انهيار السلطة وتماسك المجتمع

 

علينا أن نفهم كي نقرأ. في لبنان يصعب الفهم برغم كثرة اللغو. أصبحت اللغة لغواً! حلت التعمية والعشوائية مكان التواصل، واللغو مكان اللغة. لا عجب أن تعبيري “لغة” و”لغو” لهما جذر واحد، أو كل منهما مصدر لفعل واحد. مثال حول أن الفعل الواحد يمكن أو يقود لمعنيين مختلفين. الأضداد في العربية كثيرة. وهي في لبنان مؤذية وكثيرة. المعنى الذي يقصدونه غير ما يضمرون. أو أنهم يقصدون أن لا يفهم الناس.

يستخدم تعبير الطائفة للجمع والتعاون على صعيد الجماعة، بينما هي، الطائفة، تعبير للتفرقة على مستوى الوطن والدولة. كلمة طائفة تحمل المعنيين المتضادين عندما تستعمل للجماعة والوطن. وهي ربما تؤدي معنيين متناقضين ضمن الطائفة الواحدة، الجمع والتوحيد أو التفرقة والتمزّق. هي في النهاية لا تعني إلا التمزّق والتجزئة. الدولة هي التي تحمل معنى التوحّد والجمع. الدولة تفعل ذلك بالسياسة. الطائفة تلغي السياسة.

تحمّل الطائفة حقوقاً لها على الدولة. تعني السياسة حقوق المواطنين على الدولة. تعني الطائفة حقوق جماعة منفصلة معزولة على الدولة وحتى على المجتمع. السياسة عكس ذلك تماماً. كل طائفة تعتقد أن لها منة على الدولة، واحدة باسم التأسيس، أخرى باسم المحرومين والحق، وأخرى باسم الرحابة والاتساع؛ “أم الولد”. الموارنة لم يعودوا مؤسسين، إذ الدولة تقادمت بفعل مرور الوقت عن التأسيس. الشيعة لم تعد صفة المحرومين تميزهم؛ كل الشعب إلا حفنة من أصحاب المال المهرب والمستلب صار محروماً؛ “أم الولد”، الطائفة المحسوبة على الدولة صارت الأكثر انعزالا بفعل كربلائية قتل رفيق الحريري. هناك في آن الأرمن، وقد صارت لهم دولة قومية في أرمينيا، يفهمون معنى الطائفة والانعزال في لبنان. الأرثوذكس استلب الموارنة مسيحيتهم. فاعلية القرن التاسع عشر وتجربة الأحزاب في القرن العشرين صارت تهمة بدل أن تكون عنصر انفتاح. لا يعرفون كيفية الجمع بين ايديولوجيات متناقضة والأساس الطائفي لوجودهم كلبنانيين. الدروز يعيشون في غير زمانهم. أمراء فقدوا أقنانهم. كل طائفة تعيش في خواء كامل. فراغ يبدأ في الدماغ. يفرز الوعي. يصير خطراً على الذات وعلى الدولة.
في العمق، تعتبر كل طائفة أن لها حقاً على الدولة. يتحدث اللبنانيون دائماً عن الدولة وكأنها غير موجودة. ألا يستجيرون بها عند وقوع كل كارثة؟ وما أكثر الكوارث. أصبحنا هواة كوارث، بل حرفيين في هذا الكار، كار افتعال الكوارث والأزمات. إذ كل طائفة تفتعل أزمة وطنية ما، أو كارثة ما، دون اهتمام للأضرار الناجمة. لأن الطائفة في العمق لا تعنيها الدولة، ولا حتى الوطن؛ كل ما يصيب لبنان نتيجة أزمة أو كارثة تفتعلها هي، وتقع النتائج على الآخرين لا عليها هي. أصبح معنى الطائفة إلحاق الأذى بالطوائف الأخرى. في لغة التخاطب بين اللبنانيين، كثيراً ما يلفظون تعبير “اخواننا” لا الطوائف الأخرى. لكن المعنى المضمر هو “أعداؤنا” من الطوائف الأخرى.

شدة إضمار العداء للطوائف الأخرى أدت الى ظهور تعبير جديد في لغو الخطاب اللبناني، وهو الميثاقية. هذا الاختراع لم يستخدم منذ تأسيس لبنان حتى تنصيب وصاية على العرش. حتى تعبير الميثاق الوطني الذي اجترح في 1943، عند الاستقلال، كان وصفاً لخطاب رياض الصلح الوزاري في أن لا يكون لبنان ممراً أو مقراً. هو مجرد خطاب وليس ميثاقاً. ليس هناك ميثاق، أو ما يفهم منه عقد اجتماعي بين اللبنانيين سوى العداء لبعضهم البعض.

عندما حدثت ثورة 2019، كان الانجاز الرئيسي هو تحقيق فعلي لهوية موحدة وطنية لبنانية فوق الهويات الطائفية: هوية واحدة للجميع، لبنانية جامعة، فوق الهويات الطائفية التي حوّلت لبنان الى أشلاء. كانت جريمة تفجير المرفأ وما حوله صدمة هائلة. ليس فقط بحجم الحادثة التي شملت نصف بيروت، وآثارها النفسية شملت كل لبنان، بل حتميتها وضرورتها، كأنها من أجل أن يعود اللبنانيون الى “رشدهم” القديم وعوايدهم القديمة. العودة للطائفية بأبشع ما تعنيه الكلمة.

الثورة حدث يقع في وقته وينتهي في وقته. هي انفجار أو زلزال اجتماعي. ليس لها برنامج ولا يُفترض أن يكون لها برنامج، لأنها انفجار وغضب يدمران الوعي السائد. بهذا المعنى الثورة لم تفشل بل نجحت. نجاحها لا يدركه الذين همهم التحليل اليومي. لذلك كان ضرورياً افتعال الأزمات المتلاحقة من قطع الكهرباء، الى الرغيف، الدواء، المحروقات، بعد مصادرة الودائع. إفقار اللبنانيين وتحويلهم الى متسولين للمساعدات أو البطاقة التموينية أو الكابيتال كونترول أو ترشيد الدعم. كل ذلك كان ضرورياً لتدمير الروح وكسر الإباء وتلويث الشرف وإذلال الناس ليقفوا في الطوابير مذعنين لما قد يأتي أو لا يأتي. إخضاع اللبنانيين بالطابور، إيقافهم على لائحة الانتظار، تشليحهم القدرة على الفهم والفعل، ثورة مضادة بجميع أبعادها. لم يعد للناس حق في عيش كريم. يجب أن يتخلوا عن ذلك، وعن المطالبة به. لهم فقط حق بسد الرمق.

كما كانت الأقنعة للوقاية من انتقال الكورونا وسيلة لكم الأفواه، فالطوابير لشراء مستلزمات الحياة الضرورية لسد الرمق والبقاء على قيد الحياة هي أيضاً ضرورية لإخضاع الناس وترويضهم على القبول بما تقدمه لهم السلطة. غالباً، ما يقفون في الطوابير، وعندما يصلون الى نهاية الصف، يجدون إما أن المواد قد فقدت أو أنها مغشوشة. معنى ذلك أن الناس لن يصلوا الى النهاية التي يرجونها، بل الى النهاية التي تريدها السلطة؛ وهي أن كل شيء سراب. قبض أصحاب السلطة على واقع الناس، وعلى أموالهم، وعلى وسائل معيشتهم، وعلى وعيهم. لم يبق لهم سوى السراب. مهما فعلوا لن يجدوا سوى الإحباط والفشل في تحقيق أهدافهم. السلطة تحقق ما تريد والمجتمع يفشل تماماً. تدعي السلطة أنها برلمانية لتمثيل الشعب إلا أنها في حقيقة الأمر وسيلة تعذيب وتشفي بالناس.

رفع الدعم، ترشيد الانفاق، ترشيد الموازنة، البطاقة التموينية، الحملة التطعيمية، تلقي المساعدات بشكل مستشفيات، أو ما يفيد الجيش والقوى الأمنية، كلها وسائل تشفٍ من الناس بعد أن انكسر كبرياؤهم. سادية لا حدود لها. أطراف السلطة ينعمون بالأموال المنهوبة والمهربة، والمجتمع يئن تحت وطأة الجوع. لم تعد مسألة تعذيب في سجون السلطة، وقد حصل الكثير من ذلك لحد القتل، بل هو التعذيب الجماعي. وضع المجتمع كله في إطار اليأس وفقدان الأمل بالحياة. ليس فقط فقدان الأمل بحياة كريمة. مع الموجة الآتية من الوباء لن يكون بمستطاع الناس أن ينالوا الخدمة الاستشفائية ولا الدواء. صاروا أفقر من ذلك. صارت المستشفيات غير كافية لما سوف يحصل من كوارث في المستقبل، خاصة وأن الكثير من طواقمها الطبية والتمريضية قد هاجروا أو هم في طريقهم الى الهجرة.

حالة جديدة اضطر اللبنانيون على الاعتياد عليها، وهي أنهم حالة مرضية يعانون من الفقر المدقع، ويحتاجون الى المساعدة بالتمريض والبطاقة التموينية. تصادر أموالهم ويُتركون لتلاعب التجار والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية. كل نشرة أخبار مسائية تصوّر حياة مجتمع يتعذّب وسلطة، أو طبقة سياسية، تتلذّذ: نواب ووزراء وخبراء مال واقتصاد ومعلقون سياسيون يشرحون عن سهولة حل الأزمة. هو انهيار يا سادة، وليس أزمة. هو سلطة متحكمة وشعب ما عاد يلزم أن يكون موجوداً. ليس ما يجري تهديده هو الكيان اللبناني، بل هو الوجود اللبناني: وجود اللبنانيين.

حرب إبادة تقوم بها السلطة لا قوى احتلال خارجية. عندما ينتهك الدستور والقوانين اللبنانية، ويحكى بالميثاقية، ويتهم المجتمع بالفساد، وعدم الدراية وفقدان العقل وضياع الوعي وغياب برنامج المستقبلي، عندما يتهم المجتمع بجميع رذائل وقباحات السلطة، لا يبقى للمجتمع ضرورة. على المجتمع إما أن يهاجر أو يباد، أو يقبل صاغراً بعقد اجتماعي جديد. عقد لا ينبع من المجتمع بل تفرضه الطوائف؛ عفواً، أكباش الطوائف، وما يحوم حولهم من الطبقة السياسية والمالية. يفسّر تعبير “ما في دولة” الى تعبير “ما في مجتمع” الى “ما في ناس” أو يجب أن يكون “ما في ناس”، ثم أن يكون هناك ناس جدد.

ليس بالضرورة أن يُقتل الناس مادياً بل أن يتحوّل الوطن الى مخيّم. مخيم لاجئين في أرضهم. يتلقون مساعدات من مؤسسات دولة. الذين أصروا على السيادة في وجه صندوق النقد الدولي يرضون بفكفكة الدولة والمجتمع بالمفرق، ورفع الأسعار، وإعادة الهيكلة، وتدفق المساعدات الخيرية، لا الاعمارية ولا الإنمائية. تطبيق برنامج صندوق النقد من دون صندوق النقد. مولدات محلية في القرى والأحياء لخصخصة الكهرباء المركزية التي تخلت عنها السلطة. كميونات بصهاريح الى البيوت لخصخة مياه الشرب وغيرها. مصادرة أموال الناس. تعويم الليرة عن طريق الصرافين بدعم المصرف المركزي، التشليح بالمصادرة، تملك فردي للأملاك العامة من الأوقاف الى ممتلكات الدولة الخ… هذا كله ليس بسبب الفساد بل بهدف إيجاد “عقد اجتماعي جديد”. مجتمع جديد محبط مفلس فاقد الأمل ومكسور الجناح. فاقد الروح، فاقد الأمل بالمستقبل، مهدور الكرامة؛ هذا غيض من فيض، لكنه محتوى العقد الاجتماعي الجديد. يضاف الى ذلك تدمير القطاع التربوي لمنع قيام جيل جديد مفعم بالأمل والحياة والمشاكسة والمطالبة. جيل جديد يكون جوهره الاستسلام والخضوع.

لم يعد الخوف على أنفسنا، كهولاً وهرمين، هو الأولية لنا، بل الخوف على أولادنا والأجيال الجديدة. المستقبل ليل كافر. حتى الدين لم يعد وسيلة للاحتماء من مصائب الدهر. الدهر كله مصيبة، جائحة طاعون جماعي. الطاعون كورونا معاصرة.

يقولون إن الأمن ممسوك. خروق موضعية. لم ينجح في السلطة سوى وزارة الصحة. لم يبق إلا السلطة الأمنية لحماية السلطة السياسية والمجتمع. ربما حلت مكانها لأن الطبقة السياسية ألغت السياسة، ودمرت القضاء، وشاركت المصارف في نهب الودائع، فهل سيكون للناس خيار غير سياسي وقد يئسوا بالكامل من هذه الطبقة السياسية؟ هل تنقلب مهمة الجيش من مهمة الدفاع في وجه عدو خارجي الى مهمة الدفاع في وجه عدو داخلي؟

تجربة الحكم العسكري في غير بلدان لم تبشر بالخير. أما حال اللبنانيين الميئوس منها فقد تشجّع الناس على القبول بما لم يكونوا يتوقعونه أو يتقبلونه سابقاً. في نظر الناس، البلد يحتاج الى من يمسكه بقبضة حديدية. وهذه تعني حكماً عسكرياً. التجارب السابقة في لبنان غير مشجعة، إلا إذا تحوّل عسكري سابق الى مدني كما في العهد الشهابي. الرئيس الحالي يحاول تذكير الناس بماضيه العسكري، لكن ذلك لا ولن يفيده مع كثرة الأزمات والانهيارات التي حدثت في عهده. ما يريده الناس هو سلطة قرار. أي سلطة.

ما حدث في لبنان حتى اليوم هو انهيار السلطة وتماسك المجتمع. تغار السلطة والطبقة السياسة من المجتمع فتريد معاقبته. هذا الذي يبدو استسلاماً والوقوف في الطوابير هو بمثابة إعلان من المجتمع أننا سنحافظ على الوضع الأمني، مع بعض الحوادث المتفرقة والمفتعلة، وعلى أن الذي يجب أن يزول هو الطبقة الحاكمة برمتها. هي حرب بين السلطة والمجتمع. الطبقة السياسية تعرف مدى الخراب الذي أحدثته. تريد رشوة الناس ببضعة تشريعات. لكن هذه الطبقة السياسية على درجة كبيرة من الوقاحة والصلافة، وتستمر وكأن أمرا لم يكن. هي تعتقد أن الشعب يجب أن يزول أو يتغيّر باتجاه الاستسلام الكامل. والمجتمع، في المقابل، يعتقد أن الطبقة السياسية يجب أن تزول بالكامل. برغم المظاهر التي تشير الى غير ذلك إلا أن الصراع طبقيٌ، برغم بعض العلائم على غير ذلك.

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق