتمع السني حوضاً ثقافيا لا سياسيا. المجتمع السني لا يقبل إلا التعدد وإلا يبطل أن يكون سنيا. تحوّل الإسلام الى المذهب الواحد في إيران وألغى التعددية. وهذا لا يعني المقارنة بين ديمقراطية هنا وانعدامها هناك. في كل من البلدين الحكم غير ديمقراطي.

ربما كان هذا ما عناه وائل حلاق في كتابه حول استحالة قيام الدولة الحديثة في المجتمعات الإسلامية كلها، سواء كانت شيعية أو سنية.  لكن التعددية في مجتمع ما أمر يسمح بالسياسة. انعدام التعددية يلغي السياسة. على قاعدة السياسة تقوم الدولة الحديثة. التعددية ذاتها، ومهما كانت، تسمح بالحوار والنقاش والتسويات وتراكمها. وهذه الأمور هي في أساس الدولة الحديثة. لا دولة حديثة يمكن أن تقوم مع حكم أصحاب العمائم. وإذ أتى أصحاب العمائم الى الحكم في أفغانستان فإنهم سيلاقون معارضة مجتمعية شديدة، ربما قادت الى حروب أهلية. وذلك لأن طالبان حركة إسلامية، تتبنى أو تنشئ مذهباً في الشريعة بطريقة معينة، مما يقود الى فرض المذهب الواحد أو قيام مذهب جديد، والذي بالضرورة لا يستقيم أمره مع مجتمع متعدد المذاهب والإثنيات. سيكون على أفغانستان الاختيار بين المذهب الواحد، وهذا يعيدها الى القرون الوسطى، أو التعددية المذهبية والسياسية، وهذا يتناقض مع أساس وجودها ويقود الى إلغائه. متطلبات حركة التحرر الوطني بالتعبئة الكلية التي تضطر إليها تتناقض مع ضرورات حكم الاستقلال. حركة طالبان أمام اتجاهين، إما أن تتلاشى أو تغيّر الأسس التي قامت عليها، أي تغيّر نفسها. هذا أمر مستبعد. ستكون الحرب الأهلية مصيرا محتملا، وهذا ما لا يتمناه المجتمع الأفغاني. يصعب في مجتمع سني الأكثرية تبني الشريعة كأساس للحكم، لأن التعددية ذاتها تفترض عدة رؤى وتفسيرات للموحى به. تعدد التفسيرات يعني أن أمامنا شرائع. فهل سوف يختار الأفغانيون أم سينشؤن مذهبا جديدا، شريعة جديدة، لتثبيت حكمهم؟
ليس في الأمر مفاضلة بين سنة وشيعة، بل هي محاولة لفهم ما نحن عليه. كل منهما تغلب عليه روح المحافظة والتقليد والسكن في الماضي وعدم الخروج الى التاريخ.  تبرز الروح المحافظة عند السنة في العزوف السياسي (جزء منه رفض الناس للإسلام السياسي في الانتخابات البرلمانية عامة). هذا العزوف المتمثّل في شعار تطبيق الشريعة الذي لا يعني أكثر أو أقل من الإصرار على البقاء في عصر ما قبل الحداثة. أما العزوف السياسي فهو عند الشيعة متمثّل بولاية الفقيه؛ المفهوم الذي يجرد الجمهور من الصلاحية السياسية ويجعل الجميع مسلوبي الإرادة. هذا الفريق يسلب إرادته بنفسه، وذاك الفريق تجرده قيادته من السياسة. يلتقي الفريقان في التمسّك بالعزوف السياسي مهما بدا المشهد على أطراف وهوامش السنة ومهما بدا الأمر في نشوء تنظيمات الإسلام السياسي كالحرس الثوري أو غيره لامتصاص إرادة الجمهور وتوجيهها الى نضالية عبثية لا تنتج عنها سوى مزيد من الحروب الأهلية. العزوف السياسي بأشكاله المختلفة لدى السنة والشيعة يعني استنزاف الروح عند الفريقين وتوليد العجز عن مواكبة العصر، لا الخروج الى التاريخ بمواكبة العصر. مواكبة ثقافية بالدرجة الأولى. إن شعار تطبيق الشريعة عند السنة وشعار ولاية الفقيه عند الشيعة يشكل كل منهما اعتداء على العقل الجمعي واعتبار أن المجتمع لا يستطيع أن يمارس ولاية نفسه وأنه بحاجة الى شريعة من الماضي وولاية فقيه من الماضي القريب للحلول مكان ممارسة الشعب للسياسة والتعبير عن إرادته. كل منهما اتجاه استبدادي. كل ما يجرد الناس من إرادتهم هو استبداد.

أنتج اندماج المذاهب السنية وإنتاج حوض ثقافي، أو مجال ثقافي لا سياسي، عزوفا سياسيا. كما أنتجت النضالية عند نظام الملالي عزوفا سياسيا مشابها عند الشيعة. في الحالتين يتخلى الجمهور عن السياسة وعن التورط في إدارة شؤونه إما عن طريق طرح مبدأ تطبيق الشريعة عند السنة أو عن طريق نيابة ولاية الفقيه عن الجمهور. يعاني المجتمع (المجتمعات) الإسلامية هزيمة داخلية. يحاول البعض إظهارها وكأنها انتصارات “مقاومة” حينا وأعمال انتحارية حينا آخر. كل ذلك يعبر عن هزيمة داخلية. هزيمة في الروح وتراجعا عن العزم وعجزا عن بناء الدولة هنا وهناك. دولة يكون الناس فيها “صناع القرار” وليس مجرد صورة مزيفة عن ماض متخيل. المواطن والمواطنة في أية دولة هما الوجه الآخر للدولة. الدولة الحديثة تتشكّل من مواطنين في صنع مصيرهم ومصير مجتمعهم. الهزيمة هي أن تقليدا من العزوف السياسي بأشكاله السنية والشيعية يقف حاجزا ذهنيا في وجه بناء الدولة الحديثة. الدولة الحديثة ليست سلطة أو نظاما، يُفرض بالشريعة أو ولاية الفقيه، بل هي انخراط في المجتمع والعالم. انخراط في المجتمع ليصير مجتمعا سياسيا. انخراط في العالم لتبني الحداثة والخروج من التقليد. العزوف السياسي، التقليد والغرق في الماضي، إبعاد الجمهور عن الانخراط في تقرير مصيرهم، الموقف السلبي من الغرب على أساس ثقافي، كل ذلك هو في جوهر العجز، وفقر الروح والهزيمة. هل من حاجة للقول أن هزيمة المسلمين داخلية، في وعيهم، ومن صنع أيديهم؟ مواجهة أميركا والغرب عموما لا تكون بجماهير منهكة مسلوبة الإرادة. والآن كما يبدو، هي على حافة الجوع ونقص الماء وفقدان السيطرة على الموارد الطبيعية.

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق