الحاج سامي طلال.. ذاكرة عصيّة على النسيان

 سامي طلال

وكالة القدس للأنباء – محمد حسن

حنى الزمن والغربة ظهره، لكن ذاكرته لم تنحن ولم تغرب عن حب فلسطين، يمشي متكئاً على الجدران، يجول على أصحابه يتفقد أحوالهم ويجالسهم، يفتحون دفاتر طفولتهم الجميلة عندما كانوا في أراضيهم وحقولهم ومنازلهم المسلوبة من عصابات الاحتلال الصهيوني.. أنه الثمانيني سامي حسين طلال (أبو حسين) من بلدة سيل الحارثية قضاء جنين، الذي ما زال يحتفظ بمفتاح بيت جده والكوشان (ورقة طابو من المختار)، وكله أمل أن يرجع يوماً إلى داره.

أساله عن فلسطين.. يتنهد بعمق ويجيب: "يا ريت أرجع وأموت فيها، أنا ما بدي بنايات وأملاك، كل اللي بدي إياه بيت جدي اللي تربينا فيه أقضي باقي عمري".

طيب يا جدي أنت ليش طلعت ؟.. "أجا ناس عنا عالبلدة وصارو يقولوا "الإسرائيليين" عم بعملوا مجازر بالأطفال والكبار والنساء.. أهربوا بأولادكم وعائلاتكم إلى حين مقاومتهم وكنسهم عن أراضينا.. وبالفعل أبي في تلك اللحظة أتى فينا إلى لبنان، حيث منزل عائلة أمي في بلدة القليلة الجنوبية.. ومنذ ذلك الحين ونحن نترقب العودة، كبرت أنا وتجوزت وأنتقلت للعيش في مخيم الرشيدية، وكان الحنين للوطن يكبر معي، بل يزداد عمراً أكثر مني".

صمتنا قليلاً، لكن أريد أن أعرف منه أكثر عن فلسطين، فسألته عن تاريخ تهجيره فأجابني بالتاريخ واليوم والساعة، أي أنه حافظ أدق التفاصيل، فأصابني الذهول كيف لشخص غير متعلم أن يحتفظ بهذه التواريخ !، عندها ضحك جدي وقال: "عقلي كمبيوتر أسألني عن أي تاريخ يخص بلدي أجيبك، حيث أن ذاكرتي ممتلئة بهويتي"، وهنا بدأت أسأله عن تاريخ النكسة والانتفاضة الأولى والثانية وحرب أكتوبر.. ألخ.. عله يغلط بأجابة فأضع عليه واحدة، إلا أنهُ أفشل "أفخاخي" وأجاب عن كل أسئلتي، أدركت حينها أن تاريخ الوطن لا يكتسب عبر الدراسة فقط، بل أنه محفور في ذاكرة الكبار، ويأبى تقادم الزمن أن يمحوه.

يحمل جدي في جيب قميصه دفتراً صغيراً، يضع عليه أسماء أولاد عمه وأقاربه في بلدته المحتلة، يجول على منزل بناته، يطلب منهم ومن أحفاده البحث عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن منزل جده وأقاربه والمناطق التي بذاكرته.. فحين يرى بلدته عبر شاشة الموبايل يبتسم ويشعر نفسه أنه بفلسطين، ويبدأ بالحديث والسعادة تغمره عن مناقب الحياة هناك، وكيف كان يقضي وقته مع عائلته وأصحابه.

استطاعت خالتي بمشيئة القدر أن تتعرف على أحد أبناء عموم جدي، واتفقت معه على لقاء عبر خاصية الفيديو، وبالفعل تم اللقاء وحضر جدي، وبدأ يقول له أقترب من المكان الفلاني ثم توجه إلى ذلك المكان، ويسرد معه التغييرات الحاصلة، وعندما ذهب لبيت جده هنا كان الحنين الأكبر، شعرت وكأن جدي ولد من جديد، فأعاده المنزل إلى ذكريات طفولته.. نظرت إلى عينيه شعرت وكأني أول مرة أراهم من شدة بريقهم، وتجاعيد السنين التي على وجهه تلاشت، وختم كلامه جدي بتوصيته على المنزل والأرض وحفظ الأمانة لحين العودة إلى ديارنا المحتلة.     

أنها الحرب بين الذاكرة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، فالعدو استطاع أن يحتل الأرض، لكنه فشل في شطبها من ذاكرة أصحابها، فهذا التصميم وهذه الإرادة بقيت من أقوى الأسلحة التي نواجه فيها زيف العدو وتزويره للمستندات، لتقديمها للرأي العالمي زوراً بأنها ملكه، لكن الحقائق الدامغة وذاكرة الكبار والصغار تدحض كل هذه الافتراءات.

تمسك اللاجيء الفلسطيني بهويته وتراثه وتاريخه سوف يُفشل كل مشاريع الهيمنة والتهويد، ومهما دفع الملايين من الدولارات للحصول على الكواشين الفلسطينية لن يفلح، ففوق كل ثرى فلسطين الممتد من النهر إلى البحر أجيال قادرة على حماية القدس والمسجد الأقصى وكل شبر مضمخ بدم الشهداء، فأرضنا كما أكد هذا الجد المسن، غير قابلة للبيع أو القسمة أو المساومة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق